هنا صوتك - محمد الأصفر يكتب: مسرحية الصابية.. تصوير مؤلم لواقع ليبي أشد ألماً: رغم الأوضاع الأمنية الأكثر من سيئة، وقفل العديد من المسارح لأبوابها، خاصة الواقعة في مدن تشهد اشتباكات دامية، إلا أن المسرح الليبي لم يخذل شعبه أو يتخلى عنه.
وكعادته واصل تأدية دوره في التعبير عن الإنسان الليبي وأزماته ومشاكله وحتى جنونه الراهن. ففي مدينة أجدابيا ، التي على مرمى حجر من جبهة المواجهات الجديدة القريبة من الهلال النفطي، تنادى فنانون ليبيون، للعب ورقة المسرح المؤثرة وسط زوبعة الدم الحالية، فلعلها تساهم في وقفها أو الحد منها، ولتذكرهم أن مواجهاتهم عبثية دون كيخوتية ستدمر وطنهم، وتقسمه إلى لقيمات يسهل بلعها من وحوش الانتظار، وذلك من خلال فرقة اجدابيا للمسرح عبر تقديم مسرحية "الصابـية" على خشبة مسرح التضامن المصان حديثا بعد إهمال سنوات وسنوات.
"الصابية" هي شكل فني ينتمي للغناء التراثي الليبي، فهي وقوف مجموعة من الرجال متشابكي الأرجل جنب بعض والتصفيق والتغني بشتاوة (بيت شعر شعبي مقفى)، وينقسمون إلى صفين متقابلين فور دخول الحجّالة، ليقوم كل صف باستمالتها إليه بإطلاق شتاوة معبرة ترقص على إيقاعها الحجالة، وهي عادة امرأة مكتنزة ترتدي الزي المحلي، وتضع على وجهها خماراً، وغالبا ما تكون من نفس أبناء العائلة أو القبيلة صاحبة العرس. وتتكون "الصابية" من فريقين، كل فريق يطلق غناوة لجلب الحجالة إليه، ويكون الحماس في أوج ذروته، حتى أن الصفين لا تتعب أيديهم من التصفيق، ويكون هناك مشرف على الصابية يسمى (الملاعبي) مثل المايسترو في الفرقة الموسيقية، يحمس الحجالة ويشاكسها ويرفع من ذروة التصفيق لدى الفريقين كي تستمر البهجة، أو فلنقل الصراع مثلما يحدث الآن من صراعات حول النفط أو حول القواعد العسكرية أو المطارات أو حتى حول كسرة خبز أو منصب أو أسطوانة غاز أو جالون بنزين، حيث لا أحد يتنازل للآخر قيد أنملة أو يرضى بأن يكون هناك دور أو تداول على هذه السلطة اللعينة ما لم يكن هو الأول الذي يستلم كرّته. ولعل الصابية محاولة إلى تغيير دفة الصراع من الشكل الدموي إلى الشكل الفني الذي ينبغي أن يتم في أجواء فرح وسعادة وتنافس شريف، تقرر فيه الحجالة من هو الفائز بالذهاب إلى الرقص أمام صفه وإبهاجه. والصابـية الآن هي ليبيا الفنية، التي أظهرها الفنانون ولوحوا بمشعلها أمام ظلام ليبيا الدموية.
المسرحية كوميديا سوداء تصور الواقع المعاش. تنطلق فكرتها من صراع بين البدو والحضر، ويبدأ استهلال المسرحية من وسط المتفرجين، مجموعة البدو في صابية الكشك ومجموعة الحضر منتظمين في الغيطة (شكل فني يمارسه أهل المدن)، ويصعدون الى الركح حيث هنية أم الشهيد التي تسكن الكوخ والتي تجلس أمامه تغنى على الرحى: شعير في خشوم المزن... ترجاه نين تطحنه (معناها مطر الخير سينبت الشعير وستنتظره هنية حتى يحصدونه كي تطحنه وتخبزه لأبناء الوطن).
هنية ليس لها إلا ابن وحيد واستشهد في المعارك من أجل الحرية. ويتضح من خلال أحداث المسرحية العداوة ما بين الحضر والبدو، والكل يعلم أن تحت كوخ أم الشهيد هنية التي يقصد بها ليبيا نفط بترول، ويستمر التقرب من هنية. الكل يريد كسب ودها والاهتمام بها لأنها أم الشهيد الذي حرر البلاد أي أم الثورة. يأتي إليها الحضر في هيئة وفد من الأتراك لتكريم أم الشهيد ومحاوله إقناعها بإعطاء صوتها للمنتخب من الحضر. ثم يأتي إليها البدو في هيئة فرقة كشافة لتقديم الهدايا وتقديم رقصة احتفاء بها. يعود مرة أخرى الحضر على أساس أنهم فرقة مالوف وموشحات (شكل غنائي أصله من الأندلس يتغنون به في المدن) يتغنون بموشحاتهم ويطلبوا منها- ومن خلال الأغنية- إعطاء صوتها للمنتخب من الحضر. يأتي بعدهم البدو كوفد من التاريخ العربي القديم يتكون من: الأعشى، عنترة، الزير سالم وأبوزيد الهلالي، لزيارتها والسؤال لمن ستعطى صوتها ويفضل أن تعطيه للبدو. ويستمر الصراع حتى تأتي المناظرة بينهما وكل منهما يقدم برنامجه الانتخابي والمشاريع التي سيقومون بتنفيذها. يتم الانتخاب وتتعادل نتيجة الانتخابات فيلجؤون لهنية أم الشهيد، ثم يتحول هذا الصراع إلى حرب إعلامية حيث تنتشر شاشات القنوات والمراسلين وكل منهم يفند ما يقوله الآخر والكل يرغم هنية على متابعة قنواته، لتتحول المعركة إلى المواجهة بالسلاح والاستعداد للحرب ومنع التجول وتتم المواجهة فتقتل هنية برصاصة الحرب الطائشة.
الجدير بالذكر أن مسرحية الصابية كتبها وأخرجها المخضرم فتحي القابسي، وقام ببطولتها الفنانان الكبيران عبدالباسط الجارد ونعيمة بوزيد، صحبة فنانين موهوبين هم: خالد أبريك، وإبراهيم منصور، عبدالهادي بوخريم، احميده حميد، جمال الرقعي، صالح خرفاش، وعادل بوشهبة، نجم فرج، مراجع الفرجاني وحماد الصيد.
* ينشر في إطار الشراكة مع "هنا صوتك".