السبت، 19 يناير 2013

#أحمد_سوالم : #ليبيا تريد تغيير العقول !!!

لكي تنجح ثورة 17 فبراير 2011 الليبية وتنجز أهدافها، ينبغي أن تكون هناك ثلاث ثورات.. في ثورة واحدة !!! ثورة على القيادة السياسية السابقة للبلاد، وهذه أنجزت على يد الشعب الليبي بنجاح مبهر، وتبقى ثورتان، هما الثورة على الكثير من الموروثات الثقافية والسياسية في المجتمع، والثالثة ثورة على الذات.
إن التفكير الليبي يعاني من عيوب ومشاكل، لا شك أنه يشارك في العديد منها بقية شعوب العالم العربي.
إن درجة تسامحنا قد أخذت في التقلص والضمور خلال العقود الأخيرة بشكل مذهل، فمنذ سنين بعيدة كان المناخ الثقافي العام لدينا مشحوناً بعدد من القيم الانسانية. إن الإختلاف سُنة من سنن الحياة ومَعلم من معالم التواجد الانساني.. إلا أن واقعنا قد شهد في سنوات لاحقة أشكالاً من الفشل، جعلت هذا المناخ الثقافي العام يتزلزل.
انتقل التعصب من عالم التفكير إلى طبيعة تعاملنا مع الغير، ومع العالم الخارجي، وأدخلنا تقلص التسامح في عيب ثان، هو المغالاة في مدح الذات، فبمراجعة عشرات الصحف والمجلات الليبية التي صدرت طيلة الأربعينات والآن، يتضح بجلاء تام أنه لم تكن تعرف تلك الصفة منذ قرابة خمسين سنة، ولكنها بدأت على استحياء ثم استفحلت، واليوم لا تكاد تخلو أية صحيفة لدينا من المبالغة في المديح من قبيل “المجتمع الدولي يشيد بتجربة …. في ليبيا، اليونسكو يقرر تكرار تجربة ليبيا في .. على مستوى العالم.” لقد انفصلت الأقوال عندنا عن الأفعال، وتحولنا إلى واقع خطابي أكثر من أن نكون واقعاً عملياً، نحن نتفاخر ليل نهار بتاريخنا وأمجادنا في العالم العربي، غير أننا إذا قارنا مجتمعاتنا بمجتمع كالمجتمع الياباني، وجدنا اليابانيين على أعلى درجات الفخر بوطنهم دون أن يتخذ هذا الفخر شكل كبريات الألفاظ والقصائد والأغاني والشعارات.
وقادنا هذا بدوره إلى “ثقافة الكلام الكبير”، فعندما نتحدث عن تاريخنا نستخدم الكلام الكبير و أوصاف المبالغة والإغراق، وحتى عندما نفوز في مباراة لكرة القدم ننزلق إلى نفس الانفعالات في التعبير. وإذا تأملنا الصفحات الأولى بصحفنا ومجلاتنا وجدنا نفس الظاهرة، فكل لقاء هو “لقاء قمة”، وكل قرار هو “قرار تاريخي”. إننا نكتب ونتكلم بهذه الكيفية اتساقاً مع عيب كبير استقر في ثقافتنا.
إن الغربيين في أوروبا وأمريكا يزنون كلامهم، ويتجنبون المبالغة في الكلام والوصف، لأنهم يعرفون أن “الكلام الكبير” انعكاس مؤكد لعدم المعرفة، أو معرفة انصاف الحقائق. فالمعرفة الإنسانية معقدة ومركبة ولا تسمح بالفرق في الكلام الكبير، بل تأخذنا إلى لغة متوسطة تحاول أن تعكس حقائق العلم والثقافة. أما ثقافتنا العربية فلا تزال عامرة بقصائد المدح والهجاء حتى قال بعض النقاد معترفين بأن “الشعر أعذبه الكذوب”!
من عيوب تفكيرنا المعاصر، الإيمان بأن “من ليس معنا فهو ضدنا”. ففي مؤسسات اقتصادية، على العكس تماماً، رأيت عقد أي مجموعة عمل مكون من الغربيين والآسيويين، بدون أية تشققات في وحدة الفريق طبيعياً، بينما يصعب هذا التعايش بيننا، ولا يولد التفكك سوى المزيد من الخصومات والنفور. فالعديد منا يعتبرون أن أراءهم “جزء منهم ومن كيانهم، وبالتالي فإنها جزء من كرامتهم وكبريائهم”، مرة أخرى نحن نختلف عن غيرنا، حيث أظهرت لي تجربة التعامل البسيط، أن الإنسان في مجتمعات هذه الحضارات لا يعتبر أن أراءه جزء منه.. إنسان هذه الثقافات يفصل بوضوح تام ما بين ذاته وآرائه.
أن أراء هؤلاء مجرد أفكار معرضة للقبول والرفض والنقاش، أما عندنا فالأمر مختلف كل الإختلاف إذ أن الأراء تكاد تكون لأصحابها مثل الأعضاء والملامح. وإذا أخذنا بالاعتبار العيوب الثقافية الأخرى، ووضعنا كل هذه المشاكل في حداثة مفهوم المواطنة وغلبة الإنتماء للعائلة والقرية وسطحية التربية الديموقراطية، فإن أسباب دمج الذات مع الآراء تتعاظم وتجعلنا أمام واحدة من أهم عوائق التقدم.
نحن لا نكتفي بهذا التصلب الفكري والعناد في المواقف مهما كانت الأدلة، بل نعاني من الإقامة في الماضي، مفترضين عادة أننا الوحيدون الذين يملكون ماضياً مجيداً. والمنطقي أن نفتخر بجوانب عديدة من ماضينا افتخاراً متزناً غير مشوب بالحماسة الزائدة والتعصب وعدم إعطاء الآخرين حقوقهم، بل حتى هذا التفاخر لا يقوم دائماً على علم أو دراسة للتاريخ! فما أكثر الذين يسمون أنفسهم بأحفاد عمر المختار وهم لا يعرفون ألف باء هذه الحقبة. وما أكثر الذين يسمون أنفسهم بالوطنيين وهم على غير علم بمعظم التاريخ والتراث.
نحن لا نرحب بالنقد! رغم أن النقد وتعدد الأراء “أهم أدوات الفكر التي صنعت المجتمعات المتقدمة”. وفي الغرب يتعلم الإنسان أن لا شيء يعلو فوق النقد والتدقيق في ما للشخص وما عليه، وما يؤيد الفكرة وما يدحضها. وبينما يتعلم الطفل الأوروبي حرية الفكر والنقد يتغلغل ضيق الصدر بالنقد في عقوب أبناء و بنات مجتمعنا منذ الصغر، وعشرات بل مئات الأمثلة تؤكد أننا “إما أن نتفق تماماً، وإما أن ننطلق إلى مرحلة التراشق بأشد الكلمات حدة وتجريحاً. أما مرحلة النقد الهادئ والموضوعي والقائم على أسس عقلانية، فمرحلة يندر أن نمر بها، لأن معظمنا لم ينشأ ولم يتدرب عليها”.
من أبرز مشاكل تفكيرنا “الإعتقاد المطلق في نظرية المؤامرة”. فكل حوادث تاريخنا الماضي والحاضر نتائج مؤامرات ودسائس. وكل ما نعيشه اليوم من أوضاع من فعل الأعداء. وكل ما سيقع لنا في القريب العاجل أو البعيد الآجل خارج من مخططات خبيثة ينشغل الأوروبيون والأمريكان اليوم بحبكها ضدنا تمهيداً لوضعها موضع التنفيذ.
مع إنكاري لوجود مؤامرة شاملة ترسم مستقبلنا وواقعنا وماضينا، فأنا هنا لا أنكر وجود “الصراع”، وهو بالطبع مفهوم مختلف عن معنى “المؤامرة”، فالصراع يعني أن هناك لعبة لها في كل زمن قواعد، وأن على من يريد لنفسه مكانة بارزة فوق الأرض أن يخوض الصراع بأدوات وقواعد تضمن أطيب النتائج، كما أن الصراع لعبة مفتوحة مقارنة بالمؤامرة، ويكتنفه غموض أقل.
إن الصراع العالمي شرس ومضن وبالغ الصعوبة ولكن الأمم تكون أكثر قدرة على خوضه بنجاح وكرامة إذا كانت مستعدة ومهيأة له.
هناك ثلاث ثقافات تتفاعل في عقل الإنسان الليبي، فليبيا تاريخياً جزء من الثقافة العربية الإسلامية، وهي جغرافيا جزء من ثقافة البحر المتوسط، وهي اليوم جزء من الثقافة العالمية. إن أعداداً كبيرة من مثقفينا والشخصيات المهتمة بالشؤون العامة في واقعنا تملك محصولاً هزيلاً من اللغة العربية، بل وأكاد أجزم أن بعضهم لا يملك أن يتكلم بلغة عربية سليمة لمدة وجيزة.. أن عدداً من مثقفينا لا يكاد يعرف شيئاً عما أنتجته الثقافة العربية والإسلامية.
المدهش أن العديد من هؤلاء ممن لم يتعمقوا بأي شكل في دراسة الثقافة العربية ونتاجاتها، «لا يتورع عن تنصيب نفسه مدافعاً بعاطفية متأججة وانفعال عنفواني عن ثقافتنا العربية.
ماذا استفاد العقل الليبي من ثقافة البحر المتوسط؟ يقال بأن هذا العقل «اتسم دائماً عبر التاريخ بصفة تسامح قوية، هي أهم مزايا الشخصية الليبية، ويعتبر هذه الصفة ناجمة عن التأثر بثقافات البحر المتوسط من يونانية ورومانية وفينيقية وغيرها.
وفي مجال المقارنة بين الثقافات، يلاحظ أن اللغة العربية واللهجة الليبية خاليتان من ترجمة لكلمة Compromise، الواسعة التداول في الثقافة واللغات الأوروبية، وتعني عادة “الحل الوسط”، أو التفاهم والاتفاق. ثقافتنا العربية شديدة الإرتياب بمدلولات هذه الكلمة، والمثقفون عندنا يقرن المصطلح بمجموعة من المعاني الأخرى مثل “التنازل” و”التراجع” و”التخلي” و”الضعف” و”الهزيمة”، وهي أمور لا تخطر على بال الإنسان الغربي وهو يستعمل المصطلح.
إن الثقافة العربية تعاني كذلك من “الأفكار النمطية” Stereotype، والانطباعات السائدة، وهي منتشرة في كل الثقافات، ولكنها في ثقافتنا تتفاعل مع المشاكل والأمراض الأخرى فيتضاعف تأثيرها. فمحصولنا المعرفي محدود، وثقافة الحوار معطلة، ورؤيتنا للحياة سلبية.
وما أقصده بالأفكار النمطية، تلك الصيغ التي تشيع بين الناس بحيث يرددها كثيرون دون أن يتصدى معظمهم لفحصها وتمحيصها وعرضها على العقل، إلى جانب هذه الصور النمطية التي تزخر بها ثقافتنا، تمتاز هذه الثقافة، بذهنية أفكار العيوب والمشكلات.
ثقافتنا لا تعترف بعللنا، بل تنفي وجود المشاكل وتحاول المرور من جوانبها دون مسها، وتبرز صحفنا نقطة إيجابية واحدة في بعض التقارير وتخفي بقية المعلومات، فهذا من مقتضيات “ثقافة النفي” السائدة.
نعلم جميعاً بعيوب مؤسساتنا التعليمية، وبأنها تُخرج طلبة غير مؤهلين، لغتهم الإنجليزية ضعيفة، وعاشوا طويلاً في ظل تعليم قائم على التلقين والحفظ، تم حشو رؤوسهم بأن هناك نموذجاً واحداً للصواب، ولم يتدربوا على التسامح والنقد، ومع هذا نتجاهل هذه الحقائق.
أما في مجال العمل والإنتاج، فتتحكم بنا فوق كل شيء “ثقافة الموظفين”!، فالتوظف الحكومي أفضل من التوظف للقطاع الخاص، والتوظف الحكومي مصدر وجاهة اجتماعية، والإستقالة وتغيير العمل من الأمور النادرة الحدوث.
إن المجتمعات المتقدمة الحديثة لا تعرف مثل هذا التوظيف الذي نراه في ليبيا وغيرها، والكثيرون يغيرون مهنهم ويتركون الوظائف والمهن التي يختارونها في البداية من أجل فرص أخرى في الترقي، وقد يبدلون مهنهم وهم في منتصف وأواخر أعمارهم الوظيفية، ولكن في الثقافة المهنية العربية.. حتى المكاتب والكراسي تُخلد!.
والآن، هل تستطيع الثورة الليبية أن تنتقل من درجتها الأولى والثانية.. إلى الثالثة؟ ثورة شعارها: “ليبيا تريد… تغيير العقول”!.
المنارة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق