فنان قدم فنا حقيقيا بعيدا عن الثرثرة متسما بالوضوح والنفاذ إلى القلب من دون مشكلة وكأنه شعاع ضوء الفجر..... الأذن تحب الغناء واللسان يحب الغناء والتي تحب الغناء أكثر منهما هي الروح... فالروح إن لم تتمثل في الأذن واللسان فلن تكون هناك حياة للأغنية ولعلنا نلاحظ حياة طويلة لبعض الأغاني وحياة قصيرة لأخرى.... والغناء... ما هو الغناء؟.... هو كلمات تولد في داخلنا... نمنحها هبة للساننا... يمنحها هبة لأذننا... تمنحها للمنبع الذي خرج منه.... أعني الروح... وتدور الدائرة وتستمر في الدوران حتى نكتفي ونشبع وننشرح ونشعر بأننا قد نفضنا عن كاهلنا كل الهموم ونشعر أننا ولدنا من جديد.... من دون دماء.... من دون ألم... بآهات لذيذة فقط.... آهات صادرة من أعماقنا البعيدة... التي عجز خيالنا أن يصلها في يوم من الأيام... لكن أغنية لفنان مثل محمود كريم وصلتها وحرثتها وبذرتها وسقتها بدموع أغنية عظيمة تتغني بحب هذا البلد الجميل أبدعها شاعر منح حياته للشعر وهو أحمد الحريري ولحنها ملحن شرّح من أوتار قلبه ورتق بها كل وتر وجده جريحا أو مكدوما وهو الموسيقار على ماهر... هذه الأغنية اسمها بلدي... بلدي... أو كما غنيّت:
تعيشي يا بلدي..
يا بلدي تعيشي..
تعيشي يا بلدي..
يا بلدي تعيشي..
تعيشي في همسة عذراء..
تعيشي في نسمة زهراء..
كلمة بلدي هذه موجودة في كل البلدان وكل شعب من الشعوب لديه أغنية اسمها بلدي... أغنية واحدة لا أكثر... المطرب المحظوظ والملحن المحظوظ والمؤلف المحظوظ هو من يكون قد أبدعها... لكن هذا الحظ وحده لا يكفي... لابد أن يتقبلها الشعب... لابد أن تمس قلب الشعب... لابد أن يهضمها الشعب ويتركها تسكن وتنبت في أعماقه من دون أن يعتبرها عبئا ثقيلا فيلفظها... وهذا سر كبير من أسرار الحب بين الحياة الموجودة فينا والحياة الموجودة في الكلمات والموسيقا... فكل شيء قادم من خارج الإنسان سيجد صعوبة في الدخول إن لم يكن فنا خالصا وصدقا خالصا... بلدي كلمة جميلة... سهلة النطق... تشبع جوعنا للهوية وجوعنا للتملك... تجعلك تمتلك بلدا بكامله بكل ما فيه... لذلك لا نستغرب إن مات إنسان في سبيل وطنه وهو راض وسعيد... لأن كلمة بلدي عالم كبير به كل شيء... به حتى الجنة... والبلد الخالي من جنة الحاضر هو بلد تنقصه الكثير... وهذه الجنة لا يصنعها المال ولا السلاح ولا القوة... هذه الجنة يصنعها الفن والأدب والجمال المنبثق من الأحاسيس الصادقة المنبثقة من روح الكائنات التي نفخ في حياتها الخالق.
منذ مدة قرأت كتابا للشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف 1923 – 2003 م بعنوان بلدي والذي جعلني اقتني الكتاب الصادر عن دار الفارابي هو هذه الكلمة بالذات فهذا الشاعر يعتز كثيرا ببلده الصغير داغستان الكائنة من ضمن الاتحاد السوفيتي السابق فحتى أشعاره التي أبدعها كتبها باللغة الداغستانية على الرغم من إجادته الروسية ودراسته في معهد جوركي للأدب... هذا الشاعر مثل محمود كريم ليس في قلبه إلا بلده الذي أحبه وعشقه وأقنع العالم بعظمته من خلال بضع كلمات بسيطة عظيمة قالها مثل:
نجوم كثيرة وقمر واحد
نساء كثيرات وأم واحدة
بلاد كثيرة ووطن واحد
ولا أريد أن أقول لكم ما هو القمر الواحد والأم الواحدة والوطن الواحدة لأن بلدي ليبيا سبقتني بالإجابة..... لا أنكر أنني كلما استمعت إلى أغنية الفنان محمود كريم والذين أبدعوها معه الفنان أحمد الحريري والفنان أحمد ماهر وبضعة الملايين الليبية التي أحبت هذه الأغنية تعيشي يا بلدي تهطل دموعي بغزارة... فهذه الأغنية التي يجذب سلكها محمود كريم من أعماق روحه ليرمي بفراشاتها في سماوات الروح هي مثل الحياة الجديدة التي يكتسبها الإنسان كلما تجاوز أزمة أو عبر منزلقا خطيرا... هذه الأغنية هي الجنة... هي النشيد الوطني الذي تعتز به روحي... فأوقاتي التي أكون فيها على شاطئ البحر أتغنى بها وتشاركني الأمواج في تلحينها... أغنية مؤثرة جدا... كلماتها قصائد عديدة تستدعي لك الحياة الطازجة والمتجددة من خلال كلمة تعيشي... ومن خلال همسة العذراء الخجول المعبرة عن أخلاق وأصالة هذا الشعب الكريم ومن خلال الاحتفاء الكثير بالطبيعة في كلمة تعيشي في نسمة زهراء... فالشاعر والمطرب والملحن والمستمع الذي يقول لنا أن ليبيا ستعيش في هذه المثل والقيم المغموسة في شاعرية لذيذة حادة مجلوبة من جنة خيال مجنون... ليبيا تعيش في همسة عذراء... وتخيلوا كيف هي همسة العذراء وما مدى حلاوتها وجمالها ورقتها وعذوبتها... وتخيلوا أيضا ليبيا تعيش في نسمة زهراء... هذا الوطن الحار صاحب ريح القبلي يعيش في نسمة معطرة بالزهور... لقد جلبت لنا هذه الأغنية الحياة بكاملها... لم تترك شيئا... وهذا هو الفن الحقيقي البعيد عن الثرثرة والواضح جدا والنافذ إلى القلب من دون مشكلة ومباشرة مثل شعاع ضوء الفجر الذي ما إن يطل حتى يفسح له الظلام مكانه اللائق.
أن يرحل فنان عن هذا العالم هو أمر مؤلم لكنها سنة الحياة... لكن الفنان الذي يرحل من دون أن يترك لنا شيئا هو فنان بخيل... لكن محمد كريم فنان كريم... كريم جدا... لقد ترك لنا بلدي... تعيشي يا بلدي... التي كلما شعرنا بالحزن أو الكآبة غنيناها فانبعثنا من جديد.
لم أكن أعرف أن الأغاني مؤثرة جدا... خاصة الأغاني الشعبية... ذات سهرة مع أصدقاء وقف بعضهم يرقصون وطلبوا من العازف الذي يعزف على آلة غربية (أورغ) أن يواكب أغنيتهم التي سيغنونها وبصفته فنان شعبي كبير ومتمكن فقد تركهم يبدأون أغنيتهم التي كانت:
شبح النخل خطر عليا بلادي...
يا ريتني وليت مني غادي
وعلى الرغم من الآلة غربية فقد تحولت ألحانها إلى ليبية أو شرقية من دون دوزنة... بل أن الثلاثة نفر الذين بدأوا الأغنية ذابت أصواتهم في أصوات كل الحاضرين وحتى بنات و نساء البيت أطلن من النوافذ والشرفات وصارت الأغنية التي تـُغنى هي شبح النخل خطر عليا بلادي... الأغنية لا يغنيها مطرب واحد أو ثلاثة مطربين... لكن يغنيها كل الحضور ويتأثر بها كل سمع سمعها وتذرف لها العيون بغزارة... فالذي جعل هذه الأغنية تنتشر في البيت كله وتمس كل الحضور وتظهر النساء إليها من وراء الخدور ليس النخل وليس شبحه وليس خطر "ذكّرني" وليس ياريتني "ندم" وليس كلمة وليت "رجعت" ولكن كلمة بلادي أو بلدي.
فالآن لا أشعر بأن الفنان محمود كريم هو الذي رحل لكن قصيدة من بلادي هي التي رحلت وعلى كل من يحب الفن والحياة لهذا الوطن أن يستعيدها لنا... وها هي قلوبنا لتساعده.
محمد الأصفر - ليبيا
نقلا عن: ميدل ايست اونلاين