لم يكن نور الدين ف م يتخيل أنه سيواجه مصاعب جمة ورحلات مكوكية بين طرابلس وتونس، من أجل الحصول على تأشيرة الدخول إلى المغرب التي زارها سابقًا في كثير المناسبات دون أدنى صعوبة، قبل أن تفرض المملكة المغربية على غرار مصر تأشيرة الدخول على المواطنين الليبيين، فتُحول سعيهم للحصول على الوثيقة النادرة التي تسمح لهم بدخول أراضي هذين البلدين العربيين الأفريقيين إلى جحيم حقيقي.
ويقول نور الدين: إن المثل القائل «ألا إنما الإخوة عند الشدائد» يصبح أكذوبة ووهمًا في هذا الواقع الذي يعيشه الليبيون؛ حيث تشهد بلادهم منذ سنة 2011 نزاعًا مسلحًا داميًا لا تنفك تطوراته تتفاقم.
أكثر من شهر ونصف الشهر مضى على تقديم هذا المواطن الليبي الموظف بأحد المصارف العاملة في طرابلس طلب تأشيرة لدى السلطات القنصلية المغربية في تونس العاصمة، وما زال ينتظر الإذن بالتوجه إلى المغرب لغرض السياحة لبعض الوقت هربًا من الأجواء المشحونة السائدة في طرابلس، وغيرها من مناطق البلاد التي تواجه انفلاتًا أمنيًا وما تنطوي عليه من أعمال عنف يومية.
يجدر التنويه إلى أن الغالبية العظمى من البعثات الدبلوماسية الأجنبية المعتمدة في ليبيا أغلقت أبوابها موقتًا، على إثر تفاقم أعمال العنف والانفلات الأمني الذي تعيشه البلاد، والذي طال العاصمة طرابلس في يوليو الماضي.
ولتقديم طلب تأشيرة للمغرب أو مصر أو الدول الأخرى، أصبح لزامًا على الليبيين السفر إلى تونس حيث يتوجهون إلى المصالح القنصلية لهذه الدول في تونس العاصمة، وهكذا بات آلاف الليبيين من مرضى وسياح وطلبة وذوي قرابات أو مصالح اقتصادية، خاصة في مصر والمغرب، يعانون الإجراءات المشددة والمصاعب الكبرى التي تعيق الحصول على تأشيرة دخول هذين البلدين العربيين، منذ أن فرضت الرباط والقاهرة تأشيرة الدخول على جميع الليبيين.
وكانت السلطات المصرية والمغربية بررت هذه الإجراءات بتنامي الأخطار الأمنية والتهديدات الإرهابية، ووجود منظمات للمتشددين الإسلاميين في الأراضي الليبية، بسبب تدهور الوضع الأمني وعجز السلطات الليبية عن التصدي للفوضى الأمنية، ومراقبة الحدود البرية والجوية والبحرية.
غير أن نور الدين لا يبدو مقتنعًا بهذه التبريرات، حيث أشار إلى أن المغرب ومصر على حد سواء شهدتا عدة عمليات إرهابية منذ عدة سنوات، عندما كان الليبيون لا يملكون حتى بنادق الصيد التي سحبها النظام السابق وحظر امتلاكها.
وفي ظل فرض التأشيرة أصبح المواطن الليبي الساعي للسفر إلى أحد هذين البلدين مجبرًا على قطع رحلة طويلة وشاقة تبدأ بالانتقال من طرابلس إلى تونس العاصمة مع ما ينتظره من تعقيدات عند منفذ رأس إجدير؛ حيث تستغرق مدة الانتظار في طوابير طويلة من السيارات والبشر ما بين 8 و24 ساعة وتمتد أحيانًا إلى 48 ساعة.
ويعبر من هذا المنفذ الحدودي الذي يعد أهم الشرايين الحيوية للتبادل بين ليبيا وتونس، نحو عشرة آلاف شخص يوميًا، منذ تدهور الوضع الأمني في طرابلس.
ويتعين بذلك على طالب التأشيرة قطع مسافة 750 كلم بين طرابلس وتونس العاصمة، منذ غلق مطار طرابلس الدولي الذي تم تدميره جزئيًا خلال الاقتتال الذي جرى بين جماعات مسلحة محسوبة على مدينة مصراته وأخرى محسوبة على مدينة الزنتان، وتعليق الرحلات المباشرة من وإلى تونس ومصر انطلاقًا من مطار معيتيقة بالضاحية الشرقية لطرابلس.
وعلاوة على مشقة الرحلة البرية من طرابلس إلى تونس ومخاطر الطريق وحوادث المرور؛ حيث يستكمل سائق السيارة إجراءات العبور عند المنفذ الحدودي منهك القوى فاقد التركيز، بسبب ساعات الانتظار الطويلة والازدحام الشديد، تأتي المصاريف المترتبة على هذه الرحلة خاصة مصاريف الإقامة لتضيف همًا آخر للساعين للحصول على التأشيرة وهم بالآلاف.
وفي العاصمة التونسية تبدأ المشقة الحقيقية فور الاتصال بالمصالح القنصلية لهذين البلدين؛ حيث تطول الطوابير أمام مقارها سواء تحت وطأة حرارة الشمس أو في أجواء البرد في الشتاء كما هو الحال الآن، وفي هذه المرحلة قد ينتظر المواطن الليبي يومين أو ثلاثة لتقديم طلب التأشيرة، وإحضار رزمة من المستندات بما فيها حجز في الفندق وتذكرة السفر إلى المغرب، على سبيل المثال، وهنا تبدأ عمليات الابتزاز والفساد والتي تتم تحت سمع وبصر الجميع، كما يؤكد معظم الذين التقتهم «بوابة الوسط» في العاصمة التونسية.
ويؤكد المواطن الليبي الأربعيني ص م أ، وهو صاحب وكالة تجارية أنه وقف في الطابور أمام القنصلية المغربية لكنه اضطر للعودة بعد 48 ساعة لتقديم طلب التأشيرة، بعد أن فشل في الوصول إلى شباك تقديم الطلبات في المرة الأولى، لأن وقت استقبال الطلبات ينتهي في الثانية عشرة ظهرًا بالتوقيت المحلي لتونس.
وقال: «لقد ضاع كثير من وقتي في الطابور لأن الليبيين الباحثين عن التأشيرات كانوا كُثرًا»، مضيفًا أن «المصالح القنصلية المغربية كان بمقدورها تيسير هذه الإجراءات مراعاة لمعاناة الليبيين».
بدوره صرح الصحفي الليبي ع م ص (58 سنة) بأنه قدم طلب تأشيرة له ولأسرته يوم27 أكتوبر الماضي، وقال: «إنني أمضيت ثلاثة أيام في تونس العاصمة لكي أتمكن من تسليم مستندات طلب التأشيرة، وعلى الرغم من مرور سبعة أسابيع لم أتلق حتى اليوم ردًا»، مؤكدًا أنه انتقل مرة ثانية إلى تونس العاصمة للسؤال عن أخبار طلبه، لأن هاتف القنصلية المغربية في العاصمة التونسية لا يرد قط، وأحيانًا يكون على نظام الرسالة الصوتية.
وأضاف «إن عشرات من المواطنين الليبيين يوجدون في الوضع نفسه وينتقلون جيئة وذهابًا بين طرابلس وتونس للسؤال عن أخبار تأشيراتهم فيضيع لهم كثير من الوقت والمال، لأن الجواب دائمًا هو نفسه، لا جديد في الأمر على الرغم من استمرار القنصلية المغربية في قبول الطلبات».
ويرى الصحفي الليبي أن «البلدين (المغرب ومصر) كان الأولى بهما أن يسهلا إجراءات الليبيين في هذا الظرف الصعب الذي تمر به بلادهم».
واقترح في هذا الصدد إقامة نظام التأشيرة البيومترية على الإنترنت، على غرار ما فعلت دول أفريقية من بينها السنغال البلد الصغير والفقير لكنه في الحقيقة بحسب هذا الصحفي بلد «التيرانغا» (بمعنى الضيافة) فعلاً.
وقال: «لقد زرت الموقع الإلكتروني لشرطة الحدود والمطارات السنغالية، وملأت الوثيقة الخاصة بطلب التأشيرة، وفي غضون ثلاثة أيام جاءني الجواب بالموافقة على منحي تأشيرة سفر، فسحبت مستند الموافقة وركبت الطائرة ولدى وصولي المطار وُضعت التأشيرة على جوازي ولم أحتج للخروج من مكتبي في طرابلس للذهاب إلى تونس أو غيرها».
واعتبر أن «الأشقاء» المغاربة والمصريين يعقدون الحياة على الليبيين بل يحاصرونهم شأنهم في ذلك شأن الجماعات المسلحة التي انتشرت في طول البلاد وعرضها.
وقال: «لقد كان الليبيون -حتى وقت قريب- يكرمون ضيافة مئات الآلاف من العمال المصريين والمغاربة الذين يشكلون غالبية اليد العاملة الأجنبية في ليبيا وما زالوا إلى اليوم يستقبلونهم بالترحاب على الرغم من كل شيء».
ولا يكاد الوضع يختلف على مستوى القنصلية المصرية في تونس عما هو عليه في نظيرتها المغربية، حيث تمتد طوابير الانتظار وتكثر الإجراءات البيروقراطية مع ما تشترطه من وثائق على طالبي التأشيرات.
وفي هذا السياق، يستغرب رجل الأعمال، عبدالمالك بلحاج تعامل مصالح القنصلية المصرية في تونس متسائلاً: «كيف لا يراعي المصريون واقع بلادنا التي تمزقها الفوضى وتغيب فيها أجهزة الدولة تمامًا».
وأضاف إنهم «يطلبون منا وثائق وهم يعلمون جيدًا أن مصالح الإدارة متعطلة في البلاد التي تتنازع السلطة فيها حكومتان وبرلمانان مما يسبب صدمة جديدة للمواطنين الذين يرون بلادهم تقترب من شفا الحرب الأهلية».
وتساءل رجل الأعمال الليبي كذلك: «لماذا لم تحذ مصر والمغرب حذو تونس التي فتحت حدودها واستقبلت الليبيين دون مضايقة، على الرغم من تدفقهم بعشرات الآلاف عليها منذ 2011؛ حيث يبلغ عددهم اليوم زهاء المليون مواطن بين مقيم وزائر موقت.
وشدد على أن التضامن يجب أن يعلو على أي اعتبار آخر، مفندًا المخاوف التي عبرت عنها القاهرة والرباط حيال الرعايا الليبيين.
بدوره، يرى إبراهيم الفيتوري (50 سنة) أن «دافع سفر الليبيين إلى الخارج هو بالأساس إما للدراسة أو للعمل أو لارتباطات اقتصادية أو أسرية وكذلك للابتعاد قليلاً عن مناخ العنف والرعب السائد في بلادهم»، مبينًا أن «هذه الدول من حقها أن تفرض ما تراه مناسبًا من قيود على دخول أراضيها على الليبيين، ولكن يجدر بها تسهيل الإجراءات وتبسيطها لأن الجميع مسؤولون ومواطنون نعلم أن «المشبوهين» يمرون عبر قاعات الاستقبال الخاصة فلديهم المال والشبكات الناشطة ويحسنون خلق دوائر الفساد وهي متوافرة بكثرة في عالمنا العربي، وبالتالي فإن الذي يدفع الضريبة دائمًا هم البسطاء والمسالمون من المواطنين»، بحسب قوله.
ويرى معظم هؤلاء الليبيين أنه أمام هذه المآسي التي يعانونها في سبيل التمكن من السفر إلى المغرب ومصر، فإنه يتعين على سلطات هذين البلدين تبني موقف أكثر مرونة بقصد المساهمة في تخفيف معاناتهم وآلامهم لا زيادتها.