في ليبيا سمعنا عن قانون العزل السياسي بما يعنيه من أقدام السلطة (أية سلطة) على استخدام القوة والنفوذ بكل أشكاله لمنع الأحزاب والحركات السياسية (المحددة)، وحتى الأفراد من مزاولة الأنشطة خاصة النشاط السياسي بأي شكل كان، وغالبا ما يكون هذا المفهوم مرتبطا بالدول التي تشكل عبر تاريخها السياسي خصومات واختلافات سياسية بين القوى الحاكمة والأخرى المعارضة خارج إطار الممارسات الديمقراطية والبرلمانية منها تحديدا.
كرّست الأحداث الجارية في الوطن العربي عبر أكثر من عقد من الزمن مفهوم العزل السياسي حيث ظهرت حالات متشددة في العراق ضد حزب البعث العربي الاشتراكي بعد العام 2003 |
وربما يكون من اللافت جدا أن يكون أول قرارات السفير الأميركي الرئاسي المخول بحكم العراق بول بريمر المكتوبة وهو القرار رقم (1) والذي ينص في ديباجته على الآتي: "أصدرت سلطة الائتلاف المدنية المؤقتة بتاريخ 16 أبريل/نيسان 2003 أمرا باجتثاث هيكل حزب البعث في العراق"، ويؤكد بريمر في كتابه "عامي في العراق" أن الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش كان حريصا ومتشددا جدا في موضوع تنفيذ اجتثاث البعث حتى لو كلف ذلك خسارة كل الكادر الإداري العامل في العراق بما يعنيه ذلك من سقوط مدو لدور أجهزة الحكومة في جميع المجالات!
وتأكيدا لمفهوم العزل السياسي أعلاه، أسست هيئة لاجتثاث البعث أصبحت دستورية لاحقا بعد أن تم التصديق عليها في الدستور العراقي الذي وضع في العام 2005.
بعد مضي سنين عديدة جاءت أحداث ما يسمى بالربيع العربي لتظهر مجموعة من الإجراءات تقع جميعها ضمن دائرة ومفهوم العزل السياسي حتى باتت الصورة المعاصرة لأنظمه الحكم القادمة نتاج هذا الربيع بعيدة إلى حد ملحوظ عن مفاهيم وممارسات الديمقراطية التي كانت الأحزاب الحاكمة حاليا تطالب بها وتنتقد بسببها الأنظمة الساقطة.
وقد أفرزت تجربة العراق حقيقة مجموعة من سياسات الإرهاب والبطش وملاحقة المعارضين في الرأي وتصفيتهم والتشبث بالحكم وإقصاء الآخرين زاد من سوء نتائجها وصورتها جهل سياسي وإداري بشؤون الحكم وترد أخلاقي وعنف غير مبرر إضافة إلى مظاهر الفساد بجميع أنواعه.
لكن تبقى الأزمة الحقيقية والعقدة المستعصية على الحل الإجابة عن سؤال لم تنفع محاولات السنوات العشر الأخيرة في وضع الأشياء في نصابها القانوني والديمقراطي فيه، وذاك هو تحديدا العلاقة بين النظام الحاكم ومعارضيه، ولعل من أكبر أخطاء القوى الحاكمة سواء في العراق حاليا أو في مصر بزعامة حركة الإخوان المسلمين وكذلك في ليبيا وتونس أنها نسيت أو تناست أن سياسة (الحزب الواحد) وهي من أوجه العزل السياسي الذي مارسته السلطات العراقية وربما الليبية طيلة أكثر من ثلاثين عاما قبل احتلال العراق، لم تنجح في وأد واستئصال الأحزاب المعارضة كحزب الدعوة والحزب الديمقراطي الكردستاني أو حتى الحزب الشيوعي العراقي وغيرها وها هي تتسنم مقاليد الأمور بشكل كامل.
نقول مؤخرا عاد تكرار مصطلح العزل السياسي في ليبيا تحديدا مع صدور القانون، وبات الحديث عن عزل الحركات السياسية أو من يمت لها بأية صلة يفضي إلى استنتاج واضح يعني فيما يعنيه التقاطع مع مبادئ حرية الرأي وحق الإنسان في الاختيار، وهي بالطبع من أعمدة الديمقراطية وحقوق الإنسان بموجب ميثاق هيئة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان لا بل حتى بموجب دساتير هذه الدول.
ليبيا التي عانت في عهد معمر القذافي من موضوع تحريم التحزب والتجمع أو أي شكل من أشكال التنظيم السياسي، تعود لتلعب نفس اللعبة بالإقصاء، والعزل السياسي وهو ما سيقود حتما إلى حكم شمولي |
وفي لبنان حيث التناحر الطائفي المذهبي بشعاراته العاطفية قد يمهد لانفجار كبير يطيح بمكونات المجتمع اللبناني ويفكك الدولة ويلغي سلطة القانون فيها، والكل يعلم أن في لبنان من يراهن على قوى إقليمية مسلحة أو غير مسلحة تسعى لبسط نفوذها وهيمنتها من خلال عناصر الغلبة والقهر الاجتماعي والاقتصادي والعزل السياسي كما هو الحال مع حزب الله اللبناني.
أما في مصر، بكل ما تعنيه من مركز ثقل عربي وإقليمي مهم، فظاهر الأحداث ومجرياتها فيها تعطي انطباعا، نرجو ألا يكون صحيحا، حول سعي القيادة الحاكمة في هذا البلد، وهي حركة الإخوان المسلمين لفرض حالة من الهيمنة الفكرية والسياسية في البلاد من خلال أخونة جميع مفاصل الدولة من جهة، ومن خلال محاولتها عزل بقية الحركات السياسية في مصر خاصة الحركات القومية الفاعلة، ناسية على ما يبدو ما عانته الحركة أثناء حكم النظام السابق وتعمّده ممارسة عمليات العزل والاستئصال لعناصرها خاصة بعد الانتخابات البرلمانية عام 2005 التي حقق الإخوان فيها فوزا ملحوظا.
إن المفترض على الأنظمة العربية الجديدة التي جاءت نتيجة حركات الربيع العربي أو النظام في العراق، وهو حالة خاصة جيء بها بعد احتلال هذا البلد من قبل الولايات المتحدة، عليهم جميعا أن يستفيدوا من تجارب عالمية سابقة قد ترتبط بشكل أو بآخر بعقدة الإقصاء أو العزل السياسي.
ولعل من أهم التجارب التجربة الألمانية وتجربة جنوب أفريقيا حيث اصطلح على تسمية مرحلة احتواء وامتصاص الأحزاب الحاكمة التي فقدت الحكم نتيجة الحرب العالمية الثانية بالنسبة لألمانيا أو نتيجة الانتخابات بالنسبة لجنوب أفريقيا، سميت هذه المرحلة بمرحلة (العدالة الانتقالية) وصولا لتحقيق غاية مركزية واحدة وهي إجراء المصالحة الوطنية.
مرحلة العدالة الانتقالية هذه لم تعن مطلقا إعفاء من ارتكبوا جرائم ضد شعبهم أو السماح لهم بالعودة لممارسة العمل السياسي حيث كان هناك قوائم تضم الآلاف النازيين الذين سيق بعضهم للمحاكمة وحرّم على البعض الآخر العمل السياسي، أما جنوب أفريقيا فقد اشترطت الكشف عن الحقيقة مقابل العدالة بموجب قانون سمي (قانون لجنة الحقيقة والمصالحة) التي أسسها الرئيس مانديلا بعد سقوط نظام الفصل العنصري، وكان لزاما على أتباع النظام السابق أن يكشفوا عن الجرائم المرتكبة وأدوارهم فيها ويطلبوا الصفح والعفو مقابل رأفة العدالة، وكانت قرارات العفو تصدر وفقا لطبيعة الجريمة والدور الذي لعبه صاحب الجرم.
أين نحن من هذا؟ ولماذا نكون خارج سرب التجارب العالمية عندما تتاح لنا الفرص التاريخية للتغيير؟ ولماذا لا نستوعب أن العزل السياسي بمفهومه العربي على ما يبدو لا يمكن أبدا أن يجتث الأفكار من خلال ملاحقة معتنقيها، وإلا ما كان من يحكم الآن موجودا في ظل بطش وقوة الأنظمة السابقة وأسلوب تعاملها معه؟
ولماذا لا ننظر حولنا لنرى أن كل الأساليب والقوانين مضافا لها الحملات الصهيونية المنظمة لم تستطع إلغاء أو اجتثاث الفكر النازي في ألمانيا وأن هناك عشرات أو ربما مئات الآلاف من الشباب الألماني يحتفلون سنويا بتظاهرات كبرى إحياء لذكرى قصف مدينة دريزدن في الحرب العالمية الثانية!
الجرائم المرتكبة بحق الشعوب تعالج بوقوف المتهمين بها أمام قضاء عادل وحيادي ليقول كلمته بالعزل السياسي أو بحصول المتهمين على عقوباتهم التي تنص عليها القوانين |
إن الجرائم المرتكبة بحق الشعوب تعالج بوقوف المتهمين بها أمام قضاء عادل وحيادي ليقول كلمته وحكمه فيها، سواء تعلق هذا الحكم بمحددات العزل السياسي أم بحصول المتهمين على عقوباتهم التي تنص عليها القوانين دون ضغائن أو أحقاد أو حتى أحكام مسبقة.
لقد تركنا شعبنا العربي يشعر بالكثير من الإحباط وهو يرى نتائج ربيع بعض أقطاره تذهب بهم بعيدا في دائرة من الفوضى "غير الخلاقة" ويوما بعد آخر يفقد هذا الشعب آماله وأحلامه بتحقيق المصالحات الوطنية ليتفرغ الجميع للبناء وتشكيل النموذج الجاذب للتغير والحياة الكريمة.
المصدر:الجزيرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق