العرب اللندنية: اتسع نطاق الخلافات بين القوى السياسية في إقليم كردستان العراق مع نهاية فترة رئاسة مسعود البارزاني في 20 أغسطس الماضي 2015، وعدم توصل الأطراف الكردية الخمسة المشاركة في برلمان وحكومة الإقليم إلى اتفاق. وتأتي الأزمة السياسة في وقت يواجه فيه الإقليم تحديات عسكرية عديدة في ظلّ استمرار الحرب ضد تنظيم داعش في العراق. ولم يخفّف من حدّة التوتر قرار مجلس شورى القضاء المركزي في كردستان العراق، في 17 أغسطس 2015، بتمديد فترة رئاسة البارزاني مؤقتا إلى حين إجراء الانتخابات، والتوافق بشأن قانون الرئاسة. ويتوقّع تحليل للمركز الإقليمي للدراسات، بالقاهرة، أن تؤدّي هذه الأزمة إلى مرحلة جديدة من عدم الاستقرار السياسي في الإقليم، قد تفرض تداعيات سلبية لا تبدو هينة. ويعلّق محلّلون على الأزمة حول رئاسة إقليم كردستان العراق مشيرين إلى أنها، تقريبا، المرة الأولى التي توضع فيها علامات استفهام حول زعامة آل البارزاني، المستمرة منذ أربعينات القرن العشرين. ويقول المحللون "يبدو أن هناك جيلا جديدا من الأكراد بصدد تحطيم الأيقونات"، فتنامي الاستياء العام تجاه وضع وسلوك الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، بدأ يسفر عن حدوث بعض التغييرات في إدارة الإقليم. وبينما يصف هستيار قادر الصحفي في موقع “نقاش”، أزمة الرئاسة في إقليم كردستان العراق بالمرض المزمن، يصف كاوه حسن، الباحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، النظام في إقليم درستان العراق بالنظام السلطاني غير الديمقراطي.
ويذكّر قادر، في تحليله لأزمة كرسي الرئيس في إقليم كردسات العراق، بأنها أزمة تمتدّ إلى التسعينات من القرن الماضي، فمع اندلاع الحرب الأهلية عام 1994 تعّقدت مشكلة منصب الرئيس، إذ لم يكن الاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي اللذان كانا يديران الحكومة مناصفة ويملكان قوات مسلحة يقبلان بسيطرة الطرف المقابل على الكثير من المفاصل ما أدى في نهاية المطاف إلى اندلاع حرب دموية بينهما استمرت حتى توقيع اتفاقية واشنطن عام 1998. وخلقت الحرب الأهلية بدورها نظام الإدارتين جغرافيا، إذ كان الحزب الديمقراطي يدير المنطقة الصفراء في أربيل ودهوك، والاتحاد الوطني يدير المنطقة الخضراء في السليمانية وشكلا حكومتين مختلفتين. واتخذ منصب رئيس الإقليم خلال مرحلة الإدارتين مسارا آخر حيث بسط الحزب الديمقراطي نفوذه على البرلمان بـأغلبية 67 عضوا، ما سمح له بوقف العمل بالقانون الذي أصدرته الجبهة الكردية حول الانتخابات وصلاحيات زعيم الحركة التحررية الكردية عام 1992 وبذلك فقد منصب رئيس الإقليم الإطار القانوني. ويضيف هستيار قادر أن أزمة وجود رئيسين في إقليم كردستان تواصلت حتى عام 2005 حيث اتفق الاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي كحزبين رئيسيين في الإقليم على أن يتولى البارزاني الرئاسة لولايتين حسب قانون تمت صياغته من البرلمان المشترك، فقد انتخب في الأولى من البرلمان وفي الثانية من قبل الشعب. أما استغناء الاتحاد الوطني عن منصب رئيس الإقليم فلم يكن دون مقابل، بل أجبر الحزب الديمقراطي على دعم طالباني لتولي أحد أعلى المناصب في الدولة العراقية وهو منصب رئيس الجمهورية.
في عام 2009 تولى بارزاني منصبه من جديد عبر انتخابات عامة، ومع انتهاء الولاية الرئاسية الثانية في عام 2013 أصبح منصب رئيس الإقليم مصدر خلاف الأطراف من جديد، إذ لم يكن بمقدور البارزاني ترشيح نفسه حسب قانون رئاسة الإقليم لعام 2005. وكانت القوى المعارضة سابقا والمتمثلة في حركة التغيير والاتحاد الإسلامي والجماعة الإسلامية تعارض توليه المنصب من جديد، ولكن تم تمديد ولاية البارزاني لعامين عن طريق مشروع قانون اقترحه الاتحاد الوطني، ليتجدّد الجدل مع نهاية هذه الولاية في 20 أغسطس الماضي، وفشل الأحزاب الكردية في التوافق بشأن أزمة رئاسة الإقليم، مع استمرار الخلاف حول شكل نظام الحكم في الإقليم، حيث يسعى البارزاني إلى تأسيس نظام رئاسي تتسع فيه صلاحيات الرئيس، في حين أبدت حركة التغيير والاتحاد الوطني والاتحاد الإسلامي والجماعة الإسلامية تأييدها لتأسيس نظام برلماني يقلص من سلطات الرئيس لصالح الحكومة الائتلافية.
ويحكم مسعود البارزاني (68 عاما) زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني والمقاتل السابق، الذي حارب ضد صدام حسين، المنطقة الكردية منذ إنشاء النظام الرئاسي بها عام 2005. ويدعو أنصار البارزاني إلى تجديد ولايته رغم عدم وجود سند قانوني، مبررين ذلك بأن مشروع الدولة الكردية قد يفشل وقد تصبح كردستان في مهب الريح إذا غاب البارزاني عن السلطة، خصوصا في ظل الوضع الإقليمي الحالي. الخلفية التاريخية لأزمة الرئاسة في إقليم كردستان العراق، تؤكّد ما ذهب إليه كاوه حسن، في دراسته الصادرة عن مركز كارنغي، وفيها يتحدّث عن المجتمع المسيّس في كردستان والنظام السلطاني؛ حيث يشير الباحث المتخصص في السياسات الكردية والعراقية، إلى أن إقليم كردستان العراق يتمتع بقدر أكبر من الاستقرار والتنمية الاقتصادية والتعدّدية السياسية من بقية البلاد. لكن ذلك لم يمنع من أن تستأثر بالسلطة أحزاب وأسر حاكمة تعمل على إدامة نظام سلطاني غير ديمقراطي. ويهيمن الحزب الديمقراطي الكردستاني، بزعامة مسعود البارزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، بزعامة رئيس العراق السابق جلال الطالباني، على كامل النظام في الإقليم.
مجتمع مسيس
يشير كاوه حسن إلى أن إقليم كردستان شهد طفرة اقتصادية بين عامَي 2003 و2013 كانت قائمة على عائدات النفط والاستثمار الأجنبي. وغذّى الانتعاش الاقتصادي المفاجئ التنمية في الإقليم، غير أنه أدّى أيضا إلى إثراء المستثمرين والنخبة الحاكمة وتمكينهما. واعتبارا من مطلع العام 2014، بدأت حكومة إقليم كردستان تواجه أزمة اقتصادية حادّة بسبب الفساد وسوء الإدارة، والخلافات مع بغداد، ومحاربة تنظيم الدولة الإسلامية. ويعتمد الاقتصاد السياسي للنظام على الاحتكارات الاقتصادية وشبكات المحسوبية، والتي يتم استغلالها لإثراء النخب الحاكمة في الإقليم واستمالة بعض قطاعات المجتمع واحتواء المعارضة. وفي غياب قانون تمويل الأحزاب، استغلّ الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني أيضا الموازنة العامة لتمويل النشاطات الحزبية، وكذلك وسائل الإعلام الموازية والمدعومة حزبيا. ويستحضر كاوه حسن، في حديثه عن المحسوبية والفساد وسط النخبة السياسية الكردية، ما جاء في برقية صادرة عن وزارة الخارجية الأميركية في العام 2006 ونشرها موقع ويكيليكس، بأن الفساد يمثّل "أكبر مشكلة اقتصادية في كردستان". ووفقا للوثيقة، التي حملت عنوان "الفساد في الشمال الكردي"، يدفع رجال الأعمال الذين يسعون إلى الحصول على عقود حكومية ما نسبته 10-30 في المئة من قيمة العقد ليصبحوا "شركاء" للشركة التي يملكها أحد الرعاة الحزبيين، ونسبة 10 في المئة أخرى إلى مدير الدائرة الحكومية التي تصدر العقد. يحلل كاوه حسن الوضع في كردستان العراق مشيرا إلى أن هناك مفارقة تتكشّف في إقليم كردستان، وتتمثّل في التناقض بين النظام السياسي وبين تطوّر المجتمع. فقد أصبح المجتمع في حكومة إقليم كردستان مسيّسا أكثر فأكثر، فيما أصبح الناس واعين بحقوقهم أكثر من أي وقت مضى، ويسعون جاهدين إلى الحصول عليها. مع ذلك، وفي الوقت نفسه، أصبح الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني أكثر "سلطانية".
ويعرف مصطلح "السلطانية"، بأنه شكل من أشكال الحكم يقوم على المحسوبية والزبائنية ومحاباة الأقارب والشخصانية، والسلالية (الحاكمة). وبينما يحاول الحزبان والعائلتان الحاكمتان تعزيز نظام سلطاني غير ديمقراطي، يسعى أفراد المجتمع إلى مزيد من الديمقراطية وبالتالي إلى نظام غير سلطاني بطبيعته يقوم على سيادة القانون والجدارة والشفافية والمساءلة. ويتجلّى هذا السعي في احتجاجات منتظمة ضد انعدام سيادة القانون وظاهرة الإفلات من العقاب والفساد المستشري على أعلى المستويات. ويصف الباحث النظام الذي يهيمن على كردستان اليوم بأنه شكل من أشكال الاستبداد. ويقوم على أربعة أركان: رأسمالية المحسوبية التي هي نتاج عدم إزالة الحدود الفاصلة بين الحزب الحاكم والدولة، وبين الخزانة العامة والثروات الخاصة، والشخصانية والسلالية، على الرغم من أن النظام ليس ملكيا بالضرورة، إلّا أنه نوع من النفاق يتم فيه التلاعب بالدستور والقوانين لمصلحة الأحزاب الحاكمة، ويستند إلى قاعدة اجتماعية ضيّقة تمكنّ النخبة الحاكمة من ممارسة إرادتها بصورة مستقلة عن المجتمع. من غير الواضح، وفق كاوه حسن، كيف سيتطور التوازن بين هاتين القوتين، بيد أنه يبدو مهمّا، وستترتّب عليه آثار لا تقتصر على كردستان فحسب، بل أيضا على العراق وحلفائه. إذ تلعب حكومة إقليم كردستان دورا حاسما في المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية. كما تتوفّر في الإقليم موارد هائلة من النفط والغاز، حيث استثمرت بعض شركات النفط الغربية الكبرى والقوى الإقليمية مثل تركيا بكثافة في قطاع الطاقة في إقليم كردستان، وعلاوة على ذلك، يعتبر المجتمع الكردي العلماني والإسلامي المعتدل بصورة عامة حليفا اجتماعيا أساسيا على المدى الطويل في المعركة ضد التطرّف الديني.
تأثيرات خارجية
يحمل كاوه حسن القوى الخارجية المسؤولية في دعم إقليم كردستان لتجاوز أزمته التي قد تتحول إلى اقتتال مسلّح في المنطقة هي في غنى عنه، فمن دون شك، أن استمرار أزمة رئاسة كردستان دون حسم بسبب اتساع نطاق الخلافات بين القوى السياسية الرئيسية، سوف يفرض تداعيات سلبية عديدة، لخّصها تحليل المركز الإقليمي للدراسات على النحو التالي:
* توفير فرصة لتنظيم داعش للتمدد داخل مناطق جديدة، نظرا لانشغال القوى الكردية بمشكلاتها الداخلية بعد أن مارست قوات البيشمركة دورا بارزا في المواجهات وساهمت في استعادة الكثير من المناطق التي سيطر عليها داعش في الفترة الماضية.
* تصاعد الصراع بين الأطراف الكردية للحصول على دعم القوى الإقليمية المعنية بالأزمة، على غرار إيران وتركيا، بهدف حسم توازنات القوى الداخلية لصالحها. وفي رؤية اتجاهات عديدة، فإن تركيا ربما تسعى إلى استثمار مساعي مسعود البارزاني للحصول على دعمها في صراعه مع القوى السياسية الأخرى التي ترفض مسألة تمديد ولايته الرئاسية من أجل تصعيد ضغوطها على حزب العمال الكردستاني. ورغم أن إيران تحاول ممارسة دور الوسيط لتسوية الخلافات بين القوى الكردية المختلفة، من خلال سفيرها في العراق حسين دانائي فر، فضلا عن قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني، إلا أن ثمة مؤشرات عديدة تكشف عن سعيها لدعم تمديد ولاية البارزاني، خاصة أن تصاعد الصراع السياسي داخل الإقليم يمكن أن يعرقل الجهود التي تبذلها أطراف عديدة بهدف تحجيم نفوذ داعش في شمال العراق.
* اتجاه أطراف دولية، مثل الولايات المتحدة الأميركية، نحو فرض ضغوط قوية على الأحزاب الكردية المختلفة من أجل تسوية الخلافات العالقة بينها. في النهاية، يمكن القول إن استمرار تصاعد حدة الصراع بين القوى السياسية الرئيسية في إقليم كردستان يهدد حالة التماسك الداخلي في الإقليم ويقلص من الجهود الحثيثة التي يبذلها الأكراد بهدف الحصول على مكاسب سياسية مهمة عبر استغلال الوضع في العراق ومن الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية.