الثلاثاء، 2 أبريل 2013

الازمات عابرة والجوار ابدي: خـلـفــية العلاقات الليبية المصرية #ليبيا

د. محمد محمد المفتي

الكاف 


في خضم هستيريا الاعتصامات والاقتحامات والانتقامات، ووسـط أنباء تتراوح بين المفجـع والمخـزي والمقزز والمخجل، وأمـام عـجـز الساسـة الجـدد وشــلل الدولة وغياب السيطرة الأمنية ، لا يجـد  المواطن الليبي هذه الأيــام سـوى اليأس ومسـتقبل غـامض وربـمـا حالك، لا يـفـرح إلا الأعـداء. ونعـوض عـن كل ذلك للأسـف بالسـخرية وتـحـقـير أنـفـســنا. وليس المواطـن المصري في حــال أفضل منا. 

كل شئ عنـدنا اليوم مؤجـل .. ليبيا   رغم مساحـتها الشاسـعـة،   إلا أن تعـدادنا لا يتجـاوز تـعـداد حي في كثير من عـواصم العالم. ورغم الريع النفطي المتـدفق بمعدل مليار دولار .. ألف مليون .. في كل أســبوع تـقـريبا ، إلا أن الإصلاحات متوقفة، واسـتئناف التنمية مـعـطــل .. بل والدسـتور، والحـكــم المحلي .. كل ذلك ليس لغياب الحلول وإنما بسبب شكوك الأحـزاب ومراكــز القـوى، كل في نوايا الآخـر.  

في هـذا الخضم .. يفترض أن تكـون عـلاقـة ليبيا ومصر بمـنـأى عن هـذا الجـنـون السياسي، فبعد سـقوط نظامين مسـتبدين وفاسـدين ، على جانبي حـدودهما المشتركة، يفترض أن البلدان يجدان ما يوحـدهما ويضع علاقتـيهما في مســار سـوي. 

دعنا من التهريب، وقصة الأزلام وأحمد قذاف الدم .. هناك قضايا أكبر وأبعـد. هناك عشرات الآلاف من الأسر الليبية المشردة في مصر، وهناك حـاجـة ليـبــيا ومصر كل لاسـتـقرار الأخـرى، ولنا في وقـفـة الاتحاد الأوروبي مع اليونــان وقبرص خير نمـوذج يحـتـذى.

لماذا ؟ لأن علاقة ليبيا ومصر ، بقــدر ما هي علاقة أزلية منذ أقدم العصور ، فهي أيضا أبدية تتجاوز الأجيال والأنظمة والحكومات والحكام، وبالتالي  فهي حساسة لليبيين والمصريين على حد سـواء، وتجب المحافظة على سـلاســتها وبقائـها في إطـار الـعـقل والتفاهم والتعاون، بعيدا عن أي شـطـط.

ماذا يترتب على الجـــوار؟

علاقتنا بمصر، كأي علاقة بين جيران، هي أيضا  حـقـل شـائك من العلاقات المتداخلة، وعـرضة لسـوء الفهم والمبالغة. لكن جـوهـر العلاقـة هو الجـوار.  

1. الجوار يعني تواصـلا أبــديـًا يتجاوز الزمن والأجيال. ومن هذا المنظور يصبح خـط الحدود، في الحقيقة، مجرد عنصر إجرائي لتوزيع مسئوليات الدولتين وتنظيم الحركة عبره. 
2. الجوار يرافـقــه حراك بشري ( ديموغـرافي ) متـكـرر ، نتيجة هجرات أو مجاعات أو حروب.
3. على جانبي الحدود لأي دول متجـاورة، هناك تجانس سـكاني جـزئي وارتباطات اجتماعية ، تترتب على امتداد المصالح والتبادل التجاري وما يرافق ذلك من مصاهرات وتحالفات ونزاعات.
4. والجوار يولد أيضا ولاءات مزدوجـة لدى المقيمين على جانبي الحدود ، مما يخلق حالات من التوجس والشكوك والتحيزات التي قد تستثمر سلبيا لخلق أزمات. من ذلك مثلا مكافحة التهريب أو محاولة السيطرة على حركة اليد العاملة.  

وإذا لم تــُرى هذه الحساسيات في حجمها الحقيقي فإنـها تسـمم أجواء العلاقات، وقد تودي إلى حروب.

الحـراك الديمـوغـرافي

عبر العصور شـهدت المنطقة المتاخمة بين مصر وليبيا  انتقال الجماعات البشرية في الاتجاهين:

فمن الشرق إلى الغـرب كان الفتح الإســلامي  وهجرة بني هلال وبني سليم من شبه الجزيرة العربية غربا،   في القرن الحادي عشر الميلادي. 

لكن  حركة البشر الاستيطانية، كانت على الأرجح من الغــرب إلى الشرق نحـو أرض النيل الأكثر خصوبة، وهـو ما تشـهد به  العصور الحديثة.  فقد تمثـلت في نزوح قـبائـل الجـوازي وهم من سعادي برقة سنة  1801، من سـهل بنغازي، إلى الفيوم  والمنيا حيث اسـتقروا ، مشـدودين رغم ذلك إلى ارتباط عاطفي بليبيا.  وفي أواخر القرن 19، نزح أولاد علي،  نتيجة الحروب القبلية  بينهم وبين اخوتهم الحرابي فيما يعرف بتجـريدة حبيب والتي ما تزال تفاصيلها ملفوفة في غلالة الحكاية الملحمية. والأرجح أن تلك الحرب القبلية اشتعلت من جراء الجفاف والمجاعة. وقد اسـتقرت مـعـظم قبائل  أولاد علي في الصحراء الغربية ، في إقليم مطروح ، بين السلوم والإسكندرية.

لـجــوء آلاف الليـبــيين إلى مـصـر

الهجرة الأحدث كانت إبان الاستعمار الإيطالي. وبادرت  بعض الشخصيات المصرية ببذل جـهـود الإغاثة والمساعدة للاجئين الليبيين، وتألق منهم الأخوان حمد وعبد الستار الباسل، وأحمد لملوم باشا، وجميـعـهم من أصول ليبية.  وكان حمد باشا الباسل أحد قادة ثورة 1919 في مصر. وإثـر إعـدام عمر  المخـتـار قائد حركة الجـهـاد في الجبل الأخضر (16 / 9 / 1931 ) ، رثـــاه الشعراء بلوعة وفخر، ومن بينـهم أحمد شـوقي في قصيدته: 

نـصــبوا رفــاتـك في الرمــال لـواء               يسـتنـهـض الـوادي صـباح مـسـاء

والملفت أن أحمد شوقي ربط بين استـشهاد عمر المختار والقضية المصرية، آملا أن يسـتنـهض موقف الشهيد البطولي والصلب، وادي النيل لكي يتحرك ويسـتأنف نضاله .. ضد الاحتلال ، كما فـعـل في ثورة عرابي وثورة 1919 .

أدارســة الأقـصـر

في العصر الحديث لم تنشأ بين ليبيا ومصر علاقات سياسية ذات شأن. وفي أواخر القرن 19 ، كانت ليبيا ولاية عثمانية ، بينما كانت مصر تحت حكم أسرة محمد علي مع وجود الاحتلال البريطاني. 

ولعل أول بادرة لتدخل "مصري" في أمور ليبيا ، تمثل في وساطة بعض زعماء طائفة  أدارسـة الأقـصـر كوفـد مرافق للوفد الإنجليزي الذي شارك في المباحثات التي جرت  بين السيد إدريس السنوسي وإيطاليا سـنة 1916 ، وقادت إلى تأسيس إمارة سـنوسـية على دواخل  برقة، وعاصمتها اجدابيا. ولم تكن مشاركة الأدارسة مبادرة حكومية مصرية رسمية.

عـبد الرحـمـن عـــزام

لكن الشخصية المصرية التي ارتبطت بالسياسة الليـبــية للقرابة ربع قرن، كان كان عـبد الرحـمـن عـــزام  (1893- 1967) الذي قــاده حماســه إثر اندلاع الحرب العالمية الأولى ، إلى السفر إلى تـركيـا. ومن هناك التحق بمجموعات عسكرية تابعة لجـهاز المخابرات التركي المعروف باسم تشكيلاتي خصوصي، بـقـيـادة نوري باشا. 

ودخل عزام ليبيا من الحـدود المصرية، وانتهى إلى مـصـراتـه  والتحق بزعيمها رمضـان السـويحلي.  وإبان تلك الفترة شارك في اجتماعات زعماء حركة الجهاد في طرابلس وأهمـها مؤتـمـر مسلاته، في 16 نوفمبر 1918 والذي أسست فيه الجمهورية الطرابلسية ، التي دامت حوالي سبعة أشـهر قبل أن تتم المصالحة مع الإيطاليين. وإثر تلك الهدنة، التي عرفت بصلح سواني بن يادم، أصدرت الحركة الوطـنية الطرابلسية جريدة اللواء الطرابلسي وشــارك عزام بالكتابة على صـفحاتـها. 

بعد صعود الحزب الفـاشي اسـتـأنفت إيطاليا حربها التوسـعـية، ونجحت في إخماد المقاومة في غرب ليبيا مما اضطر عـزام إلى مغادرة البلاد عام 1923 . وقـد ترك عـزام  ليبيا ، حاملا معـه  شــعـورًا بالإنتماء لطرابلس ، حتى أنه كان يتصرف كأحد زعمائـهـا.. كما حمل في صـدره كـرها شخصيا عميقا للأمير إدريس السنوسي، دفـعـه إلى محاولة إعاقة وصوله إلى سـدة الحكم.

حركـة الاسـتقلال الليبية بـدأت في مصر

بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة دول المحور وبينها إيطاليا، نشأت حركة الاسـتقلال الليبــية في اكتوبر 1939 ، ودعى الأمير إدريس السنوسي زعماء وأعيان الليبيين في مصر إلى اجتماع في بيته بحي فكتوريا بالإسكندرية ، وتم الاتفاق فيه على التحالف مع الإنجليز من أجل تحرير البلاد من الطليان. وعند الكيلو تسـعة بالجيزة، أقيم معسـكر لتدريب المتطوعين لجيش التحرير الليبي.

في مصر أيضا تأسـست جمعية عمر المختار، التي تحولت خلال سنوات إلى حركة وطنية تطالب بالاسـتقلال ووحدة ليبيا ، وجـسـدت تيارا سياسيا في مدن برقة ، معارضا للوجود الإنجليزي و متعلقا بمصر وعلى صلة بعبد الرحمن عزام الذي أمسى أول أمين لجامعة الدول العربية بعد تأسيسها عام 1945.  

وقـد خاض عزام باشا فعلا وعـلنا في بوتقة السياسة الليبية، من ذلك إعلانه عن تشـكيل هـيئة تحرير ليبيا  سـنة 1948، بصوته عبر إذاعة القاهـرة، رغم أنه كان أمينا للجامعة العربية. وسبب ذلك ضيقا لليبيين الساعين لوحدة البلاد كما تشـهد به محاضر جلسات المؤتمر البرقــاوي ( انظر الصورة). وتمثلت إحدي مناورات مصر التعـطيلية ، في المطالبة بواحة الجغبوب التي كانت قد آلت رسـميا إلى الأراضي الليبية بموجب اتفاقية تخـطيط الحدود بين إيطاليا ومصر سـنة 1926. وكان ذلك في عام 1949، عندما عرضت قضية ليبيا على الأمم المتحدة، ويعتقد أن عـزام كان وراء تلك المناورة.








أزمـة لـجـوء إخـوان مسـلـمين إلى بـرقــة

تـؤرخ بداية نشـاط جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا ، في النصف الثاني من الأربعينيات، عن طريق الطلبة الليبيين الذين كانوا يدرُسون في مصر، وأيضا عن طريق أعضاء هيئة التدريس المصريين الذين كانوا يدرِّسون في ليبيا.

ومن الأحداث المثيرة آنذاك ، كان لجـوء ثلاثة من شباب الإخوان المسلمين المصريين إلى ليبيا وهـم عز الدين  إبراهيم، ومحمود الشربينى، وجلال سعده الذين هربوا للاشـتباه في تورطـهـم فى حادث اغتيال محمود النقراشى رئيس الحكومة المصرية فى عام 1949، والذي بدأ حكمه باعتقال حسن البنا مؤسس الجماعة وزعيمها، أصدر قرارا في 8 ديسمبر 1948 بحل جماعة الإخوان المسلمين، وغلق مـقـراتهـا ومصادرة أموالها. 

وإثر وصول الثلاثة إلى بنغازي، انفجرت أزمة في العلاقات بين السيد إدريس (أمير برقة غير المتوج  حتى ذلك الوقت ، فقد كان الإقليم ما يزال تحت الإدارية العسكرية البريطانية). وبدورها أغلقت السلطات المصرية حدودها مع مع برقة. وبعد فترة سمح للثلاثة بالعمل. وسرعان ما اندمج الثلاثة في مجتمع مدينة بنغازى ، وسـاهموا في بذر فكر حركة الإخوان المسلمين.  وكان عز الدين ابراهيم يلقي المواعظ في جامع الدراوي ، بينما عمل محمود الشربيني مع شركة ساسكو التي كان يمتلكها عبد الله عابد السنوسى والسنوسي الأشـهب، قـام جلال سعده  بإعطـاء دروس خصوصية في اللغة العربية.  
 

أزمـة تـوقـيـع المـعـاهــدة البريطانية، 1953

لعل التاريخ أعاد نفسـه حين دعـم حلف الناتو ثورة فبراير. فـإثر الحرب العالمية الثانية حـرر الحلفاء ومنهم بريطانيا ليبيا من الاستعمار الإيطالي، وأيضا في موافـقة الأمم المتحدة على استقلال البلاد. ومن باب تقـنين الوجود البريطاني (و الأميركي ) في ليبيا، عقدت المعاهدة الليبية البريطانية سـنة 1953  ثم الأميركية.

كانت عواطف الناس إزاء تلك التطورات متفاوتة. كان هناك الإحساس بكراهية الأجنبي الذي قاسى منه أهلنا عبر عقود. وكانت تلك الدول تقدم العون المالي والمادي للدولة الوليدة التي كان معظم سكانها يعيشون تحت مستوى خط الفقر. وبالمقابل كان هناك إحساس بالعرفان بما قدمته بريطانيا، خاصة وأن إداراتها العسكرية ساهمت في رفع كثير من الأزمات الاقتصادية ، فضلا عن أنها أطلقت حريات الصحافة والتعبير والنشاط السياسي. 

وبعد سبعة أشهر من إعلان استقلال ليبيا ، قامت ثورة 23 يوليو في مصر .. وهكذا ظهر محور جديد للخلاف . وفي ضـوء توجـهات ثـورة كان الوجود الأجنبي في ليبيا مصدر شك وتخوف لدي القيادة المصرية الثورية الشابة. وهكذا شنّ المسئولون في مصر هجومات حادة  على نيـة ليبــيا توقيع المعاهدة البريطانية  وانعكس ذلك على لهجة الصحافة المصـرية ، كما أصدر الدكتور راشد البراوي كتابا بـعـنـوان " ليبيا والمؤامرة البريطانية".  

عارضت مصر توقيع المعاهدة الليبـــية البريطانية، لكن ليبيا الفقيرة كانت بحاجة حـقـيـقـية للعون المالي ، ولم تكن مصر قادرة على توفير المساعدة المطلوبة.

وبالمقابل سعت الحكومة الليبية، بحكم ضعف موقفها وإدراكها لطبيعة العلاقة المتداخلة مع مصر، وحاجة البلاد لمساعدات مصر، سعت إلى امتصاص غضب قادة ثورة يوليـو، فطُورت العلاقة مع مصر على أكثر من صعيد : بإيفاد البعثات التعليمية الى مصر واستقدام المدرسين المصريين ، وتبني المناهج المدرسية المصرية ، والاستعانة بالقضاة المصريين وعلى رأسهم السنهوري الشهير لسن قوانين الدولة. كما حظيت الصحف المصرية بحرية الدخول إلي ليبيا ، وسمح بتأسيس مراكز ثقافية مصرية في المدن الليبية.

وفي سنة 1954 زار ليبيا قائد الجناح حسن ابراهيم عضو قيادة الثورة المصرية ، وصاحِب التصريحات النارية ضد المعاهدة البريطانية .. ومع ذلك قوبل بإحتفاء لم يخلو من توجــس. 

وطيلة السـنين التاليـة ، استمرت العلاقات الليبية المصرية على هذا المنوال الودّي المتوتر في آن واحـد.



التـعـلـــيـم

لعل مجال التعليم كان الساحة الأرحب لتوثيق وشائج  العلاقات بين ليبيا ومصر. وفي البداية كان الجامع الأزهـر منارة لنشر التعليم الديني في المنطقة العربية والعالم الإسلامي. وفي الأزهـر درست أفواج من الطلبة الليبيين الذين عادوا إلى وطنهم ليتولوا شتى المناصب ويساهموا في إحياء الانتماء العروبي والإسلامي للمجتمع الليبي، ويـزرعـوا ولاء مضمرًا لمصر. 

وبعد الحرب العالمية الثانية ، نهض نظام التعليم الحديث في ليبيا ، أيضا على أيدي أساتذة ليبيين تلقي بعضهم جزءا من تعليمهم في مصر. ومع تزايد أعداد التلاميذ المقبلين على التعليم، استعانت ليبيا ببعثات المدرسين المصريين في مختلف مستويات التعليم. وفي أواخر الأربعينيات بدأ إرسال الشباب الليبيين للدراسة في مصر. ومن أهم الشخصيات المصرية التي كان لها الفضل في دفع حركة التعليم في ليبيا، المرحوم الأستاذ محمد فريد أبوحــديد الذي شغل مناصب مختلفة في وزارة التعليم ونسق البعثات التعـليمية المصرية ، بروح التفاني والكفاءة التي ميزت أبناء جيله النهضوي في مصر.

تأسيس الجامعة الليبــية

تأسيس الجامعة الليبية بافتتاح كلية الآداب في بنغازي، في أواخر 1955  ، كان حدثا عميق الدلالة  وخطوة نحـو التقدم في بلد تسود فيه الأمية. كما شكلت الجامعة بيئة جديدة مواتية لخلق الهوية المشتركة بين الليبــيـين ، وخلق نخبة متعلمة منفتحة على العالم وذات ذهنية ناقدة ومتطلعة نحو المستقبل.

وقـد تأسست الجامعة الليبية ، بدءًا بكلية الآداب والتربية في بنغازي وكان عدد طلابها الذين بدأت بهم الدراسة 31 طالبا،  كما افتتـحت مـعـاهد مـتـوســطة لإعـداد المعلمين.  واسـتـقـدمـت إلى الجامعة بعثة من الأساتذة من خيرة الأكاديميين المصريين آنذاك. 

وقد كان إنشاء جامعة في ليبيا حدثـــًًا غير عادي في تلك الفترة . لكن افتتاح الجامعة لم يخلو من مفارقات وتوتر برزت فيها مفارقات العلاقة مع مصر. ويبدو أن بعض زعماء المعارضة الموالية لمصر، كانوا يقولون في البداية أن إنشاء الجامعة قصد به إيقاف البعثات الى مصر .. حتى لا يتشربوا الأفكار القومية. ولم يكن ذلك صحيحًا لأن إيفاد الطلبة الى مصر استمر رغم تأسيس الجامعة.

الهـجـرة غـربــًـا

في الستينيات شــهـدت ليبيا تحولا جوهريا  ، بفضل اكتشـاف النفط ، مما قاد إلى تدفق ريع هائل نسبيا. وهذا بدوره جعل ليبيا منطقة جذب .. أولا لكثير من ذوي الأصول الليبية في غرب مصر. ورافـق ذلك  " اندلاع " موجـة الزواج من مصر.  حتى بلغ عـدد المتزوجـات اليـوم من ليبيين مائة ألف مصرية.  وأخيرا ، جذبت أسواق العمل الليبية عمالة مصرية كبيرة.  وهذه تشكل في مجموعها هجرات جماعية ، ولكن على عكس ما عرفه تاريخ الجوار المصري الليبي الحديث، هجرة من الشرق إلى الغرب.  ومن المفارقات المرة ، ضـياع حـقـوق المطلــّـقـات وحجب الجنسـية عن بعض أبنـائـهـن  وسـط مماحـكــات الأجـهـزة الإدارية في الدولتين.

ولم تخـلـو هـذه التطـورات من مشاكل وردود فـعـل. فالذين عادوا من مصر في زمن النـفـط ، منحوا أوراقا رسـمية تـنسـبهم إلى الصحراء الشرقية  التي أشير إليها باختصار " ص ش" .. وسرعان ما راج مصطلح صاد شـين في العامية الليبية بدلالات ســلبـية كالتـشـكيك في صحة نسـبـهم الليبي.  كما تعكس تحيزا وهـو ، كما هو معروف، أمر شـائع في كل المجتمعات حتى ضد الجماعات المحلية.  ورغم أن المصطلح لم يترجم إلى تحيز يعيق اندماج المقصودين أو يعيق فرصهم في التعليم والعمل إلخ، إلا أنه نـعـت سـاخر وقاسي وظالم وبالتالي مسـتهـجـن. كما أن علاقة الليبـيين بالعمال المصريين الوافـدين لم تخلو من إشكاليات عملية وسيكولوجية قـد تـولـد التميـيـز والغـبـن. 

ويبقى الأمل في ذريــة الزواجـات المختلطـة، وهـم اليوم  جيل شـاب ، حـقق الكثير منهم نجاحا وتأهيلا عاليا ، وعسى أن يكونـوا حلقة وصل بين المـجـتـمـعـين سـتطمس شتى مظاهر الاختلاف والشك ؟

الحـركـة الثـقـافـية الليبية الحـديثة 

كان المدخول الثقافي المصري العنصر الأهـم في تحديث المنــاخ الثقافي الليبي:

فـقـد كانت مجلة الرسـالة تصل إلى ليبيا مـنـذ تأسـيـسها. كما سـاهمت الأفـلام المصرية  في العهد الإيطالي و وصول فرق مسرحية مصرية إلى ليبــيا ، في شـحذ الهوية العربية والإسـلامية. 
وفي أواخـر الأربعينيات والخمسينيات اتـسـعـت دائـرة التفاعل الثقافي الليبي المصري من خلال إيفاد الطلبة للدراسة في الجامعات المصرية، واسـتقدام المدرسين بل  والمناهج التعليمية من مصر.
ولعل أواخر الخمسينيات وعـقـد الستينيات ،  كان حـقـبة الإعـلام الإذاعي بامتياز، وكان لإذاعة القاهرة وصوت العرب والشرق الأوسط  دورها في التوعية السياسية والوحـدوية. وسـمحـت  الدولة الليبية دون تحـفـظ  ودرءًا للمشـاحـنات،  بفتح المراكز الثقافية المصرية ودخول الصحف من الهـلال والمصور .. إلى الكواكب وسـندباد وسـمير.
وفي القاهرة كان النادي الثقافي الليبي بـوتـقـة حـاضـنة تشـكلت فيها شتى التيارات الفكرية والسياسية الشـابة.

مـقـتـرحـــات .. الحـد الأدنى

العلاقات الليبية المصرية تتجاوز القذافي وحسني مبارك .. وأحمد قذاف الدم ومحمد حسنين هيكل .. بل وثورتي يناير في مصر وفبراير في ليبيا. والجوار الجـغـرافي يلزمنا بالاحـتـفــاظ بهـدوء العقل  والتركيز على الإيجابيات والبحث عن حلول عقلانية للمشكلات العالقة، من ذلك: 

1. العمل على عـودة المهاجرين الليبيين المقيمن في مصر، بإصدار قـانون عـفـو عام ، وتقديم المسـاعدات المالية للأسـر المـهـاجرة لتسـديد ديونهم، وضمان عودتهم إلى بيوتـهـم.
2. الإسـراع بتهدئة التـوتر الحالي، وذلك بمنح أهالي منطقة مطروح ميزة خاصة لدخول ليبيا واسـتئناف تجــارتهم عبر الحــدود.
3. السماح للعمالة المصرية بالعودة، ولو لتأثيره الإيجابي في إنعاش الاقتصاد الليبي.

وعلى المدى البـعـيد لابـد من تـنـمية المناطـق المـتاخـمـة بشكل متكامل، وإنـشاء جـامعات مشتركة .. ينسـّـب إليها الطلبة من كل أرجاء البلدين ، على أمل تـنـمية نـخـبة مشتركة أكثر ترابطا وتـفـاهـما . وكذلك إنشـاء مؤسـسـة للدراسات والبحوث لدراسة أنماط العمالة وظروف العمل والمشاكل الثانوية (جريمة ..إلخ). كما يمكننا إنشـاء دار نشر ترعى الكتابات والابداعات المتصلة بالبلدين.

الأزمات عابرة والجوار أبـدي

إن مصر وليبيا جارتان منذ الأزل وإلى الأبد.  تجمع بينهما مشتركات عديدة: اقتصادية وأمنية (بأوسع دلالات الكلمة) وإنسانية. ولا يمكن لأي منهما الاستـغـناء عن الآخـر. والأحـداث  والأزمات التي ذكرناها  تـؤكــد صـدق ما طرحـناه من تعميمات أولية عن الجـوار، فالأزمات عابرة والجوار دائم.  ويفـتـرض أن يســاعدنا هذا التصـور على رؤيـة أية أزمات مسـتجدة بموضوعـيـة تحول دون تـهـويـلـها، بل واحتـوائــها حتى لا تـعـرقـل التـواصل الإنساني الإيجابي الذي يـفـرضـه الجـوار الجـغـرافي. ومهما كانت الأزمات والانفعالات، إلا أن الحياة الطبيعية لابـد أن تسـتأنف بين أي جارتـيـن ! وفي هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها مصر ، من صالح ليبيا أن تدعم اقتصاد واسـتــقـرار جارتها الكبرى، ومن الخطـأ الحديث عن صفقات  .. وإلا سـندفع مرغمين ثمن أي زعزعة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق