العرب اللندنية: وصلت وساطة الأمم المتحدة ورعايتها للمفاوضات الجارية بين الفرقاء الليبيين حول إمكانية إيجاد حلّ سياسي للأزمة التي تعصف بالبلاد منذ أكثر من أربع سنوات، إلى نهايتها، وفق ما أعلنه المبعوث الأممي إلى ليبيا برناردينو ليون أمام الأطراف المتحاورة في مدينة الصخيرات المغربية، وهو يقدم لها نسخة من مسوّدة الاتفاق التي من المفترض أن توقّع عليه باعتباره الصيغة النهائية التي خلص إليها بعد جولات المحادثات التي أجراها مع مختلف أطراف النزاع، والتي توصّل إليها استنادا إلى تقييم الأمم المتحدة لواقع الأزمة، وطبيعة المقترحات والمطالب التي تقدم بها المتحاورون والتي حرصوا على ضرورة أن يتضمنها الاتفاق النهائي. واستباقا للاعتراضات التي يمكن أن تصدر على مختلف أطراف الأزمة الليبية الأساسية على بعض ما تضمنه مشروع الاتفاق من بنود، وخاصة من قبل حكومة طبرق والبرلمان صاحب الشرعية الدولية التي انبثقت عنه من جهة، والمؤتمر الوطني المنتهية ولايته في طرابلس، المحسوب على الإسلاميين والمسنود من طرف ميليشيات"فجر ليبيا" المسلّحة من جهة أخرى، أكّد ليون أنّه لا خيار أمام الليبيّين غير مسوّدة هذا الاتفاق الذي يعتبر أفضل ما تحقّق إلى حدّ الآن في سياق ظروف الأزمة ومضاعفاتها. ولفت إلى أنّ الخيار الأسوأ يتمثّل في رفض الاتفاق والوصول إلى العشرين من شهر أكتوبر المقبل، تاريخ انتهاء عهدة برلمان طبرق الشرعي، دون وثيقة وطنية يتم الاحتكام إليها، ودون حكومة وفاق وطني تتولى تسيير شؤون البلاد وتتكفل بإعادة الأمن والاستقرار. ذلك أنّ الفراغ على جميع مستويات المؤسسات في ليبيا يعني رهن مصيرها للمجهول وتمكين القوى الإرهابية التي تنشط داخل البلاد من المناخ الأمثل لتطوير أنشطتها الإرهابية والاستيلاء على المزيد من المدن، على غرار ما يفعله تنظيم داعش الإرهابي في مدينتي سرت ودرنة وغيرهما من المدن الليبية الأخرى.
العسكري يدعم السياسي
بالتوازي مع الجهود الأممية والعربية المبذولة لإيجاد حلّ سياسي للأزمة الليبية، تُحقّق العملية العسكرية التي أطلقها الجيش الوطني الليبي بقيادة الفريق خليفة حفتر، منذ أيام، تحت اسم “عملية حتف” في مدينة بنغازي ضد الميليشيات المتطرفة والإرهابية المسلحة نجاحات هامة اعتبرها جلّ المحللين والمراقبين لتطورات الأزمة الليبية مقدّمة لا بد منها لدحر ميليشيات تنظيم داعش والتقدم نحو تحرير العاصمة طرابلس من الميليشيات المسلحة التي تسيطر عليها وبسط شرعية الحكومة عليها وعلى أغلب مناطق البلاد. وتبدو أهمية التقدم الذي تم إحرازه منذ إطلاق القائد العام للجيش الليبي الفريق أول خليفة حفتر لهذه العملية العسكرية الحاسمة كونها تركّز على تنظيم داعش من جهة وعلى الميليشيات التي تحاول إضعاف الحكومة ومنعها من التوجه إلى طرابلس، حيث تساند ميليشيات فجر ليبيا حكومة تمرّدت عن الشرعية وتعمل على إخفاق كل المساعي الليبية والإقليمية والدولية لإيجاد حد للاقتتال القائم والصراع الدموي الحاصل على السلطة الذي استنزف قدرات البلاد المادية والمعنوية وبات يهدد بتعميم وضع كارثي في مجمل منطقة شمال أفريقيا، يستفيد منه تنظيم داعش الإرهابي بالدرجة الأولى وكل القوى الراغبة في فرض سيطرتها العسكرية والسياسية بقوة السلاح على الشّعب الليبي.
ويهدف تكثيف الضغط العسكري على الميليشيات المسلحة في بنغازي أيضا إلى أن يكون رسالة قوية للأطراف التي شاركت في الحوار والمفاوضات الجارية في مدينة الصخيرات، مفادها أنّ الحكومة الشرعية والجيش الوطني غير مستعدين لترك قوى العرقلة تستفيد من تراخي الضغط العسكري الذي وفره لها، إلى حد الآن، عامل الانخراط في العملية التفاوضية إلى ما لا نهاية. ذلك أنّ الجيش الوطني الليبي الذي لم ينخرط أساسا في هذه العملية، وإن كان يدعم مواقف الحكومة الشرعية قد أدرك مبكرا أنّ جماعة طرابلس لا ترغب في الواقع إلا في شيء واحد، وهو كسب المزيد من الوقت ما أمكن في أفق انتهاء ولاية برلمان طبرق بعد العشرين من شهر أكتوبر المقبل، وبالتالي تساوي موقع البرلمان الشرعي إلى حدود ذلك التاريخ مع المؤتمر العام المنتهية ولايته من حيث الشرعية. الأمر الذي من شأنه أن يُعقّد مُجمل العملية السياسية ويفرض على الحكومة الشرعية واقعا جديدا تجاه المجتمع الدولي وتجاه البعثة الدولية التي ستتذرع حينئذ بأنّ الاختلاف النوعي بين أوضاع ما قبل انتهاء ولاية البرلمان الشرعي وأوضاعه المفترضة بعدما تجاوز ذلك التاريخ، يعيد المسألة الليبية برمتها إلى المربع الأوّل من التفاوض حيث لا يُتاح الحديث حينها عن أيّ امتياز لطرف على آخر في موضوع الشرعية بالذت، وهو ما يعوّل عليه ويطمح له الشق المفاوض عن برلمان طرابلس وتصبّ في صالحه جل محاولات العرقلة التي يقوم بها منذ بداية المفاوضات.
مراوغات سياسية مفضوحة
يبدو أن حكومة عبدالله الثني، المعترف بها دوليا، مدركة تمام الإدراك لخطورة انتهاء شرعيتها، ليس بالنسبة لمستقبلها، ومستقبل البرلمان الذي انتخبها والذي يعيش المراحل الأخيرة من نهاية ولايته فحسب، وإنّما أيضا بالنسبة لمجمل العملية السياسية الليبية ومستقبل بناء الدولة الديمقراطية الحديثة التي يتطلع إليها الشعب الليبي منذ سنوات. إذ لم يكن لديها أدنى شك أن حكومة طرابلس المدعومة من ميليشيات فجر ليبيا لم تكن ترغب في أي وقت من الأوقات في مواجهة استحقاقات الحل السياسي للأزمة، بل كانت ترغب أكثر في كسب ما يمكن من الوقت لتهيّئ نفسها لمواجهة ما بعد فشل مهمة المبعوث الأممي برناردينو ليون على جميع المستويات السياسية والعسكرية، مع التعويل على رهان واحد، أساسه قلب الأولويات لاحقا وفق مناورة مفادها أنّ الأولوية في التعاطي مع الأزمة لا يجب أن يكون متعلقا بمكافحة الإرهاب وتمدّد الميليشيات المسلحة، وإنما منوطا بالتركيز على صياغة حل سياسي على قياسها تحت عنوان حكومة وفاق وطني، والتعاطي مع البرلمان الشرعي الذي تكون ولايته قد انتهت حينها على قدم المساواة. ويبدو أن تركيز الحكومة الشرعية والجيش الوطني الليبي على أنّ الأولوية اليوم متعلقة بمحاربة الإرهاب ومختلف أشكال التمرد على الشرعية يستهدف بالإضافة إلى العمل على إعادة الأمن والاستقرار لبعض المناطق وخاصة مدينة بنغازي، إلى قطع الطريق أمام حكومة طرابلس والقوى الداعمة لها.ويرى عدد من المراقبين في معرض تقييمهم للمسار التفاوضي الذي ترعاه الأمم المتحدة منذ تسعة أشهر ومن خلال المقترحات التي تقدمت بها الأطراف الأساسية إلى جلسات الحوار في مختلف العواصم والمدن التي انعقدت فيها تلك الجلسات، أنّ قرار المؤتمر الوطني المنتهية ولايته القاضي بالالتحاق بجلسات التفاوض لم يكن سوى مناورة سياسية مكشوفة، الغاية منها الإيحاء بأنّ حكومة طرابلس الموازية ترغب، هي أيضا، في التوصل إلى حلول سياسية على عكس ما يُشاع عنها كونها ترفض العملية السياسية من الأساس.
غير أن مراوغات وفودها إلى الحوار السياسية المفضوحة وعدم التزامها كل مرة بما يتم التوصل إليه من اتفاقات، وخاصة بعد التوقيع على اتفاق السلام والمصالحة بالأحرف الأولى في مدينة الصخيرات المغربية، قد كشف أمام الجميع كيف أن ربح الوقت هو الذي يحركها، وقد وجدت في ذلك دعما غير مباشر من المبعوث الأممي الذي كان يعلن المهل النهائية أمام مختلف الأطراف المرة تلو الأخرى من دون أن يحرص على الالتزام بها. وهو ما اعتبرته الحكومة الشرعية تواطؤا من المجتمع الدولي وبعض القوى الإقليمية على القضية الوطنية الليبية برمتها. وعادة ما يتم توجيه أصابع الاتهام في هذا المستوى إلى الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين وإلى تركيا أساسا على مستوى القوى الإقليمية. ومن جهة أخرى فإنّ انكشاف نوع من لعبة الأمم بخصوص الملف الليبي، وما يوحي به من أنّ هنالك قوى دولية مصممة على تنفيذ أجنداتها بغض النظر عن الأثمان الباهظة التي يدفعها الشعب الليبي على حساب أمنه واستقراره، قد دفع الحكومة الشرعية إلى التحضير لأكثر من سيناريو لمواجهة الوضع المحتمل، ومن بين هذه السيناريوهات انتخاب رئيس للدولة من قبل البرلمان الشرعي قبل نهاية ولايته، تفاديا للفراغ الدستوري الكامل وإنشاء مجلس عسكري يتولى تسيير شؤون البلاد ويسهر على إتمام عملية محاربة الإرهاب والميليشيات المسلحة، الأمر الذي يسهل عليها مهمة استعادة السيطرة على العاصمة طرابلس التي تظل من منظور سياسي واستراتيجي هدفا لا ينبغي أن يخرج من أفق كل عمل تقوم به القوى الشرعية في البلاد.
وعلى افتراض أن وساطة الأمم المتحدة قد وصلت بالفعل إلى نهايتها، وأنّ مسوّدة الاتفاق هذه هي الفرصة الأخيرة والصيغة النهائية لأي اتفاق محتمل من شأنه أن يجنب ليبيا الانزلاق نحو المجهول، وفق ليون، فهل يعني هذا أنّ الحكومة الشرعية قد تذعن لذلك، وفق متطلبات هذا الواقع الذي لا ينم عن حسن نوايا الأطراف التي عملت على فرضه، أم أنّها ستتحرك قدما لتنفيذ سيناريو خارطة الطريق التي اعتمدتها في المدة الأخيرة، وإن لم يتم الإعلان رسميا على بنودها كافة؟ الثابت أنّ الجواب على ما يبدو سيظلّ مرتبطا بتطورات "عملية حتف” العسكرية لأن نتائجها الميدانية هي التي ستبلور اتجاهات التحرك السياسي والسيادي للحكومة الشرعية في قادم الأيام لا محالة.