الرحيل الحزين للرئيس الفنزويلي هوجو شافيز أبكى فقراء فنزويلا وأميركا
اللاتينية، الذين خسروا بموته حلماً عزيزاً على قلوبهم، وكان للقارة
الشابة مع بزوغه قبل أربعة عشر عاماً تباشير أمل بدخول عصر جديد من التغيير
السياسي والمجتمعي عبر صناديق الاقتراع.
كتب - عامر راشد
عصر دخلته المجتمعات الأميركية اللاتينية باندفاع قوي،
لكنه مازال في مرحلة التأسيس لحقبة ما بعد ديكتاتوريات العسكر وحكم الطغم
المالية (الأوليغارشية).
دراما أميركية لاتينية بامتياز، أوصلت
شافيز إلى رئاسة فنزويلا عام 1999، ومن بعده العامل البسيط لولا دا سيلفا
إلى رئاسة البرازيل، والهندي الأحمر إيفو موراليس إلى رئاسة بوليفيا،
ورفائيل كوريا إلى رئاسة الإكوادور، ودانييل أورتيغا مرَّة ثانية إلى رئاسة
نيكاراغوا، تؤشر إلى تحولات عميقة تعيشها مجتمعات تلك الدول، بتوجه واسع
نحو اليسار الاجتماعي طال أيضاً كلاً من الأرجنتين والسلفادور وتشيلي
والمكسيك والعديد من الدول الأخرى، وهو ما بعث خوفاً حقيقياً عند واشنطن،
التي كانت تتعامل مع دول أمريكا اللاتينية كمجرد حديقة خلفية للبيت
الأبيض، لا يمكن أن تشب عن طوق بيت الطاعة الأميركي.
قبل تسعة عشر
عاماً، وبعد ثلاث سنوات ونصف قضاها في السجن كعقوبة على الانقلاب الذي
قاده في شباط (فبراير) 1992، خرج شافيز ليبدأ بتحضير نفسه لسباق الرئاسة
1998، وبالفعل استطاع أن يحقق النصر على ثلاثة عشر منافساً، حاصداً 54% من
أصوات الناخبين، بكسبه أصوات أبناء الطبقات الفقيرة والمهمشة، الذين يشكلون
80% من شعب بلد غني بالنفط والحديد والذهب والألمنيوم، وجرى ذلك بعد أحد
عشر عاماً من قمع السلطات الفنزويلية للتحركات الجماهيرية احتجاجاً على
الفقر والبطالة والغلاء والنهب المنظم وسطوة الاحتكارات الأجنبية، والتي
سقط فيها ثلاثة آلاف قتيل وآلاف الجرحى من ساكني أحياء كاركاس الفقيرة،
وكانت الدافع وراء انقلاب 1992 الذي رفع شعاري السيادة الوطنية والعدالة
الاجتماعية.
ومنذ انتخابه رئيساً لفنزويلا مرّ الرئيس شافيز
بالعديد من الامتحانات الصعبة، أخطرها، انقلاب 11 نيسان 2002 الذي استمر
لمدة 48 ساعة وأسقطته الجماهير الشعبية الفنزويلية، التي حاصرت الانقلابيين
في القصر الرئاسي ومعسكرات الجيش ومنعتهم من التحرك، وأعادته إلى سدة
الرئاسة. كما جرت في عهده ست انتخابات واستفتاءات حاسمة بحضور مراقبين
دوليين من الاتحاد الأوروبي، ومؤسسة كارتر الأميركية والاتحاد الأوروبي،
فأثر انتخابه أجرى شافيز في شباط 1999 استفتاء على تغيير الدستور، نجح
بنسبة 68%، بعدها بستة أشهر تم انتخاب جمعية تأسيسية أكملت صياغة الدستور
الجديد، وطرح على الاستفتاء وفاز بما نسبته 80% وبعدها ألغى كل السلطات
المحلية المنتخبة، ليعاد انتخابها على أساس الدستور الجديد. وفي عام 2000
دعا إلى انتخابات رئاسية مبكرة، وفاز فيها بأكثر من 60% لكن أحزاب اليمين
لم تعترف بنتيجة هذه الانتخابات رغم تقارير المراقبين الدوليين الذين
أشادوا بنزاهتها، وفي العام 2003 وحسب ما ينص عليه الدستور قام تحالف
اليمين بتجميع ما يلزم من الأصوات بغية إسقاط شافيز من خلال الاستفتاء على
استكماله لولايته الرئاسية.
ورغم الشكوك التي حامت حول صحة
التوقيعات قبل شافيز إجراء الاستفتاء، وتم في الخامس عشر من آب 2004، وفاز
فيه بـ 56% ومرة ثانية لم تُسلم أغلبية تيار اليمين بالخسارة، رغم الشهادات
الدولية بنزاهة عمليات الاقتراع فكان أن أعلن الإضراب الكبير في قطاع
النفط، ونتج عن ذلك خسارة فاقت العشرة مليارات دولار أمريكي، ولم يضيّع
الوقت، وانتهز الفرصة، وقام بإحضار خبراء من الجزائر والهند، أعادوا تشغيل
القطاع النفطي، وأصدر قراراً بفصل كل العمال والتقنيين الذين رفضوا العودة
إلى العمل.
وهكذا استطاع شافيز عملياً وضع يده على قطاع النفط، بعد
أن كانت الحكومة الفنزويلية لسنوات طويلة لا تعرف بدقة الكميات المصدرة من
النفط ولا العائدات أو الأرباح، التي كانت تصب في حسابات الشركات
الأميركية، وسماسرتها. وترافق ذلك مع الطفرة العالمية في أسعار النفط، وهو
ما عاد على الخزينة الفنزويلية بموارد ضخمة، استطاعت أن توظفها في برنامجها
الاقتصادي والاجتماعي للبدء في إعادة هيكلة الاقتصاد وإصلاح القطاع العام،
وإعادة بناء القوات المسلحة وأجهزة الأمن ودعم قطاعي التعليم والصحة.
وخاض
معركة الانتخابية الأخيرة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي وفاز
فيها بـ54,42% من الأصوات مقابل 44,97% لمرشح المعارضة انريكي كابريلس
رادونسكي، لتبدأ بعدها معركته التي خسرها مع مرض السرطان.
وضمن
مسعاه لبناء سياسة اقتصادية مستقلة، كشرط لقيام تنمية مستدامة، كان لا بد
أن يصطدم مع واشنطن، وعلى ضوء اتهامها لنظام شافيز بأنه بات يمثل عامل عدم
استقرار في أميركا اللاتينية، ويهدد مصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة،
وبالمقابل، اتهامه لواشنطن باستمرار سعيها للانقلاب على نظام حكمه، والتدخل
بالشؤون الداخلية لبلاده، ومحاولة فرض هيمنتها الاقتصادية والسياسية على
دول أميركا اللاتينية، بات كل منهما يعتبر الآخر عدوه الأول إبان حكم
"المحافظين الجدد"، وما كان للرئيس بوش الابن أن يسامح الرئيس شافيز على
إفشاله لاتفاقية إقامة منطقة تجارة حرة لدول القارة الأميركية، الصادرة عن
مؤتمر قمة كيبك في كندا الأول من كانون الثاني (يناير) 2001، حيث وافقت
عليها 33 دولة من أصل 35، وامتنعت فنزويلا في حين غابت كوبا لأنه لم تتم
دعوتها.
شافيز رفض الاتفاقية لأنها برأيه تكرس الهيمنة الأميركية،
وتحوِّل الدول اللاتينية إلى سوق استهلاكية للبضائع الأميركية والكندية،
وبقي يعمل على إفشالها، وعندما حل موعد نفاذها في 1/1/2005 اقتصرت
التوقيعات على الولايات المتحدة وكندا بالإضافة إلى أربع دول هامشية.
وتعدُّ هذه المعركة بحق واحدة من أكبر المعارك التي كسبها.
بيّد أنه
ورغم كل ما تحقق من تغييرات في فنزويلا وأميركا اللاتينية مازال البعض
يحاكم تجربة شافيز، وتجارب أقرانه في الدول اللاتينية الأخرى، باعتبارها
تحولاً قابلاً للانتكاس بفعل سطوة قوى المعارضة اليمينية الداخلية، وبنية
مؤسسات الدولة والجيش والأمن المخترقة من أنظمة الحكم السابقة، وموروث
المعضلات الاقتصادية والاجتماعية، والعداء الأميركي لقوى التغيير اليسارية
الاجتماعية.
وتثار تخوفات من أن يشكّل رحيل شافيز عتبة لانقلابات
مضادة برعاية من واشنطن، إلا أن هذه التخوفات تتجاهل حقيقة أن التحولات
باتت تستند إلى أرضية اجتماعية صلبة ليس من السهل تفتيتها وإعادة العجلة
إلى الخلف، فالتغيير السياسي الاجتماعي في أميركا اللاتينية لم يعد ظاهرة
محاصرة، كما كانت كوبا على مدار أربعة عقود من الزمن، بل أصبحت ظاهرة تقود
قاطرة تاريخ القارة الشابة نحو فجر جديد، رحل شافيز قبل أن تكتمل مسيرة
التغيير على نحو حاسم، وكان يمكن لشخصيته الكاريزمية أن تلعب دوراً كبيراً
في مجرياتها، لكن الموت قال كلمته كلاعب رئيس منذ الأزل في عملية التجديد
وخلط الأوراق.
(المقال يعبر عن رأي كاتبه)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق