العرب: "أنا ممّن يحاربون ما يوجد في الدنيا اليوم من أوهام تفصل بين الثقافات والديانات. فهذا العصر في حاجة ماسة إلى نشر العلم بمعرفة الناس بعضهم بعضا ومعرفة أديانهم، إذ تسود في الوقت الحاضر أوهام حول الأديان الأخرى، ما يحول دون المزيد من التعاون على الخير بين أهالي الديانات"، بهذه الكلمات عبّر حديث الباحث الأميركي بول هيك عن "صيحة الفزع الإنسانية" التي تطلق من كل مكان في العالم، بحثا عن السلام، أي لحظة الهدوء الإنساني التي يستطيع من خلالها الجميع أن يراجع نفسه وخطابه وطريقة تفكيره تجاه ذاته والآخر والعالم. وأكد هيك أن كل العلاقات التي تحكم الأديان هي علاقات "استمرارية" و"تكامل" وليست علاقات عداء أو نفي، ففي فلسفة الدين، يمكن القول إنه إذا كان الخالق واحدا وهو الإله، فإن أديانه لا يمكن ـ منطقيا ـ أن تتناقض أو تتنازع فيما بينها لتكون هي الأقوى أو الأكثر انتشارا، أو أن تكون مبررا للقيام بأعمال القتل والتهجير والاضطهاد ضد الآخرين باسم التعصّب إلى دين ما.
وتفيد الدراسات الفلسفية للأديان، أن المصطلحات والمعاني والتراكيب تتجانس وتقترب بعضها من بعض فيما يخص الدلالات القصوى لها، بطريقة تكون معها أهداف الدين موجودة ومشتركة بين الأديان السماوية جميعا، "إذ لا شك في أنه توجد مساحة مشتركة بين جميع الأديان" كما يقول بول هيك، فمن ناحية يلاحظ التنوع في الآراء في الأديان بخصوص فطرة الإنسان: هل يتوجه الإنسان إلى وجه الله بالفطرة من دون التنزيل؟ ماذا يفسد شأن الفطرة وماذا يصلحه؟ هناك الكثير من الآراء بشأن الفطرة. ومن ناحية أخرى، لا يخفى على أحد أن كل دين يرفع شأن الإنسان ومكانه في الكون. فقد يختلف هذا الدين عن ذلك في تسمية الإنسان، هل هو ابن من أبناء الله أو خليفة من خلفاء الله؟ إذ يمكن تسميته بالعديد من الأسماء والصفات، فالإنسان في آخر المطاف هو المخلوق الذي اصطفاه الله من بين سائر المخلوقات، ولا شك في أن المخلوقات جميعا على صلة بالخالق بصورة أو بأخرى، حسب بول هيك.
ويشير الباحث الأميركي إلى جوهرية الخلافة الإنسانية وتمايز الإنسان (بإرادة إلهية) عن سائر المخلوقات، فهو الحيوان الذي سلّطه الله على أمره، وذلك متفق عليه في الأديان الثلاثة، حيث يمتاز الإنسان بتلك السلطة على غيره من المخلوقات. والإنسان مهما كان دينه له سلطة على الأرض، سلّطه الله بها ليقوم على أمره، "ونجد ذلك القول في الكتب المنزّلة كلها، فهل نحن فعلا على استعداد للعمل بها؟"، كما يتساءل بول هيك. ويقول الباحث هيك متحدثا عن الأديان الثلاثة والرابط بينها "أن اليهودي والمسيحي والمسلم يقرّون جميعا بأن الله سلّط الإنسان بسلطة من أجل الخير دون الشر ويفترض أن يجمعنا هذا القول المتفق عليه". وربطا بما يحدث اليوم من انتشار لخطابات التطرف والتطرف المضاد، سواء إسلامي أو مسيحي أو يهودي أو حتى بوذي (في إشارة إلى مشكلة الأقلية المسلمة في ميانمار)، فإن تبني خطاب ديني أو سياسي تحريضي على الفتنة والقتل باسم الدين أو الطائفة أو العرقية، هو عصيان لإرادة الإله ومقاصد شرائعه والحكمة من خلقه. ويقول بول هيك في هذا السياق "إذا كنت أنا من المسلطين لأقوم على أمر الله في الأرض أليس من هو على دين غير ديني هو الآخر على الأمر نفسه؟ هكذا أرى فيه شريكا بالأمر، وإن اختلف دينه عن ديني.
وما يريده الله مني فيما يخص هذه السلطة، فإنه تعالى يريده من غيري، فسلطنا الله بسلطة لنتعاون جميعا على الخير دون الشر من حيث الإحسان والوفاء بالقول والرعاية بشأن الفقير والمستضعف والمسكين وعيادة المريض وحفظ النظافة والبيئة وما إلى ذلك". وأكد بول هيك الباحث في جامعة جورج تاون بواشنطن أن عددا من الباحثين والمؤرخين "جانبوا الصواب" حين قالوا إن تاريخ الأديان هو إعادة إنتاج للنصوص التي تثير النعرات بين الأديان والردود التي تبادلها أتباع الديانات بعضهم عن بعض من أجل إثبات صحة هذا الدين على حساب الآخر. ويؤكد بول هيك في الآن ذاته أن دراسة تاريخ الأديان هو "إبراز للمشترك بين هذه الأديان جميعا" وهو تأصيل تاريخي للتسامح والتعايش بين الأديان جميعا دون أي نزوع للتعصب أو التناحر بين قوميات العالم التي، من حسن حظها، تحتوي على أكثر من دين داخل شعوبها. وأشار هيك إلى أن المساحات المشتركة بين الأديان هي «المرتكز الفعلي الراهن لحوار الحضارات والأديان» الذي تسعى جهات عديدة إلى صياغته، «فهي المهمة الموكلة للباحثين والعلماء ورجال الدين والسياسيين». وأكد هيك أن كل الأديان السماوية لديها أجزاء مخصصة لقبول الدين الآخر وهي تلك الفضاءات النصية والروحية التي تتطابق فيها نصوص الأديان الثلاثة.