على
الرغم من بروز ليبيا كواحدة من أنجح البلدان التي تخرج من انتفاضات الربيع
العربي على مدى العامين الماضيين ، إلا أن هيمنة ثقافة الفساد واستشراء
المحسوبيات المدعومة قبليا ومناطقيا، بالإضافة إلى استمرار عسكرة الواقع
الليبي وعدم قدرة الحكومات المتعاقبة على إغلاق ملف الميليشيات ، بات يهدد
الربيع الليبي.
ونجح الليبيون في 7 يوليو من العام الماضي في إجراء أول انتخابات وطنية
تشهدها البلاد أطاح بتلك التوقعات ، حيث صوت المواطنون في سلام لاختيار
المؤتمر الوطني العام المؤلف من 200 عضو، وبعد ذلك
بشهر واحد، قام المجلس الانتقالي الوطني- الذي برز بصفته القيادة
السياسية للمعارضة أثناء الأيام الأولى من الثورة – بنقل صلاحياته رسميا
إلى المؤتمر “البرلمان”.
التحول الديمقراطي
وأدى هذا النجاح المرحلي في عملية التحول الديمقراطي إلى تأجيل مشاعر
القلق من الانفلات وتخفيض سقف المخاوف التي تصاعدت خلال الثورة قبل سقوط
نظام القذافى، خاصة بعد اغتيال أحد كبار القادة العسكريين في يوليو 2011،
وهو اللواء عبد الفتاح يونس، على أيدي أفراد مجموعة مسلحة تنتمي للثوار ،
وما نتج عن ذلك من فوضى داخل المعارضة، هددت بعدم قدرة المجلس الانتقالي
الوطني على ترميم الشروخ الناتجة عن صراعات قبلية أو تاريخية.
إلا أن اضطرار الليبيين إلى البدء من نقطة الصفر تقريبا في بناء دولة
فاعلة ، بالإضافة إلى افتقار البلاد إلى التطور المؤسسي وشيوع ثقافة الفساد
الذي نخر عظام المجتمع على مدى أربعة عقود من حكم القذافى ، وعدم قدرة
القيادات المتعاقبة على وضع حلول جذرية لدمج كتائب الثوار التي خاضت مرحلة
النضال لإسقاط القذافى ، بل والبدء في تقنين وجود تنظيمات عسكرية موازية
للجيش والشرطة الوطنيين ، أعاد المخاوف إلى الواجهة مرة أخرى من إمكانية
فشل عملية طويلة وصعبة لإصلاح البلد الذي مزقته الحرب.
ميراث الإهمال
ويدرك المراقب للأوضاع الليبية أن الفساد يقف حجرة عثرة في وجه تطوير
الاقتصاد ، حيث تبدو البلاد الغنية بالموارد الطبيعية غير قادرة حتى الآن
على تجاوز ميراث الإهمال طويل المدى الذي أنتج حالة من الترهل وانهيار
البنية التحتية ، حيث تمكن القذافي نتيجة إدامة حكمه الذي امتد 42 عاما من
إساءة استعمال الثروة ، وإنشاء اقتصاد شديد المركزية بلا تنظيم ، يعتمد
سياسات المحسوبية المدعومة بالنخب التي لا تسعى إلا إلى تعزيز قوتها
ونفوذها على حساب ليبيا وخصما من رصيدها.
ولعل الأمر المثير هنا هو أن معدلات الفساد ارتفعت بصورة أكبر بعد سقوط
نظام القذافي بسبب عدم وجود رقابة ، بالإضافة إلى استمرار فلول النظام
السابق متحكمة في مفاصل المؤسسات الحكومية التي يقومون بسرقتها واستنزافها
من خلال السيطرة على العقود الحكومية المربحة.
ووفقا لدراسة حول الشفافية الدولية ، فإن ليبيا احتلت المرتبة 130 في
الفساد والرشوة والبيروقراطية من مجموع 180 دولة شملتها تلك الدراسة ، حيث
الترتيب الأول لأقل الدول فسادا ورشوة وبيروقراطية ، وعزت الدراسة هذا
التردي في الاقتصاد الليبي لعدم الاستقرار السياسي وعزوف المستثمرين
الأجانب.
وتشير تقارير صحفية إلى أن وجود حالات استغلال لضعف الدولة المصطنع
للقيام بأعمال اقتصادية إجرامية تضر باقتصاد ليبيا ، فيما يسهم عدم تفعيل
أمن وجيش حقيقيين في ليبيا إلى مزيد من استنزاف أموال الشعب على التشكيلات
الأمنية ، واستمرار الانفاق العشوائي على الأمن بمختلف أنواعه على حساب
الاقتصاد الوطني ومستقبل هذا الاقتصاد ومعيشة الليبيين.
وفيما تعاني البلاد من ارتفاع معدلات البطالة والفقر وغياب الخدمات
الأساسية ، يواجه المسئولون في ليبيا الجديدة تحديات تسيير أرصدة البلاد
وعائدات نفطها لإعادة الإعمار ودفع عجلة التنمية، إضافة إلى محاربة الفساد
الذي زادت معدلاته بصورة ملحوظة وسط تبادل الاتهامات بين المسئولين
الليبيين.
أكبر ميزانية
وكان الاتهام الأبرز في هذا الإطار ما أعلنه محمد المقريف رئيس المؤتمر
الوطني العام في ليبيا من أن الحكومة الانتقالية التي ترأسها عبد الرحيم
الكيب وأقرت ميزانية العام 2012 ب 68 مليارا و500 مليون دينار ” حوالى 52
مليار و400 مليون دولار” وتعتبر الميزانية الأكبر في تاريخ ليبيا ، مارست
الكثير من الفساد وصرفت أموالا طائلة دون أي مردود للدولة.
وكشف المقريف أن الأموال الضخمة التي أهدرتها حكومة الكيب فيما يتعلق
بالمرتبات وحدها بلغت 19 مليار دينار ليبي خلال العام 2012 مقارنة بـ 8
مليارات عام 2010 .
وإذا كانت ليبيا كما يرى مراقبون تحاول أن تخطو خطوات واسعة نحو محاربة
الفساد حتى تفلت مما يسمى ” لعنة الموارد ” ، إلا أن طريقة تعامل الحكومة
الجديدة مع المجموعات المسلحة والميليشيات ، يمكن أن تجعل من ليبيا ” دولة
فاشلة ” تمزقها الصراعات القبلية والإقليمية ، وسياسات ” فرق تسد ” التي
أبقت على النظام السابق متحصنا لمدة تزيد على أربعة عقود.
وجاء إعلان رئيس الحكومة الليبية على زيدان عن استحداث جهاز أمني جديد
“مواز للشرطة ” لاستيعاب الثوار المسلحين الرافضين للانضمام للمؤسسة
الشرطية ،ليمثل صدمة شديدة ويلقى بظلال من الشك حول مدى قدرة الإدارة
الليبية الجديدة على إنهاء مرحلة فوضى انتشار السلاح والمسلحين.
وكان ثوار ليبيا قد شكلوا لجانا أمنية ضمت عناصر ممن حاربوا نظام
القذافي، وتولوا مسئولية حفظ الأمن في البلاد إثر سقوط النظام، وقررت وزارة
الداخلية الليبية حل تلك اللجان وضم عناصرها للوزارة إلا أن بعض تلك
اللجان رفض الانضمام، فيما تمكنت عشرات الجماعات المسلحة من الوصول إلى
مراكز السلطة في المدن والبلدات منذ مقتل القذافي في أكتوبر عام 2011 ،
ورفضت كل محاولات نزع سلاحها، معتبرة أنها تحتاجه لحماية أفرادها من
القبائل المتناحرة، ولضمان عدم عودة المتعاطفين مع نظام القذافي إلى بسط
سلطتهم على البلاد.
جهاز موازي للشرطة
وبدلا من إنهاء مظاهر التسلح ودمج عناصر الكتائب والمجموعات المسلحة في
الجيش والشرطة الوطنيين ، فجر رئيس الحكومة الليبية المفاجأة – في مؤتمر
صحفي عقده في مقر حكومته بحضور عدد من الوزراء بالعاصمة طرابلس مساء الخميس
الثالث من يناير الجاري – ، بالقول أن “هذا الجهاز سيكون موازيا للشرطة في
ليبيا وسيكون ذا طبيعة عسكرية وأنه تمت الاستفادة من تجارب دول صديقة
أنشأت أجهزة مشابهة لهذا الجهاز ” في إشارة إلى إيران التي شكلت بعد الثورة
الإسلامية تنظيمات عسكرية مثل ” الباسيج والحرس الثوري “.
ويمكن اعتبار إعلان رئيس الحكومة الليبية استحداث الجهاز الأمني الموازى
للشرطة لاستيعاب أفراد ما يعرف باللجنة الأمنية العليا المؤقتة الرافضين
الانضمام للمؤسسة الشرطية ، على أنه اعتراف بهيمنة الجناح العسكري للكتائب
على أمن البلاد ، وهو ما يعنى أيضا نهاية الدولة الليبية وانتصار مليشيات
مكونة من اتجاه إيديولوجي واحد يحاول فرض نظرته الضيقة على الجميع بقوة
السلاح.
كما أن إعلان وزير الداخلية الليبية عاشور شوايل عن استيعاب أكثر من 5
آلاف من الثوار الليبيين في جهاز الشرطة ، بالإضافة إلى إعلان يوسف المنقوش
رئيس الأركان العامة إن الجيش استوعب قرابة 13 ألفا من الثوار بشكل فردي ،
يثير الكثير من الشكوك حول انتماءات تلك العناصر التي يجرى الإعداد لتأسيس
جهاز عسكري يستوعبها يكون موازيا للأجهزة الأمنية الرسمية المتمثلة فى
الجيش والشرطة.
فيما يطرح الإعلان عن أن الجيش “بصدد استيعاب فصائل أخرى من الثوار بشكل
جماعي ضمن وحدات أطلق عليها مسمى ( درع ليبيا )” ، الكثير من التساؤلات
حول المشهد الأمني والعسكري الليبي خلال المرحلة المقبلة ، وماهية العناصر
التي يتكون منها ومدى تأثير انتماءاتها الأيديولوجية على حدود السلطات
الموكلة إليها وحدود سيطرة الدولة الرسمية عليها.
ويمكن تقسيم هذه المجموعات وفق أجندتها، إلى كتائب تساند الحكومة
وتدعمها من خلال توفير الأمن والحماية ، بينما ارتبطت مجموعات أخرى بمنظمات
إجرامية أو إرهابية ، وتورطت في الإتجار بالبشر وتهريب المخدرات والاختطاف
مقابل فدية.
قادة متطرفون
ويرأس بعض هذه الكتائب قادة متطرفون، أشارت إليهم أصابع الإتهام بالوقوف
وراء هجمات سبتمبر الماضى على قنصلية الولايات المتحدة الأمريكية في
بنغازي وقتل السفير كريستوفر ستيفنز وثلاثة آخرين ، من بينها جماعات ترفض
الاعتراف ، بالعملية الانتخابيةـ لان الانتخابات والديمقراطية حرام ،
وبالتالي فهي لا تعترف بشرعية المؤتمر الوطني ، الذي جاء عن طريق الانتخاب
وهم لا يعترفون أصلا بالنشيد الوطني ولا حتى بعلم الاستقلال أو الوطن.
ويرى مراقبون أن هذه المجموعات المتطرفة التي عرقلت قيام جيش وشرطة
وطنيين قويين ، سوف تبدأ بعد أن حصلت على هذا المكسب الكبير، في شق طريقها
نحو واجهة المشهد الأمنى مدعومة بمليشيات جاهزة ومقننة.
ومع تعاظم الفساد ونفوذ الميليشيات المسلحة التى تم تقنين وجودها كنظام
مواز للقوات الرسمية ” جيش وشرطة “، فإن المهام التي تنتظر قادة ربيع ليبيا
شاقة وعديدة ومنها توفير الأمن والنظام ، والموازنة بين السلطة المركزية
والإقليمية وتوسيع سيادة القانون وتعزيزها، وتوفير العدالة الانتقالية
وتعزيز حقوق الإنسان ، بالإضافة إلى ترسيخ الهوية الوطنية بعيدا عن
الانتماءات القبلية والمناطقية.
وإذا كانت بعض الأحداث ، مثل الهجمات الأخيرة التي نفذتها جماعات
إسلامية على أضرحة صوفية، قد طرحت علامات استفهام حول مدى قدرة الاختلافات
الدينية العميقة في ليبيا على عرقلة إنشاء مجتمع سياسي متناغم ، إلا أن مدى
استجابة المجموعات المسلحة للخطط المعلنة من أجل تفعيل مؤسسات الدولة تبقى
المحك الرئيسي لقياس قدرة الربيع الليبي على تجاوز عقبة التنظيمات
العسكرية الموازية التي تهدد بتحويله إلى خريف شديد الوطأة لا ينتج إلا
المزيد من أعاصير العنف المنفلتة.
المنارة