وكالات: شهد العراق منذ الغزو الأميركي سنة 2003، تكريسا للاستقطاب الديني الطائفي والمناطقي والعشائري، ما أسهم بتشكل دولة السلطة، التي عملت على تقويض الهوية الوطنية الواحدة، عبر إيجاد إقطاعيات طائفية وإثنية تنتشر فيها ثقافة التهميش والترهيب الطائفي والفساد والإفساد. وفي هذه المرحلة، ومع تصاعد التهديد العسكري لتنظيم “الدولة الإسلامية” وانهيار الجيش واستشراء الفساد في أغلب المفاصل الحكومية، يبدو رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي، في موقف صعب رغم إطلاقه لحزمة من الإصلاحات استجابة لضغط الحراك الشعبي، لجهة تمكّن الميليشيات الشيعية التابعة لإيران من لعب أدوار مؤثرة عسكريا وسياسيا، بعد أن أضحت القوة النافذة المهيمنة في البلاد، كونها جزءا رئيسا من تلك الدولة العميقة التي أوجدها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي في كلّ المؤسسات خلال دورتين من حكمه، والعائق الأكبر بوجه حكومة العبادي، بقصد إفشالها وبيان عجزها. وليس التحليل القائل بأنّ عمل هذه الميليشيات، إنما يراد به تعزيز السياسة الإقليمية لإيران في المنطقة، بالأمر المجانب للصواب، لجهة تحولها إلى مجموعات قتالية عابرة للدول تعاضد التمدد الإيراني في المنطقة، وهو ما يوفر نفوذا لطهران في دول تضم أقليات شيعية، ويتجلى ذلك بوضوح في لبنان والعراق، وكذلك الحال بالنسبة لنظام الأسد، بما يحقق لطهران مزيدا من القوة والتأثير في أيّ تسويات مستقبلية بخصوص مصالحها ومصالح حلفائها.
وما يلاحظ هنا هو أنّ الإجراءات الإصلاحية التي أعلن عنها رئيس الوزراء العراقي لم تعالج خروقات الميليشيات الموالية لإيران، ممثلة بعمليات التطهير الطائفي التي تقوم بها في مناطق انسحب منها تنظيم “الدولة الإسلامية”. وعلى الأرجح، لن يكون بمقدور العبادي محاسبة هذه الميليشيات، التي تحظى بدعم ومباركة إيرانية، أضحت معهما على قدر من الاستقلالية والتأثير في عملية اتخاذ القرار في البلاد بعدما كفت الدولة يدها عن الملف الأمني الذي تم تسليمه لميليشيات “الحشد الشعبي”. وكذلك فإنّ تصاعد عمليات التطهير الطائفي التي قامت بها هذه الميليشيات في المناطق السنّية، يراد بها ترسيخ مشروع إقليمي يؤسس لدول طائفية، لتقوية الجغرافية الشيعية في الفضاء العربي المشرقي، الذي يحتل الشيعة فيه مساحة ضيقة، بما يسمح بكسر الامتداد السني الذي يحيط بإيران في أجزائها الشمالية والشرقية والجنوبية؛ فالكتلة الشيعية الأثقل في العراق وإيران ما هي في واقع الحال إلا أقلية محدودة النطاق، في تكتل سني واسع. وبالتالي فإن أي خطوات إصلاحية تعرقل هذا المشروع ستلقى رفضا، استناداً إلى التداعيات الإقليمية والدولية للاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى، وما يمكن أن تضفيه على مكانة طهران واستراتيجيتها حيال المنطقة. ومن جهة أخرى فإن مطالب المتظاهرين الداعية إلى محاسبة رئيس المالكي لفساده وإغراقه البلاد في دوامة الطائفية والاحتراب الأهلي، وتسببه بضياع أجزاء كبيرة من الأراضي العراقية، لن تلقى بالا بالنظر لما يشكله المالكي من أهمية على مستوى صيانة المصالح الإيرانية، حيث وصفته وسائل الإعلام التابعة للحرس الثوري بأنه أحد أبرز أقطاب جبهة “المقاومةوالممانعة” في المنطقة.
عملية سياسية معقدة
يعتبر العراق اليوم في مقدمة بلدان العالم من حيث الفساد والرشوة وابتكار الشركات الوهمية والمشاريع التي لا وجود لها إلا على الورق، بحسب تقرير منظمة الشفافية العالمية الأخير الصادر في يوليو الماضي. وبحسب ما أورده نائب رئيس الوزراء المستقيل بهاء الأعرجي في لقاء تلفزيوني، فإنّ العراق خسر خلال سنوات حكم المالكي الثماني 1000 مليار دولار (تريليون دولار) من دون إنجاز يذكر على مستوى التنمية والبناء. وبحسب التقارير الرسمية، كان هناك أكثر من 4600 مشروع وهمي في موازنة العام الماضي، صُرفت مبالغها بالكامل دون تنفيذ، ومن بين المتورطين بهذه المشاريع عدد من المسؤولين الكبار، السابقين والحاليين في الحكومة العراقية. وقد قالت عضو اللجنة المالية في مجلس النواب ماجدة التميمي، إنّ “الخزينة العراقية شهدت ضياع 228 مليار دينار عراقي ما يعادل 189 مليون دولار أميركي، في مشاريع وهمية خلال عام 2014، كان من المفترض أن تنجزها الجهات المختصة في الحكومة السابقة”.
ولكل ذلك ستكون الخطة الإصلاحية التي أطلقها العبادي تجاوبا مع التظاهرات الشعبية التي احتجت على تردي الأوضاع المعيشية للمواطنين وطالبت بوضع حد للفساد في أجهزة الدولة، محفوفة بالمخاطر في مجتمع تأصلت فيه صفة ابتزاز المال، فضلا عن وجود لاعبين سياسيين متنفذين يرفضون فكرة الخسارة من جراء التغييرات التي ستطرأ على الوضع الحالي. كما تتضمن خطة العبادي الإصلاحية، المبادرة بإجراء التحقيقات ووضع حد للنظام الطائفي المتبع في اختيار المناصب العليا في الحكومة، وإلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية ونواب رئيس الوزراء، وإقالة وزيري الكهرباء والموارد المائية وخفض عدد الوزارات والهيئات لرفع الكفاءة في العمل الحكومي وتقليص النفقات وإصلاح النظام القضائي، وتحرير التعيين في المناصب العليا في الدولة من معايير المحاصّصة الحزبية والطائفية. ولعل هذه الإجراءات توحي بمعضلة أخرى تواجه عملية الإصلاح، فالعملية السياسية تعتمد التحصيص الطائفي والإثني، إذ فشل “التحالف الشيعي” في الاتفاق على صيغة ترضي جميع الأطراف، خلال اجتماع عقد في 13 أغسطس الجاري، وشهد مشادات كلامية بين المالكي والعبادي، بسبب قرارات الأخير التي ألغت مناصب نواب رئيس الجمهورية، ما حمل المالكي على التهديد بتقديم طعن إلى المحكمة الاتحادية، لعدم دستورية الإصلاحات الحكومية التي وافق عليها البرلمان، لتتفق معه عدة أطراف من التحالف مهددين بالانسحاب من العملية السياسية وإثارة الشارع ضد الحكومة بحجة خرقها للدستور. كما لا يتيح نظام المحاصصة إمكانية وجود أشخاص أكفاء مستقلين من التكنوقراط في مواقع المسؤولية، خصوصا وأن أغلب الزعامات السياسية والدينية والطائفية توحدت حول فكرة محاربة التوجه المدني وإصباغ الحكومة بالصبغة الطائفية، ما يعني صعوبة القضاء على التراكمات والمشاكل التي تعاني منها العملية السياسية والتي لن تحل إلا بعد مراجعة الدستور وتعديله.
سلطة الولاءات
أعادت التظاهرات التي عمّت العاصمة العراقية ومدنا أخرى منددة بفساد الطبقة السياسية في البلاد، الحديث عن الوضع السياسي والتركيبة الطائفية التي هيمنت على المجتمع وأثرت في معادلاته المتنوعة، وإمكانية إيقاع التأثير الجاد في أنماط سلوك صناع القرار العراقي تأمينا لمطالبها في التغيير. سبقها حديث عن تقسيم العراق تداولته نخب فكرية وسياسية غربية من بينها رئيس الأركان الأميركي المنتهية ولايته، الجنرال ريموند أودييرنو في آخر مؤتمر صحفي له في البنتاغون في 12 أغسطس الجاري، حين قال إنّ تحقيق المصالحة بين مكونات الشعب العراقي لا ينفك يزداد صعوبة، معتبرا أن تقسيم العراق ربما قد يكون الحل الوحيد لتسوية النزاع، مستبعدا عودة العراق مستقبلا إلى ما كان عليه في السابق. ويدعو استقراء الواقع العراقي إلى عدم المبالغة في التعويل على إحداث تغيير حقيقي وتحول شامل رغم الإصلاحات التي طرحها العبادي ضد الفاسدين من حزبه ووزارته. ولعلّ المتتبع للوضع العراقي يدرك تأثير الولاءات الفرعية التي ترسخت في العراق منذ عقد من الزمان، مصدعة النسيج الوطني، إذ أضحى المواطن أسيرا لميوله المذهبية التي تتلاعب بها القوى السياسية والدينية، من خلال إعلاء الانتماء الطائفي على الوطني، ليكون شريك الوطن عدوا ومتحالفا مع الإرهاب، ما يقتضي استئصاله، ليكون الحديث حول إعادة الاصطفاف السياسي بما يفرز واقعا سياسيا جامعا صعب التحقق.
وقد يكون مناخ على هذا النحو سببا للمطالبة بتفعيل الإدارة الفيدرالية بالنظر للتقاطعات والخلافات، التي نتج عنها غياب الثقة المجتمعية وطغيان مفهوم الجماعة القائل بالفروق والمظلوميات على المجتمع الواحد براوبطه القانونية الجمعية. ولعل ما أوجدته منظومة الأفكار والرموز والطقوس التي غرستها الجماعة مع تأثير مدخلات الفقر والتخلف، إنما هو تكريس لواقع لا يسمح إلا برؤية أحادية لا يشك في صدقيتها، وما دونها يعد مصطنعا، فالتوظيف السلطوي والسياسي للطائفة الشيعية، أفسح لها المجال للتحكم في تسيير الاتجاهات السياسية في البلاد، لتغرق في سياسات الانتقام والعنف، وبما يجعل الآخر خاضعا لها، غير مستعد لمعارضتها، خشية من العقاب. وبالنتيجة، فإن الاتجاه نحو تقسيم العراق الذي توقعه اودييرنو، لن تقبل به إيران ذات النفوذ الأكبر في البلاد، وهي بذلك تنقلب على لغة الهويات التي دفعت باتجاهها عندما كتب الدستور عام 2005. ويضمر هذا الموقف بعدا مصلحيا استراتيجيا، إذ يشكل غرب العراق، حيث الأغلبية السنّية معبرا ورابطا بين طهران وحلفائها، وسيفضي التقسيم إلى قطعه ومنع اكتمال هلاله الشيعي، ومن جهة ثانية فإنّ عددا من الساسة السنّة قدّموا مصالحهم الشخصية وقبلوا بمزايا منحت لهم، دون إبداء مواقف تراعى فيها مصالح ناخبيهم، ما يعني توافقهم مع الرؤية الإيرانية، التي تريد الهيمنة على العراق رزمة واحدة غير مجزأة. ومع هذا، فإن الدولة العميقة ماتزال تتحكم بمسارات الأمور، وقد تفضي المظالم المتراكمة في مجتمع يتسم بالقلق وعدم الاستقرار، إلى المزيد من الضغط الشعبي والحراك الوطني المؤثر، ليكونا مدخلا لتعامل حضاري حداثي يعيد تشكيل المشهد السياسي.