البلد الذي كان قبل عامين في قلب التحولات التي شهدتها المنطقة، باتت الأخبار التي تترى منه تنحصر في مواجهات تقوم بها كتائب ضد السلطة الجديدة، وعمليات اغتيال لشخصيات عامة بعضها شخصيات عسكرية، أو اضرابات في موانئ تصدير النفط، وهو الثروة الوطنية الرئيسة في البلاد، أو استقالات وإقالات لوزراء . إنها ليبيا، التي خرجت من عتمة حكم ديكتاتوري بالغ الفردية، إلى عهد جديد لم تتوطد أركانه بعد بالصورة المأمولة نتيجة جملة مشكلات قديمة وناشئة، رغم الجهود الحثيثة التي تبذلها السلطات . ومن الواضح أن هذا البلد يشكو من مشكلات بعضها “بنيوي” مثل استمرار كتائب مسلحة قاتلت حكم القذافي وما زالت تحتفظ بأسلحتها وتشكيلاتها، ومثل تحركات تقوم بها جماعات تنتمي إلى العهد السابق وتستغل الأوضاع الانتقالية لإشاعة المزيد من الفوضى، ومنها ضعف الإدارة الموروث، والتطلبات التقليدية لمجموعات قبلية خاصة في إقليم برقة، وعدم بسط الحكومة المركزية لسلطاتها على بعض أجزاء البلاد، وهو ما ألقى على العهد الجديد عبئاً أمنياً واجتماعياً جسيماً .
وثمة مشكلات ناشئة تتمثل في الصراعات الحزبية بين أحزاب نشأت بعد الثورة ومنها على الخصوص حزب الإخوان المسلمين: العدالة والبناء، وتحالف القوى الوطنية وحزب الوطن الذي يقوده رئيس المجلس العسكري لطرابلس وأحزاب أخرى، من دون أن تنشأ حالة سياسية حزبية ناضجة بالفعل في صفوف الجمهور . حتى إن جمهوراً غاضباً هاجم مقرات الأحزاب الثلاثة في بنغازي وأتلف محتوياتها أواخر يوليو/تموز الماضي، واعتبر هذا الجمهور أن وجود الأحزاب يضر بمصلحة البلاد، وذلك ربما في استعادة لا واعية لشعار القذافي: كل من تحزّب خان .
خلال ذلك، فإن ليبيا تتأثر بالأوضاع المتحركة لدى جارتيها مصر وتونس ثم الجزائر، وانتقال السلاح وانتقال مسلحين في هذه الظروف هو أمر متوقع، يزيد التوترات الأمنية هنا وهناك . كما يزيد التوترات السياسية، فقد ضغط حزب العدالة والبناء على الحكم الجديد عبر نوابه من أجل اتخاذ موقف يساند شرعية محمد مرسي في مصر، وهو ما رفضته السلطات التي أعلنت تمسكها بالحياد .
كان من أسوأ مظاهر الانفلات الاضرابات في موانئ تصدير النفط الذي خفض الصادرات النفطية إلى نحو 35 في المئة من الإنتاج والصادرات، وشهدت مرافئ رئيسة مثل السدر وراس لانوف والزويتينية أسوأ الاضرابات والانقطاع عن العمل، ما أدى خسارة مليون برميل من الناتج النفطي اليومي .
النقمة الموروثة على الحكم والميل إلى الفوضى كتعبير عن الاحتجاج والتوقف عن العمل، كما كان يحدث في العهد السابق، تجد امتداداً لها مع الحكم الجديد وبمناسبات عدة، كان أوضحها تظاهرات صاخبة شهدتها بنغازي احتجاجاً على عزم الحكومة إنشاء جهاز مباحث عامة، وهو جهاز لم يعد له وجود منذ سقوط حكم القذافي قبل عامين! وهو ما يفسر صعوبة الوضع الأمني، إذ تحدث أحياناً مواجهات مع مجموعات مسلحة مجهولة الهوية . في 28 يوليو/تموز الماضي قال متحدث عسكري باسم الغرفة الأمنية المشتركة لحماية بنغازي (محمد الحجازي) إن اشتباكات وقعت بين القوات الخاصة للجيش وجماعة مسلحة غير معروفة . غياب الجهد الاستخباراتي يفسر اضطراب حبل الأمن، وهو ما يؤدي إلى أزمات سياسية كان من مظاهرها استقالة وزير الداخلية وإقالة وزير الدفاع، ثم استقالة نائب لرئيس الوزراء، كما يفسر عدم تمكن السلطات من الإيقاع بمرتكبي الاغتيالات التي شملت قضاة وسياسيين وإعلاميين وعسكريين في بنغازي وطرابلس .
ولا شك أن العمل الحكومي في مثل هذه الظروف بالغ الصعوبة والتعقيد . رغم ما أثبته رئيس الحكومة الحالي علي زيدان من بعد نظر ورباطة جأش في تسيير دفة العمل الرسمي بالتعاون مع البرلمان (المؤتمر الوطني) . وحسب الدستور القائم فإن المؤتمر الوطني هو أعلى سلطة في البلاد وليس مجرد سلطة تشريعية، ورئيس المؤتمر الحالي نوري بو سهمين هو الرئيس الفعلي للبلاد والقائد العام للقوات المسلحة، وهو شخصية مستقلة غير حزبية ينحدر من أصول أمازيغية .
مقارنة بالأوضاع في دول أخرى مثل العراق وسوريا وحتى مصر، فإن الوضع في ليبيا يظل تحت السيطرة وربما كان واعداً، فليس هناك تنازع على الشرعية، وليس هناك أيضاً احتراب أهلي باستثناء التحركات القبلية، وتتمتع البلاد بتعددية حزبية وإعلامية لا سابق لها منذ أزيد من أربعة عقود، وجملة المشكلات تعود في جوهرها إلى ما خلفه الحكم السابق من ضعف إداري شديد يكاد يبلغ درجة الصفر، وتنشئة كتائب الجيش على الولاء لشخص فرد، وضعف تقاليد حقوق الإنسان، وغموض صورة العمل السياسي والجماهيري في أذهان العامة، ونبذ العمل الجماعي والتعويض عنه بتنفيس فردي فوضوي (ظاهرة زحف ما كان يسمى لجان شعبية على مؤسسات حكومية لإطاحة مسؤولين كان القذافي يريد إطاحتهم)، وقد تم في المرحلة الانتقالية الحالية إعادة إنتاج تلك الظاهرة، أو ذلك التقليد بزحف كتائب مسلحة على مقار وزارات من بينها وزارة الداخلية من أجل الإفراج عن معتقلين أمنيين!
ويبقى الأمل في نخب ليبية واعية ونزيهة داخل الحكم وخارجه، من أجل إنقاذ البلاد من وهدتها، وإشاعة حكم القانون، والفصل بين السلطات، واحترام الممتلكات العامة والمال العام: الثروة النفطية مثلاً، وتجنب أن يكون إنتاجها وتصديرها محلاً للتنازع المناطقي .
نقلاً عن صحيفة "الخليج"

العربية