الاثنين، 8 يوليو 2013

كم هم لطفاء جداً لــ/مجد العماري

الكاف

يسبب لي شعري معاناة حقيقية فأنا أُطيله دائماً، ونادراً ما أقصه بشكلٍ طفيف، جعد، وعندما أكون في الشارع، فإن نسمة هواء بسيطة تكفي لأن تحولني إلى غول، فيهرب الأطفال من أمامي، وكأن وجهي هو وجه ميدوسا، أو أكون عرضة للسخرية من قبل من لديه عقدة ما.

آهٍ من شعري الطويل، أتعبني كثيراً دون أن يقصد !

منذ فترة تم اعتقالي / إختطافي... كنت خارجاً في رحلتي المعهودة للبحث عن عمل، وقفت سيارة تتبع لجهاز ثوري شرعي ما، نزل رئيس الدورية أمام باب البيت و رحّب بي على طريقته الخاصة...

 استغربت طريقته! فبدلاً من أن يصافح يدي، صافح وجهي بحرارة، ليمزق إحدى شفاتي، ويطير سنّا من فمي، ويسقط على الشارع.

ثمّة شعوب ــ كما قرأت ــ لديها عادات غريبة بالمصافحة، كتقبيل الأنف! خمنت أن يكون رئيس الدورية من تلك الشعوب.

ثم ركلني رفاقه بمحبة إلى السيارة، وذهبنا إلى فرع الأمن الخاص بهم، حزنت كثيراً لأجل سني المخلوع، وتخيلت كيف سيدوسه أحد أطفال الحي، فيهرسه وهو يلعب بالكرة. آهٍ من سني المخلوع! صرت أكبر منه!

في الفرع رموني بمودة في زنزانة، فيها شبان، استطعت وبصعوبة أن أجلس في الزاوية.

كانت صرخات هائلة تقتحم جدران زنزانتنا من كل الجهات، حظهم جميل نزلاء الزنازين المجاورة، لديهم تلفزيونات، وهم الآن أنهم يتابعون مباراة ريال مدريد وبرشلونة، ويشجعون بصخب.

مرت ساعة، وأنا أراقب من تلك الكوة في سقف الزنزانة، تسلل الليل إلى الفضاء، وثمة ضوءٌ طفيف للقمر يعبر الكوة ليتناثر بين أجسادنا.

مصادفة لمحت على جدار عن يساري عبارة (احبك لينا)... كلمة (أحبك) جعلتني أتنهد، فتحت فمي، والتقطت منه سنّاً آخر كان على وشك السقوط، ثم نحت بسني أسفل تلك العبارة قلب حب، وثمة سهم غير مدبب مغروس به ... انتهيت، فوضعت سني بجيب قميصي.

آهٍ من النساء ! إنهنّ لا يؤمنّ أبداً بأنّ "الرجل نصف المجتمع".

كدت أن أختنق بسبب صمت الشباب، فاستدرت في الظلام إلى يميني، ثم شهقت وأنا أقول لجاري:

ـــ مرحبا ... "فلان" أنت هنا ؟!

ـــ مرحبتين ... لكن أنا لست "فلان" ... من "فلان" ؟!

طبعاً هذه حيلة من إبداعي، لأفتح حديثاً مع من يجلس إلى جواري.

عندئذٍ فُتح باب الزنزانة، وصرخ أحد العناصر باسمي، شعرت بالسعادة، نهضت، وأنا أتمتم:

ـــ حان موعد العشاء

مشيت نحو الباب، وقبل أن أخرج سألت الشباب:

ـــ توصوا بشيء ؟

لم ينبس أحد بحرف، فتنفست الصعداء، وخرجت ... عند ذاك ركلني العنصر على رجلي، فسقطت، أمسكني هو من رجل، وزميله أمسكني من الرجل الثانية، ثم جرّاني بسرعة في هذا الممر الطويل والمعتم.

كم هما لطيفان، لا يريداني أن أمشي، كي لا أتعب رجليّ... فعلاً أخجلني لطفهما.

في غرفة المحقق، كان على الأرض شابٌ نحيلٌ و عار، مضرج بدمائه، ومغميٌّ عليه، وكان المحقق يصوره بعدسة جواله، وعندما انتهى، حمله أحد العناصر إلى الخارج.

نظر إليَّ المحقق، فابتسمت له... صاح بي:

ـــ لماذا شعرك طويل ؟

ـــ لأن حلاق حينا أزلام، وأنا أقاطعه منذ بداية المؤامرة الكونية على البلاد.

ـــ أزلام ؟! أعطني اسمه وعنوانه.

ـــ اسمه (---)، وهو يسكن في القبر الرابع إلى يمين شجرة الزيتون...

المحقق أعطى العنوان للعناصر، وأمرهم بجلب المدعو (---) حالاً.

فرحت كثيراً، لديّ يقين بأن هؤلاء، وحدهم فقط، من يستطيع الوصول إلى العالم الآخر، ليعيدوا لي جدي الذي توفى منذ أعوام.

ابتسم المحقق بخبث وهو يربط يديّ إلى خلف ظهري، ثم التقط شعري الطويل، وجمعه في كفه، وربطه بحبل ثخين ... بعد ذلك مرر هذا الحبل من حلقة معدنية في السقف، ثم شدّ الحبل هو والعنصر، فارتفع جسدي إلى الأعلى، لأصير معلقاً بالسقف من شعري.

وااااااااو، أدهشتني هذه الفكرة الظريفة، وكأنني أرجوحة، صار المحقق يدفع جسدي إلى العنصر، والعنصر هو الآخر يدفع جسدي إلى المحقق، وهما يضحكان كطفلين صغيرين، ضحكت معهما، فاللعبة أعجبتني جداً، ورحت أغني لهما أغنية (يارا - فيروز).

لكن بعد دقائق، تثاءب المحقق، وخرج هو والعنصر من الغرفة ليناما قليلاً، لأظلّ وحيداً هنا، معلقاً بالسقف من شعري.

حزنت، لماذا لم يبقيا ليلعبا معي ؟ ماذا يخسران ؟ اللعبة كانت ممتعة لنا نحن الثلاثة، كم هو لطيف هذا المحقق، لكنه نسي أن يصورني بعدسة جواله. بعد بضع ساعات، بدأ دمي يسيل من أعلى جبيني على وجهي.

عندئذٍ، اقتربت من وجهي بضع ذبابات، لتشرب دمي وبنهم عن جبيني، ثمة ذبابة منهن، وبعد أن شربت، طارت لتحط على أنفي ... ابتسمت وقالت لي:

ـــ شكراً لك، دمك نبيذٌ لذيذ.

ـــ بالهنا، نحن في الخدمة.

ـــ ممكن سؤال ؟

ـــ تفضلي ...

ـــ هل تؤمن بوجود الله ؟

ـــ همممم بصراحة، وأنا معلق بهذا الشكل، لا أستطيع أن أؤمن بأي شيء .

ـــ يعني أنت ملحد ؟

ـــ أتذكر أنني كنت مؤمناً يوم ثلاثاء أحد الأعوام .

صمتنا لدقيقة، زفرتُ ثم أردفت لها :

ـــ بصراحة صديقتي، أنا لا أحب الإيمان من طرف واحد، أحب الإيمان والإيمان المضاد، ومنذ طفولتي أشعر بأن الله لا يؤمن بي ...

ـــ هممم ...

فجأة دخل المحقق إلى الغرفة، فطارت الذبابات عن وجهي مذعورة، تلك الذبابة همست لي وهي تبتعد :

ـــ باي .

المحقق أمر العنصر بإنزالي وإرجاعي إلى الزنزانة، كنت أريد أن أسأله بخصوص العشاء، لكن العنصر ركلني على رجليّ، فسقطت، ليلتقطهما على عجل، ويجرّني في هذا الممر الطويل والمعتم .

من باب إحدى الزنزانات على طرَفي الممر، تناهى إلى أذني صوت صرخات تشبه صوت جدي، ففرحت جداً، وصرخت :

ـــ جدي، كيف حالك يا جدي ؟ لا تهتم، الشباب لطفاء جداً، اطمئن، بعد قليل سيقومون بتصويرنا، لنتحدث أمام الكاميرات عن تجاربنا القصصية المهمة، ثم سنحصل على صور تذكارية ... وبعد ذلك، سنرجع إلى البيت لشرب النبيذ ... لا تهتم ...

على ما يبدو أن جدي لم يسمعني بسبب صراخ مشجعي ريال مدريد وبرشلونة، كان العنصر يفتح باب زنزانتي، وأنا مستلقٍعلى الأرض أفكر :

ـــ عملية إرجاع جدي من العالم الآخر على يد الأجهزة الأمنية، ستضع الفقهاء وخاصة مفتي الديار في موقف محرج للغاية أمام المؤمنين، أتمنى أن يلهمه الله ورفاقه التفسير المناسب .

ثم حملني ذلك العنصر الرومانسي بين ذراعيه، كأنني عشيقته، ورماني بلطف إلى جوف الزنزانة .

على ضوء القمر الخافت والمتسلل من تلك الكوة بالأعلى رحت أبحث عن "فلان"، لكن أحد الشباب نقر على كتفي وهو يهمس لي :

ـــ هل لديك ثقافة جيدة بالجثث ؟

ـــ نعم ...

ـــ إذا سمحت حاول أن تتأكد إن كان هذا الشاب قد مات أم لا، لأن نظري ضعيف .

نظرت إلى حيث أشار لي، فلمحت ذلك الشاب النحيل والعاري، انحنيت عليه، وحضنت رأسه وأنا أرفعه نحو ضوء القمر .

اقتربت بوجهي من وجهه، حتى لامس أنفي أنفه، وأنا أمعن النظر في عينه، ثم كان أن شاهدت وجهي بوضوح في عينه، فشهقت، شعري الذي كان جعداً، وكأنه قد صار ناعماً كالحرير .

لم أصدق، تركت رأس الشاب ليق، ثم تحسست شعري بكفيَّ، عندئذٍ تأكدت بأن شعري صار ناعماً كالحرير .

طار عقلي من الفرح، فوقفت في منتصف الزنزانة وأنا أضحك كمجنون، وصرت أصفق وأتمايل بطرب .

الشباب صفقوا لي، حتى لينا والنساء صفقن لأجل رقصتي البدائية، رقصت طويلاً بجانب جثة الشاب الميت .

بينما القمر، من هناك ... 
وعبر تلك الكوة الضيقة ... 
راح يبكي علينا، مزيداً من ضوئه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق