الحياة: يمكن القول أن نوبل للآداب هذا العام لم تثر الكثير من الضجيج أو المديح أو الاعتراض أو الاستهجان. فعلى رغم صعود اسم سفيتلانا ألكسييفتش في دائرة المراهنات والتكهنات قبل أيام من فوزها، فإن ردود الفعل كانت فاترة بعده. ولو قارنا ردود فعل الصحافة الثقافية في العالم، ومن ضمنه العالم العربي، على حدث الإعلان عن منح نوبل للآداب خلال السنوات السابقة، بردود الفعل هذا العام على منح الجائزة للكاتبة البيلاروسية، فسنجدها هذا العام خجولة، أو متسائلة عن ذهاب أكبر جائزة عالمية تمنح للأدب إلى كاتب لا يكتب الرواية، أو الشعر، أو المسرح.
لقد ذهبت الجائزة، التي يحلم بها معظم كتّاب العالم، إن لم نقل كلّهم، إلى صحافية تقوم بتسجيل شهادات المعذبين ثم تعيد كتابتها في صيغة تجمع إلى «التعددية الصوتيّة»، التي نوّهت بها لجنة نوبل للآداب، التعاطف والدقة والاقتراب الشديد ممن تنقل الكاتبة شهاداتهم، والقسوةَ في وصف العذاب الإنساني والمعاناة المريرة. لا شك في أن ألكسييفتش كاتبة جسورة في مواقفها (وقد سجنت في وطنها واضطرت إلى الذهاب إلى المنفى سنوات عدة)، وفي صيغة تعبيرها عن الذين قابلتهم وأعطتهم صوتاً ليُسمَعوا وسط ضجيج الأصوات العالية للسياسيين وصانعي القرار الذين يخفون الحقيقة أو يشوهونها، كانسين تحت البساط تعاسات وآلاماً تُعمِل فيها الكاتبة البيلاروسية مبضعها.
سبب خفوت الأصوات، في الحديث عن عمل ألكسييفتش، يعود إلى أسباب عديدة يقع على رأسها أن عملها لم يُلق عليه الضوء في صورة كافية خارج بلادها (إذا استثنينا، كما تقول التقارير الصحافية، اللغة السويدية التي حظيت الكاتبة الفائزة باهتمام أهلها، فأصبحت أعمالها حاضرة بكثافة في المكتبة السويدية).
لكن السبـــــب الأهم، من وجهــــة نظري، يعود إلى جنــــوح جائزة نوبل للآداب هذا العام عن التشديد الوسواسيّ علـــى ضرورة منح المكافأة للخيال، لفن خلــــق واقعاً مجازياً أو استعارياً، مـــوازياً للواقع، والذهاب مباشرةً لمكافأة الواقع الذي يبدو في أحيان كثيرة أغرب من الخيال وأكثر وقعاً وتأثيراً وصدماً. لقد تجرأت اللجنة، ربما بتأثير من سكرتيرتها الجديدة سارة دانيوس، على تجاوز إرث يعود إلى عقود من عمر الجائزة لا تكافئ سوى الخيال.
صحيح أن نوبل للآداب قد أعطيت عام 1953 لرئيس الوزراء البريطاني ونستون تشيرشل، عن مجمل كتاباته مع ذكر خاص لمجلداته الستة عن «الحرب العالمية الثانية»، لكن هذا الحدث لم يتكرر مع كاتب آخر، على حد علمي، منذ ذلك الحين.
أما نوبل 2015، فتوجهت مباشرة لمكافأة الجرأة في التعبير عن الواقع، والعمــــل التوثيقي، وما يسمى الصحافة الجديدة التي تمزج بين التغطية الصحافية والأسلوب الأدبي، والمزج بيــــن كـــلام شهود الواقع وحكمة الأعمال الإبداعية التي كثيراً ما تستشهد بها ألكسييفتش لتؤكد لقرائها أن الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال لا تكاد تُرى أو تلحظ. يشهد على ذلك عملاها المركزيان «أصوات من تشيرنوبل: التـــاريخ الشفوي لكارثة نووية»، و«أبناء الزنك: أصوات سوفياتية من حرب منسية» (الذي تتـــناول فيه حرب الاتحاد السوفياتي السابق في أفغانستان ومـــعاناة الجنود السوفيات في تلك الحرب وشهاداتهم المنسيّة عليها)، إضافة إلى أعمالها الأخرى التي تتناول شهادات عن الحرب العالمية الثانية وسقــوط الاتحاد السوفياتي، حيث تصــــوّر الكاتبة عمق المأساة البشرية التي تتسبب بها الحروب وسباق التسلّح وجنون الإمبراطوريات وعنفها الذي يفوق الخيال ويتخطّى حدوده.
رغبــــت لجنـــة نوبل للآداب في مكافــــأة ما يسمــى «التاريخ الشفوي» في أعماـــــــل الكتاب والمتخصصين في ذلك الشكل من أشكال الكتابة منذ سنوات. ومــــن تابع النقاشات التي دارت منـــــذ مطلع القرن الحالي حول المســــألة، سيدرك أن اللجنة رغبت مراراً، وفق التسريبات أو التكهنات التي صدرت حينها، في منح الجائزة للكاتب البولندي ريشار كابوتشينسكي، الذي يشبه عمله عمل ألكسييفتش، ولربما يكون واحداً من الذين أثروا فيها وفي عملها.
لكن وفاة كابوتشينسكي عام 2007 جعلت اللجنة تتريّث، ربما لتجد كاتباً من عيار الكاتبة البيلاروسية يحقق شروط نوبل في إنجاز وصف للواقع، وتاريخ شفوي للحروب ومعذبيها، لتمنحه الجائزة. وعلينا أن نذكر هنا أن ألكسييفتش قد فازت عام 2011 بجائزة ريشار كابوتشينسكي للتحقيق الصحافي، ما يؤكد أن لجنة نوبل للآداب قد تكون تنبّهت إلى خليفة الكاتب البولندي الراحل الذي يمكن أن تتوِّجه بالجائزة العالمية الكبيرة.