السبت، 5 يناير 2013

#ليبيا تفاؤل حذر: هل أفلتت ليبيا بعد الثورة من سيناريو الدولة الفاشلة؟#ديرك فاندويل

عرض : طارق راشد عليان، باحث علوم سياسية :
==========================
أدى مقتل السفير الأمريكي في ليبيا، كريستوفر ستيفنز، وثلاثة أمريكيين آخرين، أثناء هجوم نفذه حشد غاضب من الناس على القنصلية الأمريكية في بنغازي في 11 سبتمبر 2012 ، إلى تركيز انتباه العالم على مشكلات ليبيا فيما بعد القذافي. فقد أظهرت أحداث الشغب كلا من قوة الميليشيات الإسلامية، وعجز الحكومة في طرابلس عن توفير الأمن، والحفاظ على النظام في شتى ربوع البلد. فالانفلات الأمني والفساد متفشيان، ولا تزال الأسئلة الأساسية حول هيكل المؤسسات السياسية والاقتصادية الليبية وعملها تبحث عن إجابة.لكن هذه المشكلات لا ينبغي أن تحجب حقيقة أن القصة الكبرى عن ليبيا الجديدة إيجابية، فسيناريوهات أسوأ الافتراضات التي شاع التنبؤ بها منذ عام مضى لم تتحقق. وهناك في واقع الأمر مسوغات للتفاؤل المشوب بالحذر بشأن المستقبل، بحسب تحليل لديرك فاندويل، في مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية.
منذ عام ونصف عام، بدت ليبيا كما لو أنها ستكون البلد الذي شهد نهاية الربيع العربي. فبعد أن تمخضت الانتفاضات الشعبية عن الإطاحة السلمية بالديكتاتورين في تونس ومصر المجاورتين، تحولت الثورة الليبية إلى حرب أهلية دموية. وحتى عندما أطاح المتمردون في نهاية المطاف، وبمساعدة من الغرب، بنظام معمر القذافي في أغسطس 2011، كانت هناك الكثير من العقبات. فالليبيون – كما يقول ديرك فاندويل – لديهم حس ضئيل بالهوية الوطنية للدولة، ولا يملكون أية خبرة في الديمقراطية. وقد تولت قيادة البلد حكومة انتقالية لم تكن محتكِرة لاستعمال القوة. ولبناء دولة ناجحة، كان يتعين على ليبيا أن تتغلب على ميراث عقود أربعة من الحكم الديكتاتوري، حال خلالها القذافي دون تطور مؤسسات وطنية حقيقية.
أسباب السلاسة في التحول الليبي
لكن الآن، وخلافا للتوقعات، تبرز ليبيا كواحد من أنجح البلدان التي تخرج من الانتفاضات التي هزت العالم العربي على مدى العامين الماضيين. ففي 7 يوليو 2012 ، أجرت ليبيا أول انتخابات وطنية تشهدها منذ سقوط القذافي، صوّت خلالها المواطنون في سلام لاختيار المؤتمر الوطني العام الجديد المؤلف من 200 عضو. وبعد ذلك بشهر واحد، قام المجلس الانتقالي الوطني- الذي برز بصفته القيادة السياسية للمعارضة أثناء الأيام الأولى من الحرب الأهلية – بنقل صلاحياته رسميًا إلى المؤتمر الوطني العام. وسوف تتولى الآن لجنة مهمة صياغة دستور البلاد الذي سيُطرح بعدئذ على الشعب في استفتاء عام. وقد سارت كل هذه التطورات وفق الجدول الزمني الذي وضعه المجلس الانتقالي الوطني في خضم الحرب. هناك صعوبات هائلة في الطريق، لكن السلاسة غير المتوقعة للتحول السياسي في ليبيا، حتى الآن، تمثل إنجازًا بالنسبة لبلد لا يزال يترنح، نتيجة عقود من ديكتاتورية القذافي.
رأى كثير من الباحثين في الشأن الليبي أن افتقار البلد إلى التطور المؤسسي نذير سوء بمستقبله كدولة ديمقراطية. غير أن السنة الماضية تشير إلى أن ليبيا استفادت بالفعل من اضطرارها إلى البدء من الصفر تقريبًا في بناء دولة فاعلة. فعلى خلاف تونس ومصر- اللتين أثبتت المؤسسات المستحكمة بعمق فيهما، كالقوات المسلحة والنظامين البيروقراطيين القويين، مقاومتهما للإصلاح – لم يكن قادة طرابلس الجدد في حاجة إلى تفكيك مؤسسات كبرى تمثل بقايا النظام القديم، بحسب الفورين أفيرز.
لا تؤذن الإنجازات التي حققتها ليبيا أخيرا إلا ببداية ما يبشر بأن تكون عملية طويلة وصعبة لإصلاح البلد الذي مزقته الحرب. لكن إذا كانت هناك أية دلالة في الانتخابات التي أجريت في يوليو 2012، فإن معظم الليبيين عاقدو العزم على بناء مجتمع سياسي يحترم الاختلافات في الرأي، ويحل النزاعات من خلال عمليات ديمقراطية، وهو شيء لم يتمتعوا به من قبل قط.
سلبيات وإيجابيات التحول الليبي
عقب سقوط القذافي، تنبأ قليل من المراقبين بأن ليبيا، بتاريخها المضطرب، سوف تخرج كدولة ناجحة. فالمَلَكية الليبية، التي حكمت من 1951 إلى 1969، لم تفعل إلا القليل لإزالة الشكوك المتبادلة التي لا تزال تتسبب في الانقسام بين طرابلس وبرقة وفزان – الأقاليم الثلاثة التاريخية التي يتألف منها البلد – التي كانت تشكل مملكة ليبيا. كما أخفق الملك إدريس أيضًا في إنشاء أية مؤسسات وطنية، فيما عدا الجهاز الأساسي تمامًا الذي تتألف منه أية دولة حديثة، فيما صارت الثروة النفطية الهائلة تهيمن على الاقتصاد والسياسة في البلد. وعندما طرد القذافي الملك إدريس في سنة 1969، عزز سلطته، وفرّغ المؤسسات الوطنية القليلة- مثل جيش البلد الضعيف- التي تمكنت الملكية من إنشائها.
خلال الحرب الأهلية التي شهدتها ليبيا أخيرا، بدا أن الأحداث، من قبيل اغتيال أحد كبار القادة العسكريين للمتمردين في يوليو 2011، وهو عبد الفتاح يونس، على أيدي أفراد ميليشيات مناهضة للقذافي، وما نتج عن ذلك من فوضى داخل المعارضة، تُظهر أن المجلس الانتقالي الوطني سوف يثبت هو الآخر أيضا عدم قدرته على ترميم هذه الشروخ التاريخية. وحتى بعد نجاح المتمردين، فإن العشرات من الميليشيات القوية – التي يتألف بعضها من محاربين ثوار حقيقيين، وبعضها الآخر من مجرد بلاطجة مسلحين- هددت سيطرة الحكومة الانتقالية على البلد. لقد كان هناك تشاؤم حيال مستقبل ليبيا لدرجة أن عددا من وسائل الإعلام الدولية والمحلية، من ضمنها ليبيا هيرالد، باكورة الصحف الليبية المنشورة باللغة الإنجليزية، أشارت على نحو منتظم إلى أن ليبيا سوف تصبح الدولة الفاشلة التالية في العالم، حيث ستمزقها الصراعات القبلية والإقليمية إربا، ويُفسدها كل من الأموال النفطية، وسياسات “فرق تسد” القديمة ذاتها التي أبقت على النظام السابق متحصنا لمدة تزيد على أربعة عقود من الزمن.
على الرغم من أن ليبيا لم تنفجر من الداخل، فإن الانفلات الأمني- كما يدل عليه مقتل السفير الأمريكي – والفساد لا يزالان باقيين، ولا يزال الثوار ينفذون القانون بأيديهم، حيث قام أعضاء الميليشيات المارقة بتعذيب المحتجزين الذين ألقوا القبض عليهم أثناء الحرب الأهلية والاعتداء عليهم. ولا تزال المدن تعاني من أعمال النهب والسطو، ومخططات الحماية الشبيهة بعصابات المافيا. وفي الجزء الجنوبي من البلد، تخوض القبائل الليبية المحلية حربًا ضد جماعات التبو على السيطرة على ممارسة تهريب السلع عبر الحدود، بما تحقق من أرباح وفيرة، والتي يبدو أن الحكومة عاجزة عن احتوائها. ومما ينذر بالخطر أن جزءًا كبيرًا من أعمال التهريب هذه يشتمل على أسلحة، بما فيها قذائف صاروخية موجهة بالحرارة، وقنابل صاروخية، منهوبة من المستودعات التي تعود إلى عهد القذافي.
ولعل الأمر الأشد إثارة للقلق أن الحكومة اتخذت خطوات أقل مما ينبغي نحو ضمان العدالة الانتقالية والمصالحة، وهي القضية التي قلما كانت جزءًا من النقاش السياسي خلال الفترة التي سبقت الانتخابات التي أجريت في شهر يوليو الماضي. فالآلاف ممن يشتبه في ولائهم للقذاف يلا يزالون يرزحون في سجون لا تسيطر عليها الحكومة، بل تسيطر عليها ميليشيات أو جماعات أمنية محلية، يبدو كثير من أعضائها مهتمين بتسوية حسابات شخصية أكثر من اهتمامهم بتحقيق العدالة. وفي هذا السياق، فإن طرد الطوارق وإساءة معاملتهم يبرزان كبقعة سوداء في وجه الحكومة الجديدة ، بحسب الفورين أفيرز.
غير أن إلقاء نظرة أدق على ما حققته ليبيا يتمخض عن صورة أكثر تفاؤلًا. فقدرة المجلس الانتقالي الوطني على تنظيم انتخابات وطنية، واستعداده لتسليم السلطة إلى مؤتمر وطني منتخب في أغسطس 2012، يدلان على أن ليبيا بدأت في بناء مؤسسات سياسية ذات مغزى، ربما لم تبلغ الانتخابات حد الكمال من كل النواحي. وقد وردت تقارير في الجزء الشرقي من البلاد تتحدث عن تعرض صناديق اقتراع للإتلاف. لكنها على الرغم من ذلك، لاقت استحسانًا واسعًا من نحو 27 ألف مراقب محلي ودولي. وفي نهاية المطاف، تبشر الانتخابات بتعزيز ثقة الجمهور في قادته الحاليين، مما يوفر للحكومة الجديدة الشرعية الشعبية التي افتقرت إليها سابقتها.
ويرى تحليل الفورين أفيرز أن ليبيا بدأت- ببطء لكن بثقة – تتحول إلى بلد أكثر تكاملًا مع وجود حكومة وطنية قادرة على التصرف بفعالية. فقد وسعّت السلطات المركزية في ليبيا سلطتها على حساب كثير من الميليشيات التي لا تزال تنازع طرابلس سيطرتها على البلد. وقد أعادت جميع المدارس في ليبيا فتح أبوابها، وتشهد تجارة التجزئة ازدهارًا. وبدأت الحكومة الجديدة في إعادة تنظيم الجهاز البيروقراطي، كما بدأت المحاكم تعمل على نحو أكثر استقلالية.
ففي يونيو 2012 ، على سبيل المثال، ألغت المحكمة الليبية العليا قانونًا يشكل علامة بارزة سنّه المجلس الانتقالي الوطني، وكان فيما يبدو يهدف إلى تقييد حرية التعبير. في هذه الأثناء، نشأت المئات من منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام الجديدة. وبعد أن حُرم المواطنون الليبيون من إبداء آرائهم لمدة 42 سنة، فإنهم يطالبون الآن بحقوقهم في التنظيم النقابي، والتعبير عن أنفسهم ويمارسونها.
لعل الأهم من هذا كله، وفقاً للفورين أفيرز، هو حقيقة أن الليبيين فيما يبدو الآن يشتركون في القناعة بأن بلدهم حر، وغير قابل للتجزئة، رغم كل الخلافات الداخلية. وعلى الرغم من أن أنصار الدولة الفيدرالية في إقليم برقة يواصلون ضغطهم للحصول على درجة من الاستقلالية، وتجادل جماعات أخرى مطالبة بامتيازات خاصة، فإن حملاتهم لا تُظهر بوادر تدل على تمزيق البلد. ولم تجتذب الحركة الفيدرالية في برقة، التي التفت الآن حول حزب سياسي، إلا قليلًا من الأنصار، وتشهد تفتتًا مع مرور الوقت. وقد ساعدت الحاجة إلى تسويق نفط البلد، من خلال بنية تحتية مادية متكاملة، وإدارة بيروقراطية موحدة، فى إحكام ترابط أجزاء ليبيا، مثلما ساعدت على ذلك في الماضي.
وفي هذه الأثناء، بدأت قوة الميليشيات في البلد تتآكل ببطء، حيث اندمجت بعض الجماعات المسلحة في المؤسسات الوطنية، مثل الشرطة، والجيش، أو تلقت تدريبًا لشغل وظائف مدنية. ووفقا للتقديرات غير الرسمية التي تتناولها وسائل الإعلام الليبية، سيتم تدريب نحو 250 ألف شخص آخرين في غضون السنة المقبلة. فقادة ليبيا الجدد يدركون أن وضع الميليشيات تحت السيطرة سيكون عملية مطولة سوف تعتمد- على مدى المستقبل المنظور- على المكافآت، مثل اعتمادها على الإقناع.
وفيما تقوم الحكومة بتوزيع حوافز مالية على الميليشيات، سوف يتعين عليها الحفاظ على توازن دقيق، بحيث تضمن ألا تتحول هذه المنح المؤقتة إلى استحقاقات دائمة. عندئذ فقط، يمكنها أن تتجنب ذلك النوع من سياسة المحسوبية الذي أصبح من الملامح الأصيلة لسنوات حكم القذافي. وعلى الرغم من أن قدرات الحكومة لا تزال محدودة، فيجب أن تتحرك ليبيا لتحقيق المزيد من التطوير في مؤسساتها الأمنية، والسياسية، والاقتصادية الوليدة.
خريطة القوى السياسية بعد الانتخابات
أظهرت الانتخابات الليبية، التي أجريت في شهر يوليو 2012، أن الطريق لا يزال طويلا أمام النظام السياسي في البلد، كي يصل إلى مرحلة النضج. لقد وجدت الأحزاب صعوبة في صياغة برامج سياسية متماسكة، لذا صارت تُميَّز بالأفراد، لا بالأفكار، وبدا أن الجمهور لا يملك إلا فهمًا أوليًا للعمليات والإجراءات السياسية في البلد.
ورغم هذه النقائص، فقد تم تصميم نظام انتخابي يضمن عدم هيمنة جماعة سياسية معينة على البلاد. فقد أسفرت النتائج عن حصول تحالف القوى الوطنية، بقيادة محمود جبريل، على 39 مقعدا من بين 80 مقعدا مخصصة للأحزاب في المجلس الذي يضم 200 مقعد. أما الذراع السياسية للإخوان المسلمين في ليبيا، وهي أكبر حزب إسلامي في البلاد، فقد حصلت على 17 مقعدا فقط في أول انتخابات حرة تشهدها ليبيا. وهناك 120 مقعدا في المؤتمر الوطني مخصصة لمرشحين مستقلين، يصعب تحديد ولاءاتهم. ولعل هذه النتائج خلقت ما يمكن تسميته سياسة الحلول الوسط في العملية السياسية.
وسرعان ما بدأ عدد من المعلقين الغربيين في الاحتفال بهزيمة الإسلاميين في ليبيا على أيدي ائتلاف جبريل ذي التوجه الليبرالي، غير أن مثل هذه الاحتفالات سابقة لأوانها. فالحقيقة هي أن الأحزاب السياسية الليبية كافة، بما فيها ائتلاف جبريل، تحتفظ بالإسلام كجزء من برامجها السياسية، وهي لا تختلف إلا في طبيعة الدور الدقيق الذي تمنحه للدين في الحياة اليومية.
علاوة على ذلك، فإن الأداء الضعيف الذي حققه حزب العدالة والتنمية لا يتعلق بالأيديولوجية بقدر ما يتعلق بحقيقة أن القذافي استأصل عمليا شأفة الإخوان المسلمين في ليبيا، تاركًا لها موارد تنظيمية قليلة، عقب الحرب الأهلية.
وترى الفورين أفيرز أنه في الانتخابات المستقبلية في ليبيا، وفيما تبدأ ذكريات المجلس الانتقالي الوطني وقياداته في التلاشي، وينظم حزب العدالة والتنمية والأحزاب الإسلامية الأخرى نفسها بشكل أفضل، وتصيغ برامج سياسية أكثر تطورًا وتفصيل، سوف يكسب الإسلاميون على الأرجح أرضًا في السياسة الليبية. وعلى الرغم من ذلك، فإن معظم الليبيين يبدون مصممين على الحيلولة دون هيمنة حزب سياسي واحد، أو حركة سياسية واحدة على حكومتهم حديثة العهد بالديمقراطية.
وسيتمثل التحدي الأكبر الذي يواجه ليبيا في تعزيز مجتمع سياسي حقيقي. فعلى خلاف ما هو كائن في معظم الغرب، الذي تطورت البلدان ذات الهويات الوطنية القوية فيه إلى ديمقراطيات انتخابية، سوف يتعين على ليبيا أن تبني هوية وطنية، انطلاقًا من ديمقراطيتها حديثة النشأة. وسوف تحتل صميم هذا الجهود كتابة الدستور، وهو عقد اجتماعي يمكنه أن يحول السياسة غير المحددة وغير الرسمية، التي سادت إبّان عهد القذافي، إلى قواعد صريحة. وفي الشهور المقبلة، سوف يتعين على اللجنة الدستورية الليبية، التي ينتمي أعضاؤها بشكل متساو إلى أقاليم ليبيا التاريخية الثلاثة، وضع تصميم دستوري يغري مختلف الفئات في ليبيا بقبول مشروع وطني بحق.
مشكلات إدارة “دولة ريعية”
يلفت ديرك فاندويل إلى أنه يتعين أيضًا على قادة ليبيا الجدد أن يجدوا سبلًا أفضل لإدارة موارد البلد النفطية واقتصاده. فقد تمكن القذافي من إدامة حكمه بإساءة استعمال هذه الموارد، وإنشاء اقتصاد شديد المركزية بلا تنظيم. إلا أن هذا الاقتصاد يعاني الآن من كل تبعات الإهمال طويل المدى، مثل افتقاره إلى مبادرات الأعمال، ومعاناته من قطاع عام مترهل، ومن نظامين ضعيفين للرعاية الصحية والتعليم، ومن بنية تحتية متدهورة، ابتداء من الإسكان المملوك للحكومة، وانتهاء بالطرق، وخطوط الأنابيب.
ولا يتسم اقتصاد ليبيا بالتنوع الكافي، فقطاعه النفطي لا يمكنه أن يبدأ في توفير فرص عمل كافية لتشغيل الأعداد الكبيرة من الشباب التي تعاني من البطالة. وعلى الورق، تبدو الأرقام الاقتصادية للبلد على المدى القصير جيدة. فقد عاد إنتاج النفط، بشكل أو بآخر، إلى ما كان عليه قبل الحرب الأهلية. ويتوقع المسئولون في المؤسسة الوطنية للنفط أن تنتج ليبيا مليون برميل إضافي يوميًا في غضون سنتين. ووفقًا لتقرير صادر عن مؤسسة “بيزنس مونيتور إنترناشيونال”، فإن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في ليبيا من المتوقع أن يرتفع بنسبة 59% في سنة 2012، بعد انخفاض بنسبة 49% تقريبًا في سنة 2011. لكن هذه التوقعات المشجعة تخفي حقيقة أنه من دون إصلاحات اقتصادية كبرى، لن يكون في مقدور ليبيا أن تتجاوز وضعها كـ”دولة ريعية”.
ويؤكد ديرك فاندويل أن تحفيز الاقتصاد وتنويعه سيتطلب من طرابلس تشجيع مبادرات الأعمال، من خلال البرامج الحكومية، وكذلك إلغاء آثار عقود من سياسات المحسوبية القائمة على النفط. والمفارقة أنه كي يعالج قادة ليبيا الجدد هذه المشكلات، لا بد لهم من أن يتدخلوا بقوة في السوق الآن للحد من وجود الدولة في الشئون الاقتصادية على المدى الطويل. وتُثبت خبرات البلدان الأخرى الغنية بالنفط التي خرجت من حروب أهلية، مثل نيجيريا، أنه ما لم تُمح أنماط المحسوبية بقوة من البداية، فإنها سرعان ما ترسخ نفسها من جديد. فالنخب القديمة تميل إلى تعزيز قوتها ونفوذها مرة أخرى. وهذه الأنماط لا يمكن تجنبها إلا بزيادة الشفافية، والحكم الرشيد، وبتوسيع إمكانية مشاركة السكان في الاقتصاد.
ما هو المطلوب لميلاد الدولة؟
بناء دولة، وتعزيز هوية وطنية يستغرقان وقتًا، ويتطلبان قيادة جيدة، واستعدادًا للتوافق، ويصدُق هذا بوجه خاص على الأوضاع في ليبيا. ويرى فاندويل أن المجلس الوطني الانتقالي فشل إلى حد كبير، في الشهور التي سبقت الانتخابات، في سن تشريع ذي مغزى، كما نفّذ قرارات تعسفية إلى حد ما. فالقانون رقم 36، على سبيل المثال، الذي استهدف الأصول المملوكة للأفراد الذين تجمعهم روابط بالقذافي كان إجراء متعجلًا من منظور سياسي، لزم في نهاية المطاف تعديله. وعند تسليم السلطة إلى المؤتمر الوطني العام في أغسطس 2012 ، اعترف رئيس المجلس الوطني الانتقالي، مصطفى عبد الجليل، ببعض أخطائه، ولا سيما في استعادة الأمن إلى البلد، لكنه أوضح أيضًا أن السلطة المؤقتة في البلد تولت الحكم في “أوقات استثنائية”. ولهذا السبب، فإن كثيرًا من الليبيين، حتى أولئك الذين اختلفوا علانية مع المجلس الوطني الانتقالي ، يشتركون في قدر من الاحترام لما أنجزه أعضاؤه.
ويشير تحليل الفورين أفيرز إلى أن المهام التي تنتظر الحكومة الليبية شاقة وعديدة، ومنها توفير الأمن والنظام، والموازنة بين السلطة المركزية والإقليمية، وتوسيع سيادة القانون وتعزيزها، وتوفير العدالة الانتقالية، وتعزيز حقوق الإنسان، وترسيخ حس بالهوية الوطنية بين الليبيين كافة.
وعلى الرغم أن بعض الأحداث، مثل الهجمات الأخيرة التي نفذتها جماعات إسلامية على أضرحة صوفية، طرحت علامات استفهام حول كيف ستستمر الاختلافات الدينية العميقة في ليبيا في عرقلة إنشاء مجتمع سياسي متناغم. لكن الصورة الكبرى لعملية التحول ينبغي أن تبعث على الأمل. فبعد سنة فقط من سقوط ديكتاتورية حرمت الليبيين من أي دور سياسي، بدأت تبرُز دولة حديثة، على الرغم من كل ما يبدو من عقبات وتحديات.
إذا واصل الليبيون هذا التقدم وترسيخ جذوره، فمن المحتمل أن تثبت ليبيا أنها استثناء مما يسمى لعنة الموارد الطبيعية، وهي القاعدة التي تبدو ثابتة، وتقول إن البلدان المصدرة للنفط مكتوب عليها الاستبداد والركود. الأكثر من ذلك أن ليبيا ربما تُثبت قيمة البدء من الصفر عند إعادة بناء بلد مزقته الحرب. فلا يمكن أن يكون أحد قد تنبأ بأنه من تحت الحطام لنظام القذافي، وحرب أهلية دموية، سوف تتمكن ليبيا من إقامة حكومة فعالة.
ومع ذلك، فإن كل المؤشرات تدل على أنها تفعل ذلك. لقد أتيح لقادة ليبيا فرصة قلما أتيحت للثوار الناجحين، وهي البدء من جديد، مع وجود موارد مالية وفيرة، وحرية بناء دولة، على النحو الذي يرونه مناسبًا. ومع بروز ليبيا الجديدة، يتعين على الغرب أن يواصل لعب دور داعم بالغ الأهمية، وذلك مثلما فعل أثناء الحرب الأهلية. وينبغي ألا يثني موت ستيفنز الولايات المتحدة عن العمل عن كثب مع طرابلس، لأن السفير نفسه كان يدرك أن انخراط الولايات المتحدة وحدها هو الذي يمكنه من أن يوفر الخبرة والدعم اللذين تحتاج إليهما ليبيا لترسيخ ديمقراطيتها.
========
* أستاذ مساعد لإدارة الأعمال في كلية دارتموث
المصدر : السياسة الدولية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق