السيد رئيس والسـادة أعضاء المؤتمر الوطني،
السيد رئيس الحكومة المؤقتـة والسادة الوزراء،
الإخــوة قــادة التـشـكيلات المســلحة،
السادة رؤسـاء التكـتــلات والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني.
تحـيـة طـيـبة وبعـد،
بعيدا
عن لغة العواطف والأماني ، ومن باب الـوفــاء لهـذا الوطن الذي ضحيتُ
مثلما ضحّى الكثيرون في سـبيل أن ينعم بالحرية والاستقرار والازدهــار، أجد
نفسي ملزما أن أطرح عليكم ما يلي:
الأحـداث
والصراعات والتهديدات والتسويات المختلفة والتراجـعـات تحت تهديد السلاح
أو غيره، كلها ليست بخافيـة عن شـعبنا، رغـم حرص المسئولين على إخـفـائـها،
كل بطريقـتـه ولأسـبابه الخـاصـة. لكن إدعــاءنا بأن الأمور تسير كما
ينبغي لن تمنع وقــوع الكــارثـة محدقـة بهـذا الوطن الذي، سـواء أحـببناه
أو رأينا فيه مجرد مصدر للغنيمة ، سـتكون حياتنا بدونه وحياة الأجيال
الشابة بـؤســا وضنـكا ومـعـاناة.
مـقـتــرحات لم تـنـفــذ
دعــوني
أولا، أشــيـر إلى أنـني في بواكير الثورة ، قدمت ثلاث مذكرات، لرئيس
المجلس الانتقالي ، بمـقـتـرحـات لم تـنـفـذ للأسـف. المـفـارقـة هي أن
الرؤى والسـياسـات البـديـلـة التي تشـبث بـهـا صـنـاع القرار، فشـلت في
إخـراج البــلاد من المـخـتـنـقــات التي ترتبت على الثــورة. وكانت
مـقـتــرحـاتي قـد طـرحـت التالي:
• تأهيل الثوار وإشـراكـهـم في السلطة، ولم تحدث أي استجابة في هـذا المضـمـار، ربما لظن البعض أن مقـتـرحــاتي مفرطة في السخاء!
• اسـتـحداث
نظـام موسـع ومؤقت للحكم المحلي والذي رآه البعض سابقا لأوانـه وأننا حسب
قـولـهـم بحاجة للمركزية آنذاك منـعـا لانـقــسام البلاد.
• الإســراع
في اسـتئناف الكثير من المشاريع المتعطلة ولو بالاعـتمـاد على العنصر
الليبي فـقـط. وهـذا ما بـدا ســابـقـا لأوانـه لدى التكـنـوقــراط الذين
قـدموا على موجـة من التفاؤل والوعـود بأن ليبيا ســتـنهض على أيـديـهـم
بسرعة البرق.
الســلاح والثــوار
بديهي
أن السلاح العشوائي، نقيضٌ للدولة المـدنـية المتحـضـرة، وأن السلطة ، أي
سلطة .. سلطة رئيس الحكومة، الوزير، عضو المؤتمر، القاضي، ناظر المدرسة،
وصـراف المصرف، وشرطي المرور .. الخ، لا يمكن أن تـتحـقـق في ظـل انتـشـار
السلاح وغـياب الأمن الشخصي للمسئول والمواطن. وهـكذا تعـطـلت الدولة
وشـوهـت القرارات والأولويات.
مضاعفات
السلاح شملت امتلاكـه من قبل فئـات ذات تـطـلـعـات قـبلـيــة أو جـهـوية
أو آيدولوجية تريد أن تفرض نـفـســهـا، وأيضا للأسـف وقـوعـه حتى في أيد
مجرمـة. وهـذه كلـها فـئـات شـوهت صـورة الثـوار الذين ضـحـوا بنـبل وسـخاء
من أجل حـرية ليـبيا ووحــدتـها وازدهــارهـا.
وهـكـذا
انقسـم الشعب الليبي إلى من يملكون السلاح ، وأغلبية تريد أن تعيش دون
صــدامات أو صـراعات. وقـد اسـتحال تطهير البلاد من السـلاح، لضعف مؤسـسـات
الدولة من شرطة وجيش. ويبــدو من المسـتـحيل جمع السـلاح في المسـتـقـبل
المنظــور. لكن بإمكانـنـا على الأقـل اســتبعاد حـدوث حروب أو مجـازر،
والتقليل من خـطـر انهـيار قـدرة البـلاد في الدفــاع عن حـدودهــا. وإذا
حـدثت هـذه المضاعـفــات فسـتنزلق ليـبــيا إلى خــانـة الدولة الفاشــلة
التي يكاد تـسـتـحيل الـعـودة منـها.
ولقـد
طالبـت مرارًا وتـكــرارًا، بإشـراك الثــوار في السلطة، بترشيح من
يمثلـهم لحقائب وزارية مثلا، حتى يكون لهم رأي في دولة الثـورة التي
حـاربوا ببطولة من أجل قيامـهـا. وما لم نزرع الثـقـة، خاصة بين الثــوار
والسـلـطـة ونحـترم آراءهم ومقترحــاتـهـم، فلن يمكن دمجـهـم في نســيج
سياسـي قـائم على التعـدد واحترام آراء الآخرين.
أيـهـا الإخــوة والأخـوات:
والآن
وبعد قـرابـة العامين من ســقـوط نـظــام القـذافي، نجـد أنفسـنا في
تـقـهـقـر مســتمر وتعـثــر يصعب تبـريره وحالة من فوضى العصور الوسطى دون
دولة فـاعلـة.
بـل
أصـدقـكم الـقـول، بأنني على يقين بأن لا أحـد من الأطراف السياسية التي
أتوجـه إليها بـهـذا الخـطــاب، قـادر على السـيطرة بمفرده على زمـام
الأمـور.
لقد
أهـدرت الأموال، وتوالت المواجـهـات والاتـهـامات والاقتحـامات، ودلـقـت
السباب والشــتائم دون حسـاب، وفي النـهـاية ليس سوى هـذا الفشـل الذريع
بمســاحـة صـحرائنا المترامية. فهل النخبة الليبية بهـذا المستوى من
الغـبـاء والقـصـور ؟ أم أن هـناك أسـبابا وملابســات لا نفـقـهـهــا؟
وحتى
ولو نجحنا في احـتواء صراعـاتـنــا وغـضبنا وكبح أجـنـداتـنـا المحلية،
فإن مخـاطر خـارجـيـة أخرى تحدق بهـذا الوطن. والمؤسف أن انهيار المجتمعات
أمر يسير، ولكن اسـتـعادة تماسـكها عسير فهل تريدوننا أن نـقـف متـفـرجين
والبلاد تنحـدر إلى أتـون حـرب أهلية ؟ أم أن تتدخل دول لتسـتـعـمرنا من
جـديد؟ أم تقـسـّم ليبيا ؟ أم سـتغمرها موجــات هـجـرة من الجنوب أو الشرق
أو الـغرب؟ وهـل سـتـبقى ليـبــيا هـشــة في انتظــار تصـدير الأزمات
الداخلية لجيــرانـنــا، ناهيك عن عصــابات التـهـريب.
هذه
كلها " ســيناريـوات" ممكـنــة، فلا تـخـدعـوا أنـفـســكم. لكن ما
يـسـمـعـه الشعب الليبي رغم كل النوايا طيبة واللغـة والبلاغـة ، قـد يـوحي
بأن مصلحة الوطن لم تـعـد أولويـة مـلحـّـة.
أيـهـا الإخــوة والأخـوات:
لست
هنا بصـدد توزيـع اللـوم ومسـئولية كل هـذا التـعـثــر، كما أنني أتحدث من
باب الحرص على ما لدينا ... فمركبنا مـهــدد بالغــرق بمن فيـه هـذا
المؤتـمر الـمتـعـثـر خاصة بعد تعليـــق أغـلب أعضائه لعضويتهم، وهـذه
الحكـومة الحـائرة الواهـنـة التي لم تـحـقـق شـيئا ملموســا ولم تمنح
الليبـيين سـوى تصريحـات غـائمـة، وربما تـخــادع نفـســها بتخيل أن "
الأغلبية الصامتة" مـعـهـا. ومع ذلك أرى أن المؤتمر الوطني قـد يكـون
الخـيط الوحيد الـذي يمسـك بما تبـقى من نسيج وحـدتـنـا الوطـنية.
لست
أريد توجيه الانتقادات بل أريـد فـقـط أن أطـرح عليكم مجموعـة حـلــول، قد
يبدو بعضها مفرطا في التفاؤل، لكنني على قناعـة بأنـها أساسية وبدونـهـا
لن نـخـرج من هـذا النـفـق المظلم:
1. الصراحــة
والمـكـاشــفـة: قــولوا لنا من يعطل إصدار هذا القانون، ومن يصر على
تعيين فـلان إبن جهته أو قبيلته، ومن يشـهر ســلاحـه لفرض قرار. هكذا فقط
نـنـقـذ الناس من دوامـة الإشاعات والأخبار المخـتـلـقــة، ونهيئ تواصلا
صحيا بين الدولة والشعب، وبهـذا فقط يمكن أن تـدعـم " الأغلبية الصامتـة"
الحـكـومة التي ما تـزال انجـازاتـها ملـفـوفــة في سـحب الضباب.
2. المصـالـحــة الوطـنـــية، سواء بمؤتمر أو بيان أو غيره، ومن أولويـاتـهـا:
• الشروع في محاكمة أعوان القذافي، حتى لو لم تصدر ضـدهم أحكام
• إصدار
قانون عـفـو عـام، يطمس حالة الهستيريا الحالية التي تـزرع أعـداء
وهـمـيين عـنـد كل منـعـطـف. وبهذا فقط نطمئن عشرات الآلاف من العاملين
بالدولة لكي يسـتـعيدوا انتماءهم للوطن، ويعـودوا إلى أعمـالـهـم فـعـجلـة
الدولة متـوقـفة لأسباب عـدة لكن أحـدهـا أن 20% من موظـفـيـها فـقـط
يداومون على العمل الرسمي !
• تشكيل هيئة لتأمين عـودة الليبيين المهاجرين والنازحين
3. إعلان حـالـة اسـتـنفار وطني أو طـوارئ ، لـتـحـقـيق التـالي:
• تقسيم البلاد إلى 15 أو عشرين منطقة إداريــة وليكن إسـمـها ولايات أو محافظات.
• تـعـيين
محافظين للولايات ، لهم صلاحيات الوزير وتتبع كل محافظ المؤسسات المسلحة
في منطقته من جيش وشرطة وثوار، يجـسـد هيبة الدولة ويكون مرجـعـية فـعـالة
لحل مشاكل منطـقــتـه.
• تعيين
قـادة للقوات المسلحة والشرطة من بين الرجال الذين اضطهدهم النظام السابق
وقضوا فترات في سجونه، ومن بين الضباط الذين انشقوا مبكرا وحـاربـوا في
صفـوف الثـورة.
• الشروع في بناء جيش وطني ينظم إليها من يرغب من كتائب الثـوار، مع بقاء من يريد مستقلا في معسكراتهم.
• تشكيل هـيـئة تمثل كل تشـكيلات الثـوار، تكون بمثابــة قـنـاة للتـشـاور مع السلطات، ونقل مقترحـاتـهـم إليـها.
أيـهـا الإخــوة والأخـوات:
الأحـقــاد
واﻷنانية والشكوك والتشبث بالمناصب وفسـاد الذمـم.. كلهـا سلوكيات لا بد
أن نعترف بوجـودهـا، لكن التوقف عـنـدهـا لن يجدي، وتمني اخـتـفاءهـا
وهـم. وهي لن تزول بالمناشـدة والمواعـظ، بل باقية ما بقيت هذه المرحلة
الانتـقـاليـة، فهي في النـهـاية محصلة جملة من الظروف كالتسيب الإداري،
والمالي وغياب العـقـاب ..إلخ ولن تزول كل تلك المشـاعر والسلوكيات ما لم
تسـتـعيد الدولة هيبتـها وفـعـاليتـها بترســيخ ســيادة الـقـانـون،
وشـعـور كل مواطـن بالأمـان والعـدل.
المطلوب
الآن، هـو مبـادرات السلطة وفـق الخـطـوط الـعـامـة التي طـرحـنـاهـا ..
فالدولة هي التي تملك الشرعية، وتملك التصرف في ثروة النفط، وتملك حق
التواصل مـع العالم الخارجي.
أما
الشعب فـهـو بيـن مظلومين يشكون، وأغلبية أدارت ظـهـرها للدولة كما فعلت
دائما عـبـر العـقـود السابقة، وقلة مثابرة اقتـصــاديا، ربما دون رؤية
سياسية، لأنـهـا تنـشـد الربـح وتريد أن تعيش،. وهذه اســتـأنـفـت نشاطـهـا
بشكل مسـتقل، ولا تــألو جـهـدًا في المتـاجـرة والبناء حتى ولو بمخالفة
المخـطــطات !
وأخيرا،
لابـد للمرء أن يشــدد ويكـرر بأن وضع البــلاد في خـطـر، ولا يمكن أن
تسـتـمر الأمـور بما هي عليـه الآن من تسـيب وتعـطـل وفســاد وانـفــلات
أمني .. فـهـذه كلـها عنـاصر، مثل البــارود، قـد تنـفـجــر إلى فوضى لا
تـلجــم، ودمــار يصيـبنـا جمـيـعـا .. ولا تـحـمـد عـقــباه.
وفي
الخاتمة، أقـول من حـقـكم أيها الإخوة والأخوات كأي سياسيـين أن تحرصوا
على مواقـعـكم وعلى أمنكم الشخصي، لكن هـذا لا يلغي مسـئوليتكم الأولى ألا
وهي بـقــاء الوطن موحــدًا وآمنا ومـزدهــرًا.
والسـلام عـلـيـكم، وكل عـام وليـبــيا بـخـيــر
د محمـد محمـد المـفــتي،
طبيب وكاتب، وســـجـين سياسي ســابق.