الاثنين، 9 مارس 2015

ليبيا_ليبيا: بارقة أمل توحي بإمكانية تجاوز الأزمة

العرب: الظروف العامة والخاصة المعقدة، التي أحاطت بالثورة الليبية عام 2011، لامناص من أنها تركت آثارها العميقة، على مجمل التطورات السياسية والميدانية، التي عرفتها البلاد خلال السنوات الأربع الماضية، وأنها قد ساهمت في صنع المناخ الملائم لنشوء الأزمة التي تتخبط فيها ليبيا اليوم، والتي كلّما ازدادت تعقيداتها كلّما تشعبت معها طرق الحل السياسي. لا شك في أن الطريقة التي تم بها تدخل الحلف الأطلسي، وبعض القوى الإقليمية والدولية عسكريا لمساعدة الثوار في التصدي لقوات النظام الليبي، والعمل على التخلص من العقيد معمر القذافي، قد وضعت اللبنات الأساسية، والروافع الرئيسة، التي قامت عليها الأزمة الليبية، في مختلف الميادين والمستويات والتي يبدو أن تطورات المراحل اللاحقة قد خضعت إلى حد بعيد لمقتضيات شروط النشأة هذه.
عقبات تعرقل التسوية
من بين اللبنات والروافع التي تسند الأزمة الليبية وتقف في وجه كل مبادرات الحلول السياسية توجد نقطتان أساسيتان، هما؛ أولا، واقع اختزال انتفاضة الشعب الليبي وثورته، في مجرد التخلص من العقيد الراحل معمر القذافي، والقضاء أو اعتقال بعض معاونيه العسكريين والسياسيين، وخاصة أبرز رموزه وأفراد أسرته. هذا في حين أن الثورة، هي في الواقع، نزوع إلى إحداث تحول اجتماعي وسياسي يستهدف القطع مع ممارسات ديكتاتورية مناهضة للشعب، وإعادة بناء الدولة على أسس جديدة تماما، تتلاءم مع مستوى تطور الشعب الثقافي والاقتصادي والسياسي. ومن آثار هذا الاختزال تصرف القوى الإقليمية والدولية، التي قلبت الطاولة على نظام العقيد القذافي، بشكل يوحي بأنها قد أنجزت مهمتها بالكامل بمجرد مقتل القذافي، في أحسن الأحوال، تاركة الشعب الليبي يواجه استحقاقات سياسية وميدانية معقدة، لم يكن له عهد سابق بها، خاصة مع بروز قوى وجماعات مسلحة جديدة تحاول توسيع نفوذها بقوة السلاح في جل المدن والمناطق الليبية، دون أن تجد أمامها رادعا أخلاقيا أو سياسيا أو عسكريا حريصا على الحفاظ على وحدة ليبيا الجغرافية والسياسية ومستعدا للقتال في سبيل ذلك وإقامة سلطة شرعية جديدة تتولى قيادة البلاد نحو المستقبل الديمقراطي المنشود.
ثانيا، التحول السريع، والمفاجئ إلى حد ما في نظر البعض، والطبيعي والعادي في نظر البعض الآخر، في موقف بعض القوى الإقليمية والدولية، نحو مقاربة سياسية واستراتيجية ضيقة للمسألة الليبية تقوم على دعم ومساندة القوى الأيديولوجية والسياسية، وتسليح الميليشيات والجماعات، التي ترى أنها تتوافق مع مصالحها الخاصة، الأمر الذي أدى إلى تشجيع بعض التوجهات القبلية التقسيمية، وظهور ما يمكن أن يطلق عليه “أمراء الحرب في البلاد”، حيث استفردوا بالقوة والثروة، من خلال الاستيلاء على آبار النفط وموانئ تصديره، علاوة على الاعتداء على كل رموز الدولة أو ما تبقى منها، دون أن تجد أمامها أي رادع فعلي سواء في الداخل أو المحيط الإقليمي أو المجتمع الدولي، الذي كان يبدو أن لا حول له ولا قوة أمام هذه الظواهر، التي وإن تمت إدانتها السياسية علنا، في مناسبات عدة، فإنه لم يتم اتخاذ الخطوات الضرورية لإيقاف تدهور الوضع في البلاد إلى أن بلغ هذا المستوى الخطير على مستقبل البلاد ودول الجوار والمجتمع الدولي برمته، على اعتبار أن ليبيا قد أصبحت ساحة لتصنيع التطرف وتصدير السلاح والمقاتلين إلى مختلف أنحاء العالم بطرق مختلفة، من جهة، كما أصبحت بها حكومتين؛ حكومة رئيس الوزراء عبدالله الثني، شرق البلاد، المعترف بها دوليا، وحكومة أخرى في طرابلس يقودها تنظيم “الإخوان المسلمين”، وتساندها جماعات إسلامية متطرفة في مقدمتها “فجر ليبيا”، من جهة أخرى.
ويبدو أن أوساطا وازنة، في المجتمع الدولي، بدأت تدرك جدية المخاطر التي يحبل بها الوضع في ليبيا، فتحركت الأمم المتحدة من خلال مبعوثها الخاص إلى ليبيا برنادينيو ليون، لتطويق الأزمة والبحث عن حلول سياسية وعملية لها، قبل فوات الأوان، وهو الذي أبلغ مجلس الأمن الدولي أن تنظيم داعش يتقدم بشكل مستمر في ليبيا ولا شيء بقادر على كبح جماحه إذا تركت الأمور على ما هي عليه، وبالتالي فإن البحث عن الحل السياسي عبر استئناف جلسات الحوار الوطني الليبي هو الكفيل بإحراز تقدم ينقذ ليبيا من مأزق أزمتها المستفحلة ويقي المنطقة من مضاعفاتها التي تتزايد خطورة مع مرور الأيام.
بحث متواصل عن الحل
المباحثات تعمل على التوصل إلى اتفاق لنزع السلاح
لا شك أن هناك مؤشرات موضوعية وذاتية تشجع على اعتماد نهج الحوار السياسي الشامل في ليبيا تتمحور أساسا حول عدة أسباب أضحت تنبئ باستفحال الأزمة تتمثل في: أولا، الطريق المسدود الذي أوصل إليه الاقتتال بين مختلف الميليشيات المسلحة في مختلف مدن وبلدات ليبيا، حيث لا يبدو أن هناك أي بصيص أمل للخروج من مأزق هذا الاقتتال متى تمسك كل طرف بمواقفه وأصر على مواصلة البحث عن حل للأزمة بالأساليب العسكرية، بل إن الأفق الوحيد المفتوح أمام الإصرار على هذا النهج، هو تفتيت وحدة البلاد وتفكيكها، بما لا يقبل رأب الصدع بين مكوناتها السياسية والقبلية والجغرافية من جديد، والانزلاق إلى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر. وهذا ما حذر منه جل المراقبين السياسيين منذ سنة 2011، بعد بروز تيارات تنظر إلى ليبيا من زاوية مصالحها المناطقية أو الأيديولوجية أو السياسية التي غالبا ما تعطي الأولوية لسيادة الفوضى على أي نظام، اعتقادا منها بأن هذا الواقع هو وحده الكفيل بحماية مصالحها الخاصة التي لا تعلو عليها أي مصالح أخرى بما في ذلك مصالح البلاد العليا. وهو ما تجلى في وجود بؤر “سلطات” شبه مستقلة في مختلف المدن والبلدان حتى في الشهور الأولى التي أعقبت سقوط نظام القذافي وبروز نواتات للسلطة المركزية لم يكتب لها النجاح في بنغازي ولا في طرابلس العاصمة.
ثانيا، بروز بوادر تعب جل أطراف الأزمة الليبية من سيادة منطق العنف، واستمرار فوضى السلاح في البلاد إلى ما لا نهاية، فرغم المكابرة التي قد تكون بارزة في السلوك المتعنت لهذا الطرف أو ذاك، تجاه عدد من المبادرات الراغبة في التوصل إلى حل سياسي للأزمة، فإنه يمكن القول إنها، جميعها، قد وصلت إلى قناعة مشتركة، بهذا القدر أو ذاك، وتحت ضغط مضاعفات الأزمة في بعدها الاقتتالي، بأن الاستمرار على نهج الاقتتال لا مستقبل له في الواقع، بل إنه لا يعمل إلا على المزيد من إنهاك قواها ويجعل قابليتها على القتال تتراجع شيئا فشيئا، وبالتالي، فإنها مهددة على الدوام بفقدان ما سبق لها أن اكتسبته من مصالح ونفوذ بقوة السلاح.
ثالثا، مخاطر استمرار واقع وجود حكومتين في البلاد، إحداهما تابعة لجماعة “الإخوان المسلمين” في طرابلس، ولا تحظى بالاعتراف الدولي لأنها أقيمت بقوة السلاح، وأخرى، شرق البلاد، تحظى بالاعتراف الدولي، غير أنها لا تبسط سيطرتها على مجمل التراب الليبي، وهو ما يهدد بتواصل واقع الانقسام، ويترجم مدى عمق الأزمة ويدعو إلى التفكير الجدي وبذل كل الجهود الضرورية من أجل إيجاد حل ملائم لها. ولذلك فالأمم المتحدة ومجلس أمنها الدولي مطالبان بالنزول بأقصى ما يمكن من القوة المعنوية والمادية التي تتوفر لهما إلى ساحة الأزمة الليبية لتشجيع قوى الحوار والتعايش وعزل قوى التطرف والإقصاء قبل أن تكسب حربها على ليبيا الشعب والدولة. وهو ما يستشف من كثافة تحركات المبعوث الأممي ولقاءاته المتكررة مع أهم فرقاء المشهد السياسي الليبي الدامي.
رابعا، الاختراق الكبير الذي أحدثته التيارات المتطرفة والإرهابية داخل المشهد السياسي الليبي، ليس عبر سيطرة مليشيات “فجر ليبيا” على العاصمة طرابلس فحسب، وإنما أيضا تنامي قوة ونفوذ تنظيم داعش الإرهابي الذي يحتل مواقع جغرافية وسياسية متقدمة في البلاد، بما يهدد مختلف قوى وتيارات الاعتدال داخلها ويسعى للتمدد إلى دول الجوار ومجمل منطقة شمال أفريقيا، كما يتبين من أنشطة هذا التنظيم الإرهابي في تونس ونواياه المعلنة تجاه مصر.
خامسا، إن نفاد صبر دول الجوار تجاه الاستفزازات والاعتداءات التي تتعرض لها، مباشرة أو بصورة غير مباشرة، ولجوء بعضها كما فعلت مصر إلى شن غارات جوية على مواقع لتنظيم داعش في مدينة درنة بتنسيق مع حكومة عبدالله الثني، المعترف بها دوليا، قد خلف ردود فعل متباينة داخل ليبيا وخارجها. غير أن الأهم على هذا المستوى أن خطر امتدادات الأزمة إلى دول الجوار هو بمثابة ناقوس ينذر بمخاطر أدهى وأشد على شاكلة اندلاع حرب إقليمية جديدة لو كتب للتيارات المتطرفة الفوز في معاركها ضد ليبيا. سادسا، التدخلات الإقليمية، المباشرة أو غير المباشرة في الأزمة الليبية ( وخاصة نظام تركيا أردوغان ودولة قطر) قد ساهمت في تفاقمها، ومن شأن تواصل هذه التدخلات أن يبعد ليبيا، أكثر فأكثر، عن أساليب الحل السياسي. وقد سبق أن أدانت الحكومة الليبية المعترف بها دوليا هذه التدخلات، التي اعتبرتها عاملا سلبيا خطيرا وينبغي على المجتمع الدولي القيام بكل ما يمكنه القيام به لوقفها، هذا فضلا عن الجهود التخريبية التي تقوم بها قوى التطرف والإرهاب في اتجاه التوغل بالأزمة في أنفاق التأزم وإعدام الحلول الممكنة على حساب قوى الاعتدال والتعايش في البلاد.
حوار الأمل في الرباط
عديدة هي العوامل التي دفعت الأمم المتحدة إلى تكثيف جهودها في سبيل عقد حوار وطني شامل يؤدي إلى إحداث توافق وطني ليبي حول مستقبل البلاد، وقد تعددت على أساسها محاولات جمع أطراف الأزمة حول طاولة الحوار السياسي في مختلف البلدان، وآخرها، وربما أهمها، الاجتماع الذي انعقد في مدينة الصخيرات بضاحية العاصمة المغربية الرباط، والذي استطاع أن يحظى بحضور أهم فرقاء الأزمة الليبية بعد الجهود المضنية التي بذلتها الأمم المتحدة في هذا الصدد. ويبدو أن اختيار الأمم المتحدة للمغرب لاحتضان الحوار الوطني الليبي يحمل دلالات سياسية وأمنية هامة في الوقت الراهن تكمن أساسا في؛
أولا، ثقة المنتظم الدولي في المناخ السياسي والأمني السائد في المغرب والذي يجعلها بفضل استقرارها السياسي، مؤهلة للعب دور وازن في تمكين مختلف أطراف الأزمة الليبية من التداول في قضايا جدول الأعمال خارج كل الضغوط الأمنية والإرهابية. ثانيا، عدم اعتراض أي طرف من أطراف الأزمة على مبدأ الذهاب إلى المغرب لغاية المشاركة في هذا الحوار لوعيها بقدرات المملكة على التأثير الإيجابي فيه. ثالثا، ترجيح تلك القوى كون المغرب سيتصرف بالنزاهة السياسية المطلوبة في مقاربة مختلف الأزمات والنزاعات التي يجد نفسه مشاركا في بحثها والعمل على حلها لحرصه على البقاء على مسافة واحدة من مختلف أطراف النزاع، ما دامت كلها حريصة على اعتماد أسلوب الحوار وضد أساليب الهيمنة والفرض الإرهابية. أمّا رابعا، فإنّ موقف المغرب المبدئي والثابت من محاربة التطرف والإرهاب بمختلف تجلياته واكتسابه رصيدا كبيرا من المصداقية في مختلف الأوساط الإقليمية والدولية هو الذي أهله لأن تطمئن الأمم المتحدة لأدواره في معالجة الأزمات. وإذا كان من السابق لأوانه الخوض في مخرجات الحوار الوطني الليبي في مختلف محطاته، فإن بعض الأمل يلوح في أفق استمرار نهج الحوار تحت مظلة الأمم المتحدة رغم محاولات قوى التطرف والإرهاب تعطيل جهود المجتمع الدولي في هذا الاتجاه.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق