العرب اللندنية: الفيديو الأخير الذي نشره تنظيم ما يسمى بالدولة الإسلامية والذي يتوجه باللغة العبرية لتهديد إسرائيل متوعدا باستهدافها بالتفجيرات والعمليات النوعية يدل، حسب مراقبين، على انقلاب في نظرة التنظيم الإرهابي إلى أولويات أهدافه التي رتبها حسب معيار الأكثر قربا فالأقرب فأتباع الأديان الأخرى، ويؤشر هذا التغيير على انحسار فعلي لمقاتلي داعش أدى به إلى الحديث لأول مرة عن إسرائيل.
يبدو أن زعيم تنظيم "داعش"، أبا بكر البغدادي، بدأ يستشعر قوة الكماشة التي أخذت تشد على أنفاس "الدولة الإسلامية"، بعد توالي الضربات العسكرية للقوات الروسية والتحالف الدولي، فوجد مخرجا سياسيا بتوجيه تهديدات غير مسبوقة إلى إسرائيل، من خلال شريط الفيديو الذي يظهر فيه أحد أتباعه وهو يهدد الدولة العبرية بلغتها، متوعدا إياها بالويل والثبور وعظائم الأمور.
لكن هذا المخرج السياسي الذي أراده التنظيم للخروج من مأزقه، سوف يضعه في مأزق آخر، وهو الخروج على النص؛ ذلك أن التنظيم أسس رؤيته منذ البداية على مقاتلة المشاركين له في الملة، أي المسلمين الذين يتهمهم بالردة والكفر، سواء منهم السنة أو الشيعة، الأقرب فالأقرب، ووفقا لتسلسل معين يحكمه تصور فقهي محدد.
محاولة الالتفاف هذه على الوضع، وتهريب القضية من قضية إرهاب باسم الإسلام إلى قضية تتصل بالدفاع عن الدين أو مناصرة المسلمين، جربها التنظيم قبل نحو عام من هذا التاريخ، عندما بدأ الحديث عن ضرورة تشكيل حلف دولي لمحاربته وإخراجه من العراق. فقد أعلن التنظيم أن الهدف الرئيس من الحلف الدولي هو خوض حرب صليبية ضد الإسلام، داعيا جميع المسلمين والحركات الجهادية المنتشرة في مناطق أخرى إلى نصرته دفاعا عن "بيضة الإسلام" و"حياض الدولة الإسلامية". وللأسف الشديد انطلت اللعبة حتى على الكثير من أهل الدعوة، ومنهم سلفيون مناوئون لخط التنظيم الشرعي، وجهاديون سابقون خاضوا مناكفة ضد البغدادي وأصحابه، أمثال أبي محمد المقدسي.
هذا التحول، إن صح أن التنظيم يسعى فعلا إلى توجيه ضربات ضد الدولة العبرية أو"غزوها"، يعكس بداية انحلال القبضة العسكرية لدى"الدولة الإسلامية في العراق والشام"، بعدما بات يدرك بأن مصيره أمسى معلقا على تفاهمات دولية تخوضها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا مع البلدان المعنية في المنطقة، وأن رأسه أصبح مطلوبا أكثر من أي وقت مضى، لكن المسألة تظل مسألة وقت فحسب، بانتظار توصل الأطراف المعنية إلى اتفاق سياسي.
هذا الموقف الذي اتخذه التنظيم يؤكد القاعدة ولا يشذ عنها، ففي فن الحرب ـ كما نظر لها سون تزو ـ تنص القاعدة على أن الأنظمة أو المنظمات التي تكون على وشك خسران الحرب تحول الاتجاه إلى معارك جانبية، أو تحاول تصدير الحرب إلى ساحات أخرى، من أجل خلط الأوراق وإرباك الخصم. وهي قاعدة جربت في العديد من المحطات من دون كثير نجاح، وجربها الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في حرب تحرير الكويت عام 1991، عندما شرع في إطلاق صواريخ على تل أبيب، منحها أسماء سنية وشيعية لجمع شتات ما تفرق من شعبه حواليه.
لا نعرف من يخاطب تنظيم "داعش" بهذه الدعوة، ومن هي الجهات التي يعول عليها في التأليب على الدولة العبرية، خصوصا في هذه المرحلة التي تجمعت فيها كل العداوة ضده بسبب ممارساته الوحشية والصورة التي نجح في تشكيلها عن الإسلام لدى المسلمين أنفسهم قبل غيرهم. ولكننا ندرك أن هذا التحول ينعكس تحولا في البنية الفكرية والعقدية للتنظيم ذاتها. فالمعروف أن تنظيم "داعش" يرتكز على رؤية عقدية وفقهية تعطي الأولوية في القتال أو"الجهاد" للمرتد على حساب اليهود والنصارى، أو المسلم المرتد على حساب الكافر الأصلي، كما هو مسطر في أدبيات ابن تيمية، الذي يؤكد في "مجموع الفتاوى" على هذه النقطة، مستدلا عليها بأن الخليفة الأول أبا بكر الصديق قاتل المرتدين من المسلمين قبل أن يقاتل الكفار.
وهذا ـ بالمناسبة ـ استدلال في غير محله، أولا لأن أبا بكر لم يقاتل أولئك المرتدين لردتهم عن الدين، بل لامتناعهم عن إعطاء الزكاة لبيت مال المسلمين كما كانوا يفعلون في عهد الرسول عليه السلام، بدليل أن القولة الشهيرة المنسوبة إليه فيها "والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه"، والشاهد في ذلك قوله "يؤدونه"، ما يفيد الامتناع عن أداء واجبات معينة تجاه الحاكم، وليس الارتداد عن الدين، وثانيا لأن قتال هؤلاء جاء ترتيبا تاريخيا لا اعتقاديا، بمعنى أن الأمر حصل مباشرة بعد وفاة النبي عليه السلام، فكان يتعين التعامل معه، ولم يكن أمرا اختياريا من لدن الخليفة حول من يقاتل بداية.
لقد خرج البغدادي من معطف أبي مصعب الزرقاوي، مؤسس تنظيم "التوحيد والجهاد" في العراق. وقد كان الزرقاوي يبني منظوره للقتال على نفس القاعدة، فمنح الأولوية لقتال العراقيين على حساب قتال الاحتلال الأميركي؛ وهذا استنادا إلى ما تبلور في الفكر الجهادي من ضرورة مقاتلة "العدو القريب" قبل "العدو البعيد"؛ ومفهوم القرب هنا ـ على عكس ما يفهم البعض ـ يعني الاشتراك في الملة والدين لا المجاورة الإقليمية. وكان أبو محمد المقدسي، الجهادي الأردني، أول من صاغ هذه القاعدة "الذهبية" عند الجماعات الجهادية، في كتابه ذائع الصيت "ملة إبراهيم".
بناء على ذلك، يكون التهديد الذي وجهه تنظيم "داعش" إلى الدولة العبرية، في ما لو صح شريط الفيديو المنسوب إليه، انقلابا نظريا كبيرا في التصور المفاهيمي لدى التيار السلفي الجهادي، ولسوف يكون من باب أولى التساؤل عما إن كان التنظيم قد بدأ في تصحيح أخطاء ابن تيمية، أو في تصويبها؛ وما نعتقده هو أن التيار السلفي الجهادي ينزه نفسه عن أن يخوض في فكر ابن تيمية بالإساءة إليه.