الثلاثاء، 11 يونيو 2013

#ليبيا الثورة الليبية.. الديمقراطية في ظل السلاح


رفعت الثورة الليبية شعارات هي ذاتها التي رفعتها ثورات الربيع العربي الأخرى، والتي تتلخص في ضرورة إقامة دولة القانون والمؤسسات المدنية التي تضمن حق المساواة في المواطنة وحرية التعبير والاعتقاد ويحتكم فيها المتنافسون السياسيون إلى الآليات الديمقراطية. غير أن مسار إنجاز كل ثورة من هذه الثورات اختلف عن مسار الأخرى، وبالتالي فإن الثورة الليبية كإحدى هذه الثورات، أخذت مسارا مختلفا نتج عنه بروز عنصر لعب -ولا زال يلعب- دورا مهما في ما يمكن أن تؤدي إليه مآلات هذه الثورة.
كان للدين دورا بارزا في هذه الثورة، لأنها تغيرت من مسارها السلمي إلى العنف عندما بادرها نظام القذافي بالسلاح، فلو أن الثورة استمرت في مسارها السلمي وانتصرت دون أن يواجهها النظام بالعنف المسلح لما كان للتيارات الدينية المسلحة ذلك الدور الكبير في انتصار هذه الثورة، ولكن بقدر ما لعب هذا العنصر دورا في انتصار الثورة الليبية بقدر ما ترتب على ذلك ظهور إشكاليات سياسية جدية في مرحلة تأسيس مؤسسات الدولة.
لعله من الأفضل البحث عن العلاقة بين بروز هذا العنصر، أي التيارات الدينية المسلحة، إبان مرحلة الصراع وبين ما طرح من إشكاليات سياسية في مرحلة البناء الأساسي للدولة الليبية.
لقد أطلق الكثيرون على الثورة الليبية اسم "ثورة التكبير" ولم تكن هذه التسمية مجازا بل حقيقة، فلم يكن التكبير في ميادين الحرب في مواجهة كتائب القذافي فقط، بل كان أيضا في المساجد والساحات العامة في المدن والقرى، وكان ذلك طوال ساعات الليل والنهار.
الاختلاف يجري بين طرفين أحدهم ساهم في الثورة بالسلاح والطرف الآخر يمثل خليطا من الذين حملوا السلاح ومن الذين ساهموا في الثورة دون سلاح
لا شك أن للدين الإسلامي دورا معنويا تعبويا في تاريخ صراع الشعوب العربية مع أعدائها الأقوياء، وكانت حالة الصراع بين آلة القذافي العسكرية القوية وبين الشعب الليبي الأضعف مثالا على هذه المعادلة التي يظهر فيها دور الدين المعنوي والتعبوي.
وكان التكبير محاولة للتغلب على الإحساس بالتفوق المادي لدى الطرف المقابل، ولكسر الرهبة التي تثيرها رؤية آلة الحرب في نفس الطرف الضعيف المصمم على المواجهة وليس أمامه خيار ثالث بين النصر والموت.
كان التكبير في مساجد وساحات المدن المحاصرة والتي تعيش تحت القصف، هو ما تستقوي به على حالة الخطر المحدق بها، وذلك عندما يتحول إلى نداء يجمع الناس في مكان واحد فتتشكل حالة من التآزر والزخم الجماعي الذي يغذي مشاعر القوة لدى المقاتلين الواقفين في مواجهة كتائب القذافي.
لقد حضر الدين في الثورة الليبية باعتباره جزءا من الموروث الثقافي والتاريخي الذي يعتبر رأس مال رمزيا يجري استدعاؤه كلما حاق بالجماعة خطر كبير تحتاج لمواجهته إلى استنهاض كل ما لديها من عناصر القوة المعنوية لإذكاء روح التحدي والمقاومة.
غير أن حضور الدين في الثورة الليبية لم يقتصر على الجانب المعنوي المشترك بين جميع أفراد المجتمع، بل تجلى أيضا في ظهور كتائب منضوية في إطار الأيديولوجيا السياسية الإسلامية شاركت في القتال ضد قوات القذافي وأبلت بلاء حسنا، حتى بدت هي رأس الحربة في مواقع كثيرة على ساحة الصراع.
كان ظهور هذه الكتائب استجابة منطقية لتغير مسار الثورة السلمي عندما قرر القذافي تحويلها إلى صراع مسلح، فأدى ذلك إلى ظهور تيارات دينية سياسية مسلحة تمثلها قيادات ورجال أقوياء، الكثير منهم له رأي مختلف في دستور دولة المؤسسات المدنية التي كانت إحدى الشعارات الأساسية التي رفعتها الجماهير في المظاهرات والساحات العامة إبان الصراع مع دكتاتورية القذافي، وذلك بالنظر إلى ما يمثله دستور هذه الدولة المدنية -في نظر هؤلاء- من معان تتعلق بحريات التعبير والاعتقاد وحق المساواة بين المواطنين بصرف النظر عن جنسهم ودينهم، كذلك في ما يتعلق بآليات الديمقراطية كالانتخابات وصندوق الاقتراع والإرادة العامة.
فهذه المعاني مرفوضة ولا يرونها تقود إلى الطريق الأمثل لبناء السلطة والدولة الإسلامية التي يحلمون بها ويرونها هي الخيار الوحيد والأفضل لكل الليبيين، بينما تقف في مقابل هؤلاء الجمهرة الغالبة من الليبيين الذين لا يرون في ما يطرحه هؤلاء حول السلطة والدولة ما يمثل الحلم الذي كان يراودهم في الدولة والسلطة بعد نهاية القذافي.
كان لمثل هذا الاختلاف أن يكون موضوعا روتينيا في مفهوم الديمقراطية التي لا تعجز آلياتها عن حله، لولا أنه خالطته ظروف جعلته أكثر تعقيدا، وذلك لسببين:
أدى وجود هذه الكتائب إلى خلق أجواء شجعت على ظهور تشكيلات مسلحة، بعضها جهوية وقبلية وأخرى تضم أصحاب السوابق والخارجين على القانون، وهذا ساهم في انتشار الانفلات الأمني
1- الاختلاف يجري بين طرفين أحدهم ساهم في الثورة بالسلاح والطرف الآخر يمثل خليطا من الذين حملوا السلاح ومن الذين ساهموا في الثورة بدون سلاح، وبما أن الطرف الأول يرى أن الفضل في نجاح الثورة يرجع بالدرجة الأولى إلى الثوار المسلحين، وبالتالي فإن هذا الاختلاف يجري بين طرفين ينظر أحدهما إلى الآخر على أنه أقصر منه قامة بالنظر إلى تواضع عطائه ومساهمته في الثورة، ومثل هذه النظرة لا توفر -في الغالب- شروطا لحوار بين أنداد، بل تشجع على خلق وضع تختلط فيه المنح والهبات مع الثوابت والإملاءات.
2- أحد أطراف الاختلاف مسلح ويرى أن دور السلاح في الثورة لم ينته بعد ويجب الانتظار إلى حين الانتهاء من بناء مؤسسات الدولة، ومثل هذا الموقف يترتب عليه تحقق أحد احتمالين كليهما بالغ الخطورة على المسار الديمقراطي الذي حاز اتفاق الأغلبية الساحقة من الليبيين.
الاحتمال الأول أن يسلموا سلاحهم بعد أن يتم بناء الدولة ولكن طبقا لرؤيتهم، وفي هذه الحالة يكون حملة السلاح قد أملوا إرادتهم على أغلبية الليبيين، وبالتالي فإن هذه المؤسسات ستفتقد إلى الشرعية السياسية في نظر هذه الأغلبية لأنه لم يتم اختيارها وتأسيسها حسب رغبتهم ونزولا عند إرادتهم الحرة الخالية من الإذعان.
الاحتمال الثاني، أن يتوقف بناء مؤسسات الدولة بسبب رفضهم للدستور نظرا لعدم استجابته لرؤيتهم في تأسيس الدولة والسلطة، وهذا يعني بمفهوم المخالفة ضرورة الاحتفاظ بالسلاح من قبل هؤلاء الثوار.
ولعل هذا ما يجعل الكثيرين يتخوفون من الوصول إلى مثل هذا الوضع الذي يشبه الحلقة المفرغة، فالمؤسسات لا تقوم، وهؤلاء لا يتخلون عن سلاحهم، ولربما عززت مثل هذه المخاوف لدى البعض موقف هذه التيارات الدينية المسلحة من مؤسسة الجيش الوطني، فالكثير من هذه الكتائب تتبع لرئاسة أركان الجيش الليبي شكليا ولكنها في واقع الأمر تحتفظ باستقلاليتها وقياداتها وأمرائها، حتى لتبدو العلاقة بين الطرفين وكأنها علاقة تعاون وليست علاقة تبعية قائمة على التدرج والضبط والربط وقانون العقوبات العسكرية.
كما أنها ما تزال ترفض حل نفسها وتسريح منتسبيها لكي ينضموا فرادى إلى كتائب الجيش الوطني. لقد نتج عن تمسك هؤلاء بسلاحهم جملة من النتائج منها:
بدأت قوى كثيرة داخل المجتمع تتجمع في شكل اعتصامات ومظاهرات تصل إلى حد الاصطدام بهذه الكتائب، مما أدى إلى سقوط ضحايا من الجانبين
أولا: أدى وجود هذه الكتائب إلى خلق أجواء شجعت على ظهور تشكيلات مسلحة بعضها جهوية وقبلية وأخرى تضم أصحاب السوابق والخارجين على القانون، وهذا ساهم في انتشار الانفلات الأمني.
ثانيا: تغيرت نظرة العامة إلى هذه التيارات الدينية المسلحة، فقد كان الناس في السابق ينظرون إلى هؤلاء كأبطال ساهموا في إسقاط نظام القذافي أما الآن فقد أخذت الغالبية تنظر إليهم على أنهم قوة مسلحة مخيفة تريد أن تفرض عليهم بالقوة تصوراتها للسلطة والدولة حسب قناعاتها الدينية والأيديولوجية، بعد أن أطاحت بنظام القذافي لتحل محله.

ثالثا: بدأت قوى كثيرة داخل المجتمع تتجمع في شكل اعتصامات ومظاهرات تصل إلى حد الاصطدام بهذه الكتائب، مما أدى إلى سقوط ضحايا من الجانبين على غرار ما حدث في بنغازي يوم الثامن من يونيو/حزيران 2013، حيث سقط حوالي ثلاثين ضحية من الجانبين، وهذا يزيد الشرخ اتساعا ويؤجج الكراهية بين معظم فئات المجتمع وهذه التيارات المسلحة.

لا شك أن هذا المشهد بالغ التعقيد والخطورة، ولكنه ليس عصيا على الحل عندما يحضر العقل والانتماء الوطني، وهما صفتان يتحلى بهما الكثير من الطرفين.
المصدر:الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق