الثلاثاء، 7 مايو 2013

عزل الكفاءات التي تحتاج لها #ليبيا

إقرار المجلس الوطني العام الليبي "قانون العزل السياسي" تحت تهديد الميليشيات المسلحة يُلحق ضرراً كبيراً بعملية إعادة بناء الدولة الليبية، بحرمانها من كفاءات تحتاج لها، والانحراف عن مبادئ الديمقراطية والإنصاف، فليس كل من شغلوا مناصب سياسية في عهد القذافي فاسدين، وليس كل من ركبوا قطار الثورة منزهين ومخلصين لها.

انباء موسكو

عامر راشد
في الحديث عن ثورات "الربيع العربي" كثيراً ما يردد المحللون والكتاب والباحثون تحذيرات، إلى القائمين على المرحلة الانتقالية في بلدان الربيع، تنصح بعدم تكرار أخطاء الآخرين في بعض البلدان العربية، التي أفرزت نتائج مدمرة على المجتمع بزرع بذور الشقاق فيه، وإنتاج دساتير وتشريعات معيبة قانونياً بالافتئات على حقوق المواطنة لشريحة من المواطنين دون أن يثبت تورطهم في أعمال دموية ضد شعوبهم، أو ضلوعهم في أفعال شائنة أو شبهات فساد. ويربط عيب تلك التشريعات والقوانين على نحو جدلي بتوظيفها السياسي لهيمنة فئة على الحكم وإقصاء الفئات.
آخر (التقليعات) في ليبيا رضوخ المجلس الوطني العام لابتزاز الميلشيات المسلحة، بإقرار "قانون العزل السياسي" الذي يقصي عن الحياة السياسية، لمدة حددت بخمس سنوات، أي شخص تسلم مناصب قيادية، أو شغل وظائف سياسية ودبلوماسية، خلال عهد نظام الحكم السابق بزعامة الراحل معمر القذافي. وذلك بعد ثمانية أشهر من الخلافات حول هذا (القانون) المثير للجدل، كونه يحجر على قطاع واسع من النخب السياسية التي انحازت للثورة، حتى تلك التي كانت على خلاف مع نظام الراحل القذافي منذ ثمانينيات القرن الماضي.
وبالنص الذي خرج به (القانون)، يصنف كل من تسلم منصباً في عهد القذافي، طوال أربعين عاماً، بأنه مشكوك في ولائه للنظام الجديد بغض النظر عن انشقاقه عن النظام السابق انحيازه للثورة دوره فيها، وهذا يشمل عدداً كبيراً من أعضاء المجلس الوطني العام والوزراء ونوابهم وعاملين في السلك الدبلوماسي. ومن شأنه أن يصيب مسؤولين في مناصب اقتصادية في الدولة، وقادة مكونات وكتل سياسية وناشطين في المجتمع المحلي، بينما تعاني ليبيا اليوم من ويلات مخلفات أكثر من أربعين عاماً لدكتاتورية عطَّلت كل أشكال العمل السياسي وخرَّبت بنية المجتمع المحلي، خدمة لزعيم فرد أوهم نفسه بأنه يمكن أن يختصر بشخصه ليبيا، شعباً ودولة، وأن يجعلها وللأبد رهينة نظرياته السياسية الهازلة.
وفي جانب من الحجج التي تساق دفاعاً عن "قانون العزل السياسي"، من الواضح أن القذافي نجح في إيهام فئات وازنة داخل المجتمع الليبي بأنه استطاع بالفعل اختصار كل الدولة الليبية بشخصه، وأن كل من تولوا مناصب قيادية أو وظائف دبلوماسية في عهده هم نسخة مصغرة عنه، ولو كان ذلك صحيحاً لما انحاز عدد كبير من هؤلاء إلى جانب الثورة، في وقت لم يكن النظام قد فقد قوته ولاحت بوادر انهياره وسقوطه، وهو ما شكَّل أحد عوامل نجاح الثورة.
ومن شأن "قانون العزل السياسي" أن يفاقم من الفوضى والمعضلات في المرحلة الانتقالية، وأن يعمق من اختلال الموازين بين المكونات السياسية، في قالب يضر بالليبرالية والعَلمانية منها، للعديد من الحيثيات.
الحيثية الأولى: القانون لا يفرِّق بين من تلطخت أيديهم بدماء الشعب الليبي أو كانوا جزءاً من منظومة الفساد السياسي والمالي وأدوات تنفيذية للنظام السابق، وبين من مارسوا عملهم القيادي والوظيفي بمهنية ونزاهة، ولم تحط بهم شبهات فساد. ولو جرى التفريق بين الحالتين في نص (القانون) لسُدَتْ الثغرة الكبرى فيه وخُفِف من طابعه المبهم.
الحيثية الثانية: معظم المشمولين بالعزل من أصحاب التوجهات العَلمانية والقومية والليبرالية، وممن يتمتعون بخبرات مهنية عالية تعوزها البلاد في المرحلة الانتقالية، لإعادة بناء مؤسسات الدولة، وامتلاك التوازن بين المكونات السياسية، حتى لا تميل الدولة الجديدة في كفة القوى المتطرفة.
الحيثية الثالثة: إن استبعاد العلمانيين والقوميين والليبراليين سيشد من عضد النزعات القبلية والعشائرية والمناطقية والإثنية، وسيقوي من تغلغلها في مفاصل الدولة قيد البناء، على حساب الداعين لدولة مدنية. ويعتبر الدور الذي تقوم به الميليشيات المسلحة من أكبر العقبات التي تعترض عملية إعادة بناء مؤسسات الدولة وفرض القانون والنظام، وتفعيل دور الحكومة وسيطرتها على الأوضاع وأدائها لدورها.
الحيثية الرابعة: إجبار المجلس الوطني العام على إصدار (القانون) تحت تهديد السلاح يشكل سابقة خطيرة من نوعها، حيث سارع رجال الميليشيات الذين كانوا يحاصرون مقر المجلس الوطني إلى فرض حصار جيد على مقرات الوزارات الحكومية في العاصمة طرابلس، للضغط من أجل إسقاط الحكومة كتطبيق لقانون العزل السياسي، الذي يشمل رئيس الحكومة الليبية علي زيدان وعدد من الوزراء، كما يشمل رئيس المجلس الوطني محمد المقريف، إلا إذا أُفرد لهما استثناء خاص. وأتى الحصار أُكله سريعاً بإعلان زيدان عن تغيير وزاري قريب، قال إنه سيستبعد أي شخص كان محسوباً على النظام السابق، سيجري من خلاله "استيعاب الثوار الليبيين، باعتبارهم ركيزة من الركائز الأساسية في ليبيا عقب الثورة".
الحيثية الخامسة: من السذاجة افتراض أن التنازل للميليشيات المسلحة يسهم في احتوائها ودمجها في الجيش الوطني والمؤسسات الأمنية، فغالبية تلك الميليشيات لها أجندات خاصة، قبلية ومناطقية وجهوية وإثنية، تريد أن تكون مؤسسات الدولة مرتعاً لها تحت غطاء شعارات الانتقام من كل الذين تولوا مواقع قيادية أو وظائف دبلوماسية في ظل النظام السابق، في عملية تطهير سياسي للخارطة السياسية الليبية عقب الثورة، وتفريغ مؤسسات الدولة من كوادرها، في استنساخ لتجربة عراقية مماثلة مازالت تجري تحت مسمى (قانون العدالة والمساءلة) الوريث لـ(قانون اجتثاث البعث) العراقي، الذي أصدرته سلطة الاحتلال التي كان يرأسها (آنذاك) بول بريمير، وجرى بمقتضاه طرد مئات آلاف البعثيين من وظائفهم في المجالين المدني والعسكري، ويعدُّ من أكبر الأخطاء الإستراتيجية التي ارتكبها الاحتلال الأميركي في العراق، ومازالت تبعاته تفرز احتقانات مجتمعية وطائفية.
ولم يسبق لأي دولة من دول العالم، باستثناء العراق وليبيا، أن أقرت قانون عزل ينطبق على مئات الآلاف من مواطنيها، قدر عددهم رئيس وزراء ليبيا الأسبق محمود جبريل بأكثر من 500 ألف شخص، وهذا رقم هائل بالقياس إلى الإمكانيات المحدودة لدولة مثل ليبيا. 
الحيثية السادسة: "قانون العزل السياسي" انحراف عن مبادئ الديمقراطية والإنصاف، فليس كل من شغلوا مناصب سياسية في عهد القذافي فاسدين، وليس كل من ركبوا قطار الثورة منزهين ومخلصين لها. وأسوأ ما فيه أنه يشرعن أكل الثورة لأبنائها. 


(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)



 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق