الثلاثاء، 12 مايو 2015

العراق_الأنبار: الجيش يقاتل داعش في أرض استنزاف الجيوش

الحياة: تقف مدن الأنبار اليوم في طليعة المدن التي تشهد نزاعات مسلحة في الشرق الأوسط، وتتميز بمساحة كبيرة وموقع إستراتيجي إقليمي يطل على ثلاث دول هي سورية والأردن والسعودية. ويستحوذ تنظيم «داعش» على نحو 70 في المئة من الأنبار واستطاع ربطها بمعاقله في سورية معلناً عن «ولاية الفرات» وهي الولاية الوحيدة التابعة لـ «داعش» التي تضم اراضي من دولتين، العراق وسورية، فيما تواجه قوات الجيش حرب استنزاف منذ شهور من دون حسم لاعتبارات جغرافية وعسكرية وسياسية تداخلت مع بعضها بعضاً لتنتج وضعاً معقداً يصعب التعامل معه. والأنبار أكبر المحافظات في العراق وتمثل ثلث مساحة البلاد، وتبلغ (138500) كيلومتر مربع، وهي أكبر من كل المحافظات الخمس التي تحيط بها مجتمعة، نينوى وصلاح الدين وبغداد وبابل وكربلاء والنجف. وتتكون الأنبار من 8 أقضية و15 ناحية، يسيطر «داعش» على 6 أقضية هي القائم وراوة وعانة وهيت والفلوجة والرطبة و11 ناحية هي العبور وألعبيدي والوليد والحقلانية وبروانة والكرمة وكبيسة والفرات والوفاء والصقلاوية وجبة. اما الحكومة فتسيطر على قضاءين فقط هما الرمادي وحديثة وأربع نواحٍ هي عامرية الفلوجة والبغدادي والحبانية وأجزاء من النخيب، وهذه المدن على مرمى هجمات «داعش» وتشهد معارك متواصلة منذ شهور حيث يسعى التنظيم إلى إخضاع الأنبار بالكامل. جغرافية الأنبار ذات الطبيعة الصحراوية تتخللها تلال ووديان يصعب تأمينها أمنياً، وغالباً ما تشهد عواصف صحراوية ولهذا كانت وما زالت ملاذاً آمناً للتنظيمات المسلحة منذ سنوات، حيث كانت هذه المدينة أبرز معاقل تنظيم «القاعدة» خلال 2005 و2006، وتنظيم «داعش» حالياً.

أرض استنزاف
ثمة عوامل جغرافية وعسكرية واجتماعية ترجّح كفة «داعش»، وتصعّب مهمة الجيش من خلال معارك كرّ وفرّ يبرع التنظيم المتشدّد في إدارتها مستغلاً نقاط ضعف القوات الأمنية. ومنـــذ شهـــور تواجه قوات الجيش مع نخبــة قواتها من الفرقة الذهبية ووحدات قتالية عشائرية محدودة معارك متواصلة من دون حسم، ويمارس «داعش» خططاً لاستنـــزاف هـــذه القـــوات عبـــر جرها الى معارك كثيرة وعلى محاور عدة فـــي وقـــت واحد، ونصب الكمائن على طرق الإمدادات، ومحــاصرة الثكـنات والقــواعد العسكرية والانقضاض عليها. ترتكز قوات الجيش في الأنبار على فرقتين كاملتين ولواء من مكافحة الإرهاب تتخذ من ثلاث قواعد عسكرية مقار لها وهي «الحبانية» جنوب الرمادي و«عين الأسد» شمال قضاء «هيت» ويضمان المئات من المستشارين الأميركيين حيث يقومون بمهمات تدريب وتنسيق مع قوات الأمن العراقية. ومعسكر «المزرعة» جنوب الفلوجة. وتمتلك قوات الجيش حلفاء محليين لا يتجاوز عددهم 5 آلاف من عشائر البو فهد والبو ريشة والبو علوان في الرمادي، والبو عيسى في عامرية الفلوجة، والجغيفي في حديثة، والبو نمر والبو عبيد في ناحية البغدادي. والمشكلة إن هذه القوات العسكرية غير قادرة على تنفيذ مناورات عسكرية لتحرير المدن التي يحتلها «داعش» بسبب المسافات الطويلة بين المدن الرئيسية، فالأنبار عبارة عن تكتلات مدن مترامية الأطراف تبعد إحداها عن الأخرى مئات الكيلو مترات وغالباً ما تكون الطرق الرابطة بينها صحراوية يصعب تأمينها.
ويستغل «داعش» ذلك بجعل هذه الطرق مكامن لضرب القوات العسكرية، بعد أن فجّر أكثر من 30 جسراً حيوياً في المحافظة، ولهذا تفضل القوات الأمنية البقاء في مراكز المدن والمعسكرات للحفاظ عليها بدل المجازفة بالتقدم نحو مدن اخرى لتطهيرها بسبب ضعف القوة الجوية العراقية التي ترتكز على مروحيات تمثل هدفاً لداعش عبر اسلحة متوسطة حصل عليها من مخازن الجيش بعد سقوط الموصل. نقطة التفوق الأخرى لداعش في الأنبار امتلاكه معرفة جيدة بجغرافية المحافظة لجهة إن غالبية عناصره عراقيون محليون يعرفون التضاريس جيداً، فضلاً عن المخابئ بين الوديان وطرق سرية وأنفاق طبيعية وأخرى اصطناعية منتشرة بكثرة خصوصاً في بلدات القائم والرطبة وعانة، بينما لا تمتلك القوات الأمنية هذه الخبرة، وهو ما يفسر لجوءها الى الولايات المتحدة للحصول على المعلومات الاستخباراتية عن اماكن «داعش». خلال الاحتلال الأميركي كان هناك نحو 40 ألف جندي من الجيش الأميركي في الأنبار وحدها، وارتكزت الولايات المتحدة في تأمين المحافظة وحماية حدود المحافظة الطويلة مع سورية على القوة الجوية اكثر من القوات البرية بعد تكبده خسائر كبيرة في معارك الفلوجة، وكان هناك سرب من مروحيات «الأباتشي المقاتلة» يضم 30 طائرة تقوم بدوريات مكثفة على الحدود اضافة الى الطائرات النفاثة.

غياب الحلفاء المحليين
عندما أيقن الجيش الأميركي خلال عام 2005 أن الأنبار مختلفة عن بقية المحافظات لصعوبة إخضاعها بترسانته العسكرية فقط، لجأ الى استمالة عشائرها التي كانت مستعدة وجاهزة لأي خطوة للتخلص من تنظيم «القاعدة»، وتشكلت قوات «الصحوة» العشائرية التي حققت انتصارات كبيرة خلال أسابيع. ولكن الجيش العراقي يقاتل اليوم من دون حليف محلي مؤثر باستثناء وحدات عشائرية قتالية محدودة تقــاتل بسلاحها الشخصي وترفض الحكــومة تسليحها حتى الآن، كما إن هـــذه الوحدات العشائرية لا تمثل جميـــع أطياف الأنبار، وأصبحت الآن نقطة خلاف عشائري مرشح للتصاعد مستقبلاً في مرحلة ما بعد «داعش». قوات «الصحوة» التي شكلها الأميركيون ارتكزت في الأساس على حوار حقيقي مع فصائل مسلحة أنبارية سلفية وجهادية معتدلة مثل «الجيش الإسلامي» و«كتائب ثورة العشرين» و«جيش المجاهدين» و«المجلس العسكري للثوار» وعناصرها عراقيون بينهم ضباط في الجيش العراقي قبل 2003. وهذه الفصائل المسلحة السنية المعتدلة التزمت جانب الحياد إزاء التحالف الدولي والداخلي ضد تنظيم «داعش» ورفضت مبايعة «داعش» ودفعت ضريبة هذا الموقف بدخولها في معارك محدودة معه في الأنبار انتهت لمصلحة التنظيم ونزع سلاحها، لكنها لم تفقد تأثيرها وإمكاناتها الاستخباراتية في أقل تقدير.
بعد تشكيل الحكومة العراقية الصيف الماضي برئاسة حيدر العبادي جرت محاولات لفتح حوار مع هده الفصائل مجدداً لكن الحكومة لم تنجح في إقناع هذه الفصائل بالوقوف إلى جانبها في الحرب ضد «داعش»، وفشلت سلسلة مفاوضات جرت في أربيل والعاصمة الأردنية عمان في تحقيق ذلك. ومن الممكن أن تكون هذه الفصائل خصماً نوعياً لـ «داعش» لأنها تمتلك قبولاً لدى السكان المحليين وعناصرها مدربون على السلاح ويعرفون جيداً تحركات «داعش» كما إن لديهم معلومات استخباراتية مهمة اكثر من أي جهاز استخبارتي.
ولكن هذه الفصائل تعاني من قلة السلاح، ولا تثق بالحكومة ولا ترغب في التعاون معها بسبب الخشية من الانقلاب عليها كما حصل مع قوات «الصحوة من قبل الحكومة السابقة، ونقطة الفراق الأخرى هي تشكيلات «الحشد الشعبي»، اذ ترفض الفصائل السنية وجودها على ارض الأنبار. وتشير معلومات الى أن رئيس التحالف الدولي ضد «داعش» الجنرال جون ألين الذي كان ابرز مؤسسي الصحوة استطاع مجدداً الاتصال مع أصدقائه من قادة الفصائل وشيوخ العشائر، ولكن الأوضاع على الأرض الآن تختلف عما كانت عليه في 2006 ولم تجر خطط التحالف كما كان متوقعاً. بعد تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة العبادي كانت قضية تشكيل «الحرس الوطني» ابرز نقاط البرنامج الحكومي واتفقت الكتل السياسية على تشكيل هذه القوة لتحقق هدفين، الأول تحقق توازن طائفي في قوات الجيش وخلق قوة محلية نظامية تتبع الحكومة ومجلس المحافظة، والثاني تقنين عمل الفصائل الشيعية وحصر السلاح بيد الدولة، ولكن ذلك لم يطبق حتى الآن. ويرى محللون إنه كان الأجدى للحكومة تشكيل «الحرس الوطني» قبل البدء بعمليات تحرير المدن، مستشهدين لاحقاً بعمليات تحرير مدن عدة جرت اخيراً في ديالى وتكريت، انتجت وضعاً معقداً وسرقت نشوة النصر بعد عمليات سلب ونهب جرت في المدينتين بعد التحرير، والسبب غياب قوة محلية من أبناء هده المدينتين. الصراع بين إيران والولايات المتحدة واضح في الأنبار، والفصائل الشيعية تريد المشاركة بقوة في معارك الأنبار، لكن الولايات المتحدة ترفض ذلك وتهدّد بسحب دعمها الجوي في حال شاركت الفصائل في الأنبار. في المحصلة كشفت الشهور الماضية إن الجيش العراقي لا يستطيع إحراز الانتصار على «داعش» من دون مساعدة من الفصائل الشيعية أو من العشائر السنية، والجيش يقاتل الآن بمفرده في الأنبار من دون قوات محلية بقوة الفصائل الشيعية ذاتها وتقوم بمهمتها وخبرتها ذاتهما في حرب الشوارع.
خلافات سياسية وقبلية
تعاني الأنبار اليوم من خلافات سياسية وانقسامات عشائرية بين فريقين يتبادلان الاتهامات، وهذه الخلافات اوجدتها الحكومة السابقة على خلفية استبدال قيادة الصحوات واستمالة شيوخ عشائر غير مؤثرين في المحافظة، استخدمتهم الحكومة لدحض التهم الموجهة إليها داخلياً ودولياً بتهميش السنة. وتتباين مواقف هذين الفريقين في شكل كبير، الفريق الأول الذي يشمل العشائر التي تقاتل «داعش» في حديثة والرمادي والبغدادي تطالب بإشراك الحشد الشعبي في معارك الأنبار وتؤيد قرارات الحكومة الاتحادية. اما الفريق الثاني والذي يضم طيفاً واسعاً من عشائر الأنبار وفصائلها المسلحة وجزءاً كبيراً من اعضاء مجلس المحافظة ونوابها يرفضون مشاركة الحشد الشعبي ويطالبون بتسليح الأنبار وتطويع أبنائهم. والخلافات القبلية تبدو اكثر خطراً على الأنبار مستقبلاً اذ تشكل العشائر الغالبية العظمى من السكان، وهي مقبلة على حرب ثارات بين عشائرها لكنها مؤجلة لحين انتهاء الحرب ضد تنظيم «داعش».
عندما دخل «داعش» الى الأنبار كان على قادة العشائر الاختيار بين أمرين أما عقد هدنة معه وعدم محاربته، أو التحالف مع الحكومة لقتاله، وأبرز عشائر الأنبار التي أعلنت التحالف مع الحكومة هي عشائر «البوالفهد» و«البو العلوان» و«العبيد» و«النمر» و«البو ريشة» و«البو عيسى» و«البوعلي» و«البوبالي». أما العشائر التي امتنعت عن التحالف مع الحكومة واختارت التزام الحياد وانضم عدد من أبنائها في شكل منفرد إلى «داعش» فهي عشائر «البو جابر» و«البو مرعي» و«البوعساف» و«الجميلي» و«العيساوي» وعشائر «القائم» من «الكرابلة» و«البو عبيد»، وهناك عشائر أخرى أعلنت تأييدها للتنظيم في شكل سري. المفارقة إن هذه العشائر لم تختر بنفسها الوقوف الى جانب الحكومة او ضدها، بل كانت تحركات الجيش وتموضعه في المحافظة عاملاً في ذلك، ومثلاً فإن الجيش انسحب من بلدات عانة وراوة والقائم وهيت في آب (اغسطس) من العام الماضي من دون قتال لأنها وفق استراتيجية الحكومة غير مهمة. بينما تمركز الجيش في «حديثة» و«البغدادي» و«الرمادي» لأهمية هــذه المـــدن اذ تضم مشاريع خدمية اتحادية مثـــل السدود ومحطات الطاقة ومعــسكرات مهمة ومركز المحافظة، ولهـــذا فإن العشائر فـــي هـذه المناطق وقفوا الى جانب الجيـــش، لكـــن العشائر في بقية المدن فضّلت التـــزام الحياد لأنها عملياً غير قادرة على محاربة «داعش» وحدها.
ولكن الشيء المؤكد إن معارك طاحنة تشهدها الأنبار منذ نحو عام ونصف عام أدت إلى مقتل المئات من أبناء العشائر على يد بعضهم بعضاً، وتصاعدت الخلافات بين هذه العشائر، وبدأت حرب ثارات بينها منذ الآن في شكل خفي عبر اغتيالات سرية لا تعلم بها الدولة لغياب دور المحاكم في المدينة بسبب المعارك، لكنها مرشحة للتصاعد مستقبلاً. هذه الصراعات السياسية والأمنية زرعت التفرقة بين هذه العشائر وهو ما يصعّب مهمة تشكيل تحالف عشائري موحد ضد «داعش»، على عكس ما كان عليه الوضع خلال عامي 2005 و2006 حيث كانت موحدة ولديها قيادة جماعية ساهمت بتشكيل قوات «الصحوة». في المحصلة فإن تحرير الأنبار يواجه صعوبات عديدة، وعلى الحكومة إيجاد مقاتلين محليين أولاً، كما إن هناك حاجة لمصالحة بين سياسيي وعشائر المحافظة، والحصول على دعم أميركي اكبر قبل البدء بعمليات التحرير، ووضع خطة لمرحلة ما بعد «داعش» ترتكز على اعمار مئات المدارس والجسور والمباني الخدمية التي دمرت بالكامل والتعجيل بإعادة مئات الآلاف من النازحين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق