الاثنين، 8 يوليو 2013

د. فوزية بريون: #ليبيا.. والعدالة الإنتقالية

بسم الله الرحمن الرحيم
إذا أردنا أن نعرّف مصطلح "العدالة الإنتقالية"، المستجد في خطابنا السياسي، لجاز لنا أن نقول إنها مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية الرامية لمعالجة تركة من التجاوزات الواسعة النطاق، والإقترافات المجحفة لحقوق الإنسان، التي خلفت ندوبا في نفوس الأفراد والجماعات، وتركت آثارا سلبية في العقل الجمعي لمجتمع ما في ظرف ما.
وقد سميت هذه العدالة بالإنتقالية لأنها تتم في فترة إستثنائية غير عادية تشهد جملة من التغيرات الجوهرية والثانوية، المتصلة والمتقاطعة والمتشابكة والمعقدة.. ومن هنا تستمد هذه العملية أهميتها وكذلك صعوبتها وإشكالياتها.
وإذا كان هذا هو الوضع العام بالنسبة لتحقيق أية عدالة إنتقالية، فإن الوضع بالنسبة للحالة الليبية، وبالنظر إلى تشابك وخصوصية التجربة، هو أكثر صعوبة وتعقيدا من عدة جوانب، نتناول منها هنا جانبين اثنين:
الجانب الأول أن الإنتهاكات والجرائم لا تنحصر في تلك التي ارتكبت على مرأى العالم ومسمعه أثناء ثورة فبراير، والتي قام بها القذافي وأبناؤه وكتائبه، وإنما تمتد لتشمل أكثر من أربعة عقود من الإنتهاكات التي كانت تتم بطريقة ممنهجة ومدبرة؛ وكان القذافي يأمر بها ويوجه إليها بطريقة شفوية مباشرة غير مكتوبة ولا مسجلة؛ وهو ما يصعّب عملية توثيقها، بل ويعرقل عملية تقصي الحقائق وتحديد مرتكبي الجرائم المتعددة من اعتقال وسجن تعسفي، ومن تعذيبوخطف وقتل جماعي وتصفية جسدية وتغييب قسري ومقابر جماعية، ومن رحي للجثامين وصب حامض الهايدروكلوريدعليها، ونبش قبور المغتالين ورمي جثامينهم في البحر.. ويصعب في حالات كثيرة تتبع سلسلة الإجراءات التي اتخذت، ومعرفة الأشخاص الذين أمروا بارتكاب تلك الجرائم، إلا مايمكنإثباتهعنطريقمنتبقىمنشهودالعيانعلىقيدالحياة، وما التقطته آلات التصوير وقنوات التلفزيون والمحاكمات الصورية التي بثت أثناء ارتكاب جرائم القتل، كما حدث لشباب ما يعرف بواقعة باب العزيزية عام 1984مثلا، وهو قليل بالنسبة لمجموع الإنتهاكات والجرائم. هذا بالإضافة إلى ما أشيع من اعتداء على أرشيف المخابرات العامة والجهات الأمنية بعد تحرير طرابلس.
الجانب الثاني المتعلق بخصوصية التجربة الليبيى هو هذا المخاض الطويل الذي تعيشه الدولة الليبية، والغلو والجنوح في ممارسة الحرية بالنسبة لجميع الليبين، هؤلاء الذين جعلتهم هذه التجربة الفريدة يخلطون بين الحرية والفوضى، وبين التسيب والمسؤولية، ويصرون على فتح جميع الملفات والمطالبة بحل كل القضايا مرة واحدة وبسرعة وبغض النظرعن مجمل التراتيب اللازمة لحل مثل هذه القضايا. وهو ما يطرح أمامنا عدة أسئلة عويصة حول عملية العدالة الإنتقالية،على أهميتها واستحالة الوصول إلى السلم الأهلي والأمن المجتمعي ، بل وإلى الديمقراطية بدونها.
والجدير بالذكر أنه على رغم الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد فقد تقدمت الحكومة المؤقتة بمشروع قانون للعدالة الإنتقالية إلى المؤتمر الوطني لإقراره، وهو ما يؤكد وجود إرادة سياسية لتحقيق تلك العدالة، وهذا من شروطها الأساسية. لكن الشروط الهامة الأخرى تبقى موضع شك وتساؤل حتى هذه اللحظة؛ منها سيادة القانون، وهو عنصر غائب بامتياز وبطريقةيشهدعليهاالعالم؛ذلك أن مجتمعنا يعيش حالة من الإنفلات المؤدي إلى خرق مختلف القوانين، بدءامنكسرقوانين المرور، وصولا إلى التعدي على دور الجهات القضائية في محاسبة الناس والتحقيق معهم وحبسهم. أما مسألة استقلال السلطة القضائية فهو أيضا أمر في غاية الصعوبة في إطار انتشار السلاح وتعدد التشكيلات المسلحة المتأبية على الخضوع لشرعية الدولة.  وينادي الكثير من الحقوقيين بتنقية جهاز القضاء من عناصر النظام السابق، خاصة الذين كانت الإنتهاكات تجري تحت أسماعهم وأبصارهم، بل وبإقرار منهم ونفاذ حكم.. وهو ما يؤدي، إذا استمر هذا الجهاز على ما هو عليه، إلى خلط الأوراق وفتح الأبواب لإعادة انتاج نفس تلك الإنتهاكات التي ندينها الآن ونطالب بفتح التحقيقات فيها وصولا إلى العدالة المنشودة.
وفي هذه البيئة التي تفتقد التراث السياسي والثقافة الحزبية والتنظيمات المدنية، والتي تعرضت إلى اجتثات ذاكرتها الجماعية وسياقها التاريخي حتى صار مستقبلها حائرا بين عدة مسارات متباينة ومتقاطعة، بل ومتناقضة أحيانا، تبدو فيها الرؤى مختلطة ومشوشة حتى فيما يتعلق بالعدالة الإنتقالية، رغم وجود نماذج عالمية وعربية ناجحة منها.. وهو ما يرغمنا على الوقوف عند تساؤلات المتضررين أنفسهم، المتشككين في وجود عدالة انتقالية حقيقية للحالة الليبية ولحالات الإنتهاك الممنهج الممتد في الزمان والمكان المشابهة:
هل هناك عدالة تنصف الأم الثكلى التي أمضت سني عمرها تذرف الدمع وتؤجل الفرح وتبتهل في الدعاء وهي ترتب الحاجيات وتعد الأطباق لتقطع بها الفيافي لأجل عيون ولدها، فتمنع من رؤيته ويتمتع بهداياها آكلوا السحت؟..
هل هناك عدالة لزوجة عانت منفردة تربية أبنائها وتدبير لقمة عيشهم ومساعدتهم في واجباتهم المدرسية وهي تمسح دموعهم لأن أطفال الجيران يعيرونهم بزندقة أبيهم أو خيانته، بينما تحلم بعودة فارسها ليحمل عنها العبء ويمنحها الحماية والأمان .. ثم اكتشفت أنه قتل بدم بارد؟
هل هناك عدالة لإنسان كان مضغة فتخلق وولد وشب وهو يرسم بريشة خياله ملامح أب يحتل إطار المثل الأعلى بالنسبة له ليكتشف أنه اغتيل بدون وجه حق؟
هل هناك عدالة لزهور صوحت وفتيات سبيت ونساء أسرت في أقبية الشهوات المريضة؟
هيهات.. هيهات!
ولذلك .. فان العدالة الإنتقالية في الحقيقة ليست سوى عدالة رمزية ومعنوية، تكشف المقترفين فتقوم بتعزيرهم وتقليم أظافرهم وإيقاع مايستحقونه من عقاب عليهم .. بل وتوفر لهم فرصة التطهر وفضيلة الإعتراف والإقرار، وطلب الصفح وإعلان التوبة .. وهي عدالة رمزية بما تعيده من بعض الإعتبار للضحية بتعويضها على مالا يمكن تعويضه، وتكريم معاناتها وصبرها ومقاومتها.
إننا ونحن نتطلع إلى البدء في تنفيذ العدالة الإنتقالية هذه لابد لنا من المطالبة بالآتي:
إنشاء هيئة مستقلة لكشف الحقائق ومساعدة العدالة تتمتع بالنزاهة والإستقلالية التامة، تتكون من شخصيات مخلصة من ذوي الإهتمامات التشريعية والحقوقية والإجتماعية والنفسية والتاريخية، ويكون فيها تمثيل منصف للضحايا.
دعوة القضاة والمحامين الشرفاء المشهود لهم، والتنظيمات الحقوقية مثل "محامون من أجل العدالة" و"المنظمة الليبية للقضاة" ونقابات المحامين والمؤسسات المعنية بحقوق الإنسان إلى مساعدة الهيئة والدولة في الإعداد والتهيء لتحقيق العدالة، وذلك بجمع الحقائق وأرشفة الأحداث والإقترافات وتصنيفها.
دعوة مؤسسات المجتمع المدني إلى المساعدة في جمع المعلومات والشهادات والوثائق والشكاوى المتعلقة بحدوث تلك الإنتهاكات، بما فيها تلك التي حدثت أثناء الحرب على الشعب الليبي والتي حدثت وتحدث بعد التحرير في مرحلة إنشاء الدولة.
إقامة الندوات المتتابعة وورش العمل ومختلف الأنشطة المتعلقة بآليات وإشكاليات ونتائج العدالة الإنتقالية في حالة تحققها؛ في مختلف أرجاء البلاد، والإستعانة بالمنظمات والمراكز الدولية المتخصصة ذات العلاقة بشؤون العدالة الإنتقالية والمصالحة الوطنية.
وأخيرا فإن علينا أن نتفهم أن هذه العملية تحتاج إلى طويل وقت وكبير جهد، وعلينا لذلك ألا نستعجل الأمر وأن نتفهم المدى الذي يتطلبه مثل هذا العمل، مع الحرص الكامل على عدم خلط الأوراق سواء بالتستر على بعض المقترفين أو التوسع في انزال العقوبات بهم؛ وعلى القائمين على مثل هذا العمل توخي أوامر ديننا السمح في ضبط الشهادة،وشروط إنزال العقوبة، وكذلك في التأكد من نوايا الشهود بحيث يكون هدفهم إظهار الحقيقة بغض النظر عن أصحابها. ولا ننسى فضيلة الإنصاف في الغضب والرضا، وذلك من أجل مداواة الجروح وتصفية النفوس وتزكية القلوب، وصولا إلى مرحلة المصالحة الوطنية التي هي النتيجة الأهم لعملية العدالة الإنتقالية، وذلك بطريقة مقننة لا تسمح بتكرار تلك الإقترافات، وقطع الطريق على محاولات إعادة انتاجها بأي شكل من أشكال .. وهذا هو السبيل المؤدي ألى بناء ليبيا الجديدة.
"وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون".
د. فوزية بريون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق