بين القذافى ومبارك تدورق أحداث السطور التالية من مذكرات الإعلامى الكبير حمدى قنديل والصادرة حديثا عن دار «الشروق»، حيث يتطرق قنديل إلى أول لقاءاته التليفزيونية مع القذافى وكيف أنها أثارت غضب «الرياض» ضد «راديو وتليفزيون العرب» ART، كما تتناول هذه الحلقة طرائف القذافى التى لا تنتهى ثم قراره بتأميم قناة «الليبية» بتدخل مباشر من مبارك لدى نظيره الليبى.. وصولا إلى مشهد القذافى مقتولا بشكل بشع فى إحدى أنابيب الصرف فى «سرت».
فى سبتمبر عام 1997 كنت أقدم برنامجا فى «راديو وتليفزيون العرب» ART، عندما ذهبت إلى القذافى فى سرت لأجرى معه حديثا بمناسبة الاحتفال بذكرى ثورة الفاتح.
بدأ القذافى بالحديث عن تاريخ العالم والأجناس التى سكنته ومؤامرات الاستعمار التى لا تنتهى والتحضير للثورة الليبية، ومع ذلك بدا حديثه متماسكا فى بعض الأحيان بل شائقا إلى حد ما فى أحيان أخرى.
عندما كادت الساعة المخصصة للحديث تنتهى تأهبت للختام، فإذا بيد تمتد من ورائى يقدم لى صاحبها ورقة صغيرة كتب عليها «تم مد الإرسال ساعة أخرى»، لم أتبين مَن صاحب اليد، ولكن المفاجئ أن طرف كم البدلة أكد أنها بدلة عسكرية.
• كان يستنكر اقتصار مباريات الكرة على 11 لاعبا فقط.. ويعتبر «الملاكمة» سلوكًا همجيًا.. ودعا لإلغاء رياض الأطفال والمدارس الابتدائية
تحدث القذافى عن مباريات كرة القدم واستنكر اقتصارها على 11 لاعبا فقط من كل فريق، وعندما سألته عن الحل المثالى من وجهة نظره قال: إنه فى الجماهيرية الشعبية لابد أن يشارك الشعب كله، ولا يقتصر دوره على الفرجة السلبية، وإنما أن ينزل الجميع إلى أرض الملعب، ولم يكن حديثه عن الملاكمة مختلفا كثيرا؛ إذ كان يعتبرها دلالة على أن البشرية لم تتخلص بعد من سلوكها الهمجى، وكان يرى أن الملاكمين والمتفرجين هم سلالة البشر الذين لم يتحضروا بعد.
سألته أيضا لماذا يطالب بإلغاء رياض الأطفال، فقال: «أنا لست ضدها وحدها، أنا أنادى أيضا بإلغاء المدارس الابتدائية، رياض الأطفال والمدارس الابتدائية مثل تسمين الدجاج، لا أدرى لماذا يرمى الناس أولادهم على هذا النحو، لماذا ينجبونهم ما داموا لا يستطيعون تربيتهم؟ التعليم الابتدائى تربية، والتربية يجب أن يكون مكانها البيت، أما رياض الأطفال فيقتصر دخولها على اليتامى».
• القذافى سألنى فى 2005: لماذا تصر على مهاجمة مبارك.. وما اعتراضك على نجله جمال؟.. وحاورته للمرة الاولى فأبلغنى الشيخ صالح كامل أن «الجماعة زعلانين» فى الرياض
بعد اللقاء التقيت الشيخ صالح كامل فى باريس وكان وجهه ينطق بما فى صدره، أوجز الشيخ صالح الموقف فى كلمات صارت فيما بعد مثلا يتردد كلما مرت برامجى بالمآزق التى ألفتها: «الجماعة زعلانين»، وأخبرنى أنه تلقى مكالمة غاضبة من الرياض خلاصتها أننى كثيرا ما تركت القذافى يهذى دون أن أجادله.
القذافى مدافعًا عن مبارك
لم تكن هذه هى المرة الوحيدة التى التقيت فيها القذافى فى عمل تليفزيونى؛ إذ كانت المرة الثانية فى إبريل 2005 عندما كنت أقدم برنامجى «قلم رصاص» من دبى، وكان الحديث فى مقره بطرابلس فى «باب العزيزية».
عندما دخلت عليه مكتبه بادرنى بالسؤال: «لماذا إصرارك على الهجوم على الرئيس مبارك؟»، قلت: «يا سيادة العقيد أنا لا أهاجم، أنا أنتقد»، قال: «ولكن ما اعتراضك بالذات على جمال مبارك؟»، أجبت: «ليس لى عليه أى اعتراض كشخص»، ثم أضفت: «لكن الجمهوريات لا تورث يا سيدى».
عَبَـرَ القذافى إجابتى وقال: «عندما آتى إلى القاهرة فى المرة القادمة سأصطحبك معى إلى الرئيس مبارك»، فضلت أن أتفادى النقاش فأجبت بأنه ليس بينى وبين الرئيس خلاف يستدعى الوساطة، وانتهى الحديث عند هذا الحد.
• وقعت عقد «قلم رصاص» مع «الليبية» باعتبارها «ذات توجه حر».. وبعد الحلقة الخامسة جاءنى أحد المسئولين وهو يهذى: «القائد.. القائد»
تأميم «الليبية»
فى مايو سنة 2009، كنت جالسا فى سكنى فى لندن الذى يطل على حدائق كنسنجتون، امتداد «هايد بارك»، أتأهب لإجازة نهاية الأسبوع بعد أن أنهيت تسجيل الحلقة الخامسة من برنامجى «قلم رصاص» فى قناة الليبية، عندما دخل عليَّ «توفيق» وهو يهذى بصوت عالٍ: «القائد القائد».
توفيق رجل ليبى طيب فى المجمل، يعمل فى مجال المقاولات على ما أظن، وهو صديق مقرب من عبدالسلام مشرى، رئيس مجلس إدارة مؤسسة «الغد» المسئولة عن القناة، انتدبه ليكون مسئولا إداريا يذلل العقبات أمام برنامجى فى أسابيع انطلاقته الأولى، وقد عرفته متزنا رزينا؛ الأمر الذى أثار دهشتى لما رأيته يصيح على هذا النحو الهستيرى.
«القائد» لأى ليبى لا أحد غير القذافى، والقذافى كما كنت أعلم لا شأن له بنا أو بالقناة، القناة تصدر عن مؤسسة مستقلة عن الدولة هى مؤسسة «الغد».
هذا ما قاله لى مشرى عندما التقينا فى دبى لأول مرة، كنا فى شهر يناير، وكان الرجل قد جاء ليتفاوض مع تليفزيون دبى على شراء بعض المسلسلات والبرامج من بينها برنامجى «قلم رصاص»، وعندما علم أن البرنامج أوقف اتصل بى فالتقينا وعرض عليَّ تقديم البرنامج فى قناته، وشدد يومها على أن القناة ليست تابعة لإعلام الدولة، وأن «مؤسسة الغد» أطلقتها بتمويل من بعض المنظمات الأهلية، فطلبت منه أن يمهلنى حتى نلتقى فى طرابلس.
كانت الدنيا من حولى وأنا ذاهب إلى ليبيا قد أظلمت، ليس فيها طاقة نور واحدة، أخذت أحاسب نفسى حسابا عسيرا وأتدبر فيما إذا كان الخطأ خطئى أم خطأ غيرى، لكن المحصلة فى النهاية كانت جلية: لم تعد هناك بلاد تتحمل مشروعى، ولا هناك محطات ذات وزن يمكنها أن تطيق ما أقول، لكننى لم أستسلم.
جلست مع مشرى رئيس مؤسسة «الغد» التى تشرف على قناة «الليبية» ساعات فى طرابلس نبحث مشروع العقد الذى كان قد أعده، كان كل ما يهمنى بالدرجة الأولى قدر الحرية المتاح، وانتهينا فى ذلك إلى أن ينص العقد على أن البرنامج «ذو توجه حر»، وهو على ما أظن نص فريد من نوعه فى مثل هذه العقود وإن كانت النصوص لا تضمن الكثير فى النهاية.
طال النقاش فيما بعد حول مكان تصوير البرنامج، وانتهينا أخيرا إلى أن البرنامج سيصور فى لندن؛ عاصمة الصحافة العربية المهاجرة.
عندما أوشكت على السفر إلى لندن استضافتنى منى الشاذلى فى برنامجها «العاشرة مساءً» الذى كان يتصدّر برامج المساء فى حلقة كاملة، وفيه فجَّرتُ المفاجأة التى لم يكن أحد قد علم بها من قبل، أن قطارى ستكون محطته القادمة فى «الليبية».
اندهشت منى بالطبع وأخذت تمطرنى بسؤال تلو الآخر: لماذا الليبية؟ ويبدو أن إجاباتى لم تكن مقنعة تماما حتى قلت لها فى النهاية إن مثل هذا الوضع السيريالى الذى أنا فيه ليس له إلَّا حل سيريالى أيضا، وعندما بدأ البرنامج فى استقبال مكالمات المشاهدين التليفونية غمرنى أصحابها بحبهم، ونبهتنى إحدى المتصلات إلى اختيار مسكن فى لندن بلا شرفات (إشارة إلى حوادث مقتل عدد من الشخصيات المصرية البارزة من شرفات مساكنهم فى لندن).
بعد ذلك سألت منى: «ولماذا لا تعود إلى بيتك؛ إلى مصر؟»، وكانت تعرف الإجابة بالطبع، قلت: «النهاردة أنا عقد الليبية فى جيبى، وفى الغد سوف أغادر إلى لندن، ومع ذلك أقول بوضوح: لو قدم لى عرضا من التليفزيون المصرى الآن فسوف أقبله على الفور وأنسى عقد الليبية، لكننى على يقين أن هذا لن يحدث، لا توجد فى مصر قناة تريد برنامجى، أعمل إيه؟ أنشر إعلانا فى الجرايد أقول فيه إنى أبحث عن وظيفة؟».
صمتت منى كما لم تصمت فى برنامجها من قبل، وسالت من عيونها دمعة غالبتها، تحدثت عنها الصحف كثيرا فيما بعد.
• فى الطريق من لندن إلى القاهرة شعرت أنى طريدٌ بلا رجعة بعدما ضاق الإعلام المصرى ببرنامجى
كان الألم يعتصرنى وأنا ذاهب إلى المطار، وكأننى طريد بغير رجعة، كُتبت عليَّ الهجرة مرة أخرى، والأنكى هذه المرة أننى لم أكن أعرف إلى أى عالم أنا ذاهب، كيف هم هؤلاء القوم الذين سأتعامل معهم، وما بالضبط نظم العمل فى تلك القناة التى ستأوى برنامجي؟
ما عرفته أن قناة الليبية كانت فى منطقة نفوذ «مؤسسة القذافى العالمية للجمعيات الخيرية» التى شكلها القائد ليعمل تحت مظلتها الوريث سيف الإسلام، وكان قد تنامى دوره داخل ليبيا، وعندما بدأ الحصار أصبح وجهها المفضل فى الغرب، خاصة بعد أن تأهل بشهادة دكتوراه عن الديمقراطية فى المجتمع المدنى حصل عليها من كلية الاقتصاد فى جامعة لندن بعد أن قدم مليونا ونصف المليون جنيه إسترلينى منحة للجامعة.
• سيف الإسلام لم يقترب من ساسة بريطانيا قدر اقترابه من «الجشع المتصابى» تونى بلير الذى كان مستشارًا لوالده
لم ألتقِ سيف الإسلام من قبل، لا قبل عملى بـ «الليبية» ولا بعده، وعلى الرغم من أنه كان كثيرا ما يتردد على لندن متنقلا على الطائرة الخاصة لمحمد رشيد الرجل الغامض المسئول عن أموال منظمة التحرير الفلسطينية، فإنه، على ما أعلم، لم يعقد اجتماعا واحدا حول الإمبراطورية الإعلامية التى كثيرا ما كان يقال إنه على وشك إطلاقها من لندن، والتى كان يفترض أن قناة «الليبية» هى فصيلها المتقدم.
كان بالغ الاهتمام بالمال وشئونه، وعلى الرغم من كل ما كان يشاع عن مهاراته وجولاته فى المحافل السياسية فإنه لم يقترب من الساسة البريطانيين قدر اقترابه من ذلك الرجل الجشع المتصابى تونى بلير الذى كان مستشارا لوالده، وهو أيضا الذى ساعده على نيل الدكتوراه على نحو ما نشرت الصحف البريطانية.
كانت الحلقة الأولى التى أذيعت يوم 26 مارس 2009 أكثر سخونة من التنويه، كان هناك مؤتمر قمة عربية على وشك الانعقاد خلال أيام، هذه المرة فى الدوحة.
وهكذا انطلقت أصول وأجول فى حديثى عن القمة وعن غيره من موضوعات الساعة، وحكيت أيضا للمشاهدين عن ظروف مصادرة برامجى السابقة، وقلت: «بعضهم كتب لى إن أحوال الحريات فى ليبيا عدمانة، قلت ده صحيح، إنما حد يقول لنا فين فى أرض العروبة ممكن الواحد يتنفس؟ الوضع سيريالى والحل لازم يكون سيريالى، وفى كل الأحوال من أول يوم قالوا لى إخوانا فى ليبيا مفيش خط أحمر، أنا ما اشتغلتش قبل كده فى محطة إلَّا واتقال لى إنه مفيش خط أحمر، وبعد كده شفت الخط الأحمر والجن الأزرق، لكن دى أول مرة يتكتب لى فى العقد إنى أقدم برنامجا ذا طبيعة حرة، وآدى إحنا، أنا وأنتم، حنشوف».
وفى مكان آخر فى الحلقة قلت: «قلم رصاص حيفضل يدافع عن الحريات، وحيفضل ملتزم بالمبادئ القومية، وحيفضل ملتزم بمواجهة قوى الهيمنة الكبرى، حيفضل ملتزم بأن طريق السلام يجب أن تسنده المقاومة، حيفضل ملتزم بمطاردة فساد أصحاب السلطة وأصحاب الثروة، حيفضل ملتزم بمعارضة توريث الحكم فى البلاد اللى بتسمى نفسها جمهورية ولَّا ثورية، ما احناش حنتحرك بالريموت كنترول، ولا حنتغير بتبديل القناة، حنتصادر، بس كل ما نتصادر حتزودنا المصادرة قوة وإيمان».
بعد أن سجلت الحلقة الخامسة دخل عليَّ توفيق البيت، كما ذكرت، يهذى: «القائد، القائد».
تلقى مشرى مكالمة من مكتب معمر القذافى تطلب منه إيقاف بث حلقة البرنامج التى كان مقررا إذاعتها فى المساء، فاعتذر عن عدم تنفيذ الأمر بأنه يتلقى تعليماته من سيف الإسلام، واتصل بسيف الإسلام يبلغه بما حدث فأمره بإذاعة الحلقة، وأذيعت الحلقة بالفعل فى المساء، وعندها تتالت الأحداث.
فى ساعات قليلة صدر قرار بحبس مشرى داخل مكتب القذافى ذاته فى باب العزيزية، ثم قرار آخر بإيقاف بث القناة، تلاه قرار ثالث بضمها إلى هيئة الإذاعة والتلفزيون الحكومية، وبعد منتصف الليل بقليل فوجئ العاملون فى القناة بمعمر القذافى يدخل عليهم وبصحبته على الكيلانى القذافى رئيس الهيئة، كانا وحدهما دون حراسة، وقف القذافى فى ردهة مبنى القناة الأمامية وأخذ يجول فيها جيئة وذهابا لدقائق معدودة، بعدها التفت إلى الكيلانى يسأله: «خلاص وضعت يدك على كل شيء؟»، ولما أجاب بالإيجاب غادر معمر.
أمم القذافى القناة هى وأخواتها، كان للخبر صدى كبير فى صحف مصر المعارضة وفى الصحف العربية، وأرجع معظمها سبب تأميم القناة وإلغاء البرنامج إلى الحلقة الأخيرة التى تعرضت بالنقد لموقف مصر الرسمى من المقاومة الفلسطينية، وكذلك لتحويل عضو فى حزب الله إلى النيابة بتهمة القيام بأنشطة وعمليات داخل الأراضى المصرية دون إخطار السلطات.
المصادر الصحفية كلها أجمعت على أن «مبارك» كان غاضبا غضبا شديدا وأنه كلم القذافى، مساومًا حسب البعض ومهددا حسب آخرين؛ مما أدى بالقذافى إلى تأميم القناة، الخلاصة أن «القذافى طوق أزمة مع مبارك بكبح الانتقادات الإعلامية»، كان هذا هو مانشيت جريدة «القدس العربى» يوم 28 إبريل 2009.
كنت قد زهدت الإقامة فى الخارج وكان الحنين يجذبنى إلى الوطن لأؤدى رسالتى هناك، فحزمت حقائبى عائدا إلى القاهرة؛ واتصلت بالصديق القديم محمود جبريل فى طرابلس، وهو خبير دولى بارز فى التخطيط، (بعد الثورة أصبح أول رئيس للمكتب التنفيذى للمجلس الوطنى الانتقالي). طلبت من جبريل أن يتدخل لدى من يعنيهم الأمر حتى تصرف مستحقاتى المتأخرة، فوعدنى أن يطلب ذلك من رئيس الوزراء البغدادى المحمودى.
وبالفعل اتصل بى فى القاهرة فى اليوم التالى ولكن لا ليبشرنى بانتهاء المشكلة وإنما لينقل لى عرض المحمودى بأن أعود للعمل فى القناة نفسها تحت إدارتها الحكومية الجديدة فى طرابلس، فاعتذرت شاكرا.
تأكدت من سبب إيقاف البرنامج وما لحق ذلك من تطورات. انزعج مبارك بداية لأن ليبيا أوت البرنامج بعد أن أوقف فى دبى، وانزعج أكثر من مواصلتى لانتقاده بحدة، ويبدو أن انزعاجه بلغ حده عندما اتصل تليفونيا بالقذافى.
قال لى أحد الأصدقاء الليبيين الذين كانوا يحيطون بـ«القائد» إنه حضر المكالمة وإنها استغرقت 22 دقيقة، وإنها تناولت فى البداية عددا من المسائل الشائكة فى العلاقات المصرية ــ الليبية، ثم شكا مبارك من البرنامج، وعندما لم يعده معمر بإجراء محدد لوَّح مبارك فى ابتزاز مكشوف بأنه قبل أيام منع إحدى الصحف القومية المصرية من فتح النار على القذافى شخصيا، وطلب منه صراحة أن يتخذ موقفا لا يقل حسما.
ولما كنت لا أشك فى صدق الصديق الليبى فقد فتحت النار أنا الآخر، وأعلنت فى أكثر من برنامج تليفزيونى استضافنى بعد عودتى إلى القاهرة أن الرئاسة هى السبب فى إيقاف «قلم رصاص»، ليس فقط فى «الليبية» وإنما أيضا فى قناة دبى.
بعد أيام اتصل بى المهندس أسامة الشيخ وقال إن وزير الإعلام أنس الفقى طلب منه إبلاغى أنه «يود أن ينقل لك رسالة مؤداها أنه لا أحد فى الرئاسة ضدك، بل إن الكل يرحب بعودتك إلى القاهرة ولا يمانع فى أن تعمل بأى من المؤسسات المصرية».
ولم تمضِ أيام حتى طلبنى الدكتور زكريا عزمى يبلغنى بالرسالة نفسها وذات النص، حتى هيئ لى أنه إذا لم تكن مملاة من الرئيس السابق ذاته فلا بد أن أحدا ما أرسل نصها مكتوبا إلى الفقى وعزمى.
عندها قلت: «ولكن ذلك غير صحيح يا دكتور.. أنتم الذين أوقفتم البرنامج»، سألنى زكريا عزمى إن كنت أملك دليلا ماديا على ذلك، فأجبت بالإيجاب على الرغم من أنه لم يكن فى حوزتى بالطبع مثل هذا الدليل، قال: «إذن نلتقى ونناقش الأمر»، أجبت بأن له أن يحدد الموعد والمكان، وكانت هذه آخر مرة أسمع فيها صوت زكريا عزمى.
ما إن مرت عدة أسابيع حتى كلمنى على ماريا القائم بأعمال مكتب المتابعة الليبى فى القاهرة، كنا فى مطلع شهر أكتوبر 2009، لم أعد أندهش مما تأتى به مثل تلك المكالمات من مسئولين ليبيين، دعانى، باسم القائد، لزيارة ليبيا «للمشاركة فى الاحتفال الذى سيقام بمدينة سبها فى الجماهيرية العظمى بمناسبة مرور 50 عاما على تأسيس حركة الوحدويين الأحرار».
قررت أن أقبل الدعوة على الرغم من كل شيء لسبب وحيد أن أحصل على حقوقى وأغلق ملف «الليبية»، كنت عازما على أن أحدث «القائد» فى الأمر عندما ألتقيه، وكان ذلك مقررا فى اليوم التالى الذى سنذهب فيه إلى بلدة «سبها».
أعد مسرحا مفتوحا كبيرا امتلأ بألوف من أهل «سبها»، تطل عليه منصة اصطففنا فى ناحية منها ننتظر «القائد»، كان يبدو يومها أكثر وقارا وأقل اندفاعا، لم يطرق المائدة التى أمامه بقبضته، ولا رفع يديه وصوته مهللا هاتفا كعادته، ولم يقذف بورق بين يديه كما فعل فى الأمم المتحدة أثناء كلمته.
جلس القذافى على المنصة يحيط به ضيوف الشرف القادمون من مناحى الأرض جميعا، وجلست إلى جانبه ابنته عائشة، وأخذ منظمو الحفل يسوقون الضيوف إلى المنصة العريضة التى تعلو عن الأرض بضعة أمتار، وجاءنى أحمد قذاف الدم يطلب منى الصعود إلى هناك لكننى اعتذرت، فقد كنت مشحونا بالغضب من تعامل «الليبية» معى، وكنت أعرف أننى لو وقفت أمامه وجها لوجه فلا مناص من أن أتكلم بحدة، ولم أجد هذا لائقا فى مناسبة عامة كهذه المناسبة.
أشهد أن قذاف الدم كان كريما ليلتها معى، تفهم رغبتى فى الجلوس فى الحديقة دون أن يلح، ثم مر بى أكثر من مرة همس لى فى إحداها بحكاية الطباخين الذين أهداهم زعيم يوغوسلافيا «تيتو» إلى «القائد»، وأخبرنى بأن السفرجية الذين يقدمون لنا العشاء إيطاليون، تبهج معمر كثيرا مثل هذه اللفتات.
سادة ليبيا فى الماضى يخدمون ضيوفها اليوم، على الرغم من أنه عفا عن إيطاليا بعد أن اعتذر رئيس وزرائها برلسكونى عن حقبة الاستعمار ودفع التعويض المناسب، ولو أنه أخذ فى مقابل العفو ترضيات مجزية.
• عدالة السماء أنهت حياة العقيد فى «أنابيب الصرف الصحى» حكاية مكالمة الـ 22 دقيقة بين مبارك ومعمر التى انتهت بوقف برنامجى ومصادرة القناة
كانت هذه آخر مرة أرى فيها القذافى قبل أن يلقى مصيره البشع وهو مختبئ فى أحد أنابيب الصرف فى سرت، جفلت من المشهد الوحشى الذى مثّل إساءة بالغة للثورة والثوار، ولكننى، شأن كثيرين كما أعتقد، أيقنت مرة أخرى أن عدالة السماء اقتصت لأولئك الذين أصدر عليهم القذافى أحكامه بالسجن والتعذيب والإعدام، إلَّا أننى ما كنت أود أبدا أن يتم القصاص على أيدى قوى الغرب وحلفائه فى قطر، أو أن ينتهى بتسليم البلاد إلى الظلاميين الذين أغرقوا البلاد فى الفوضى.