خسرت إسرائيل كثيراً فى الحرب، هكذا اعترف ساستها وكُتابها، فكانت تسارع إلى الهدنة قبل «حماس»، وتتعجل وقف إطلاق النار وتبذل كل ما فى وسعها لإيقاف حرب الاستنزاف، ولهذا خضعت واستسلمت واضطرت فى النهاية لقبول ما رفضته سابقاً، وربما ستُضطر الأيام المقبلة إلى تقديم المزيد من التنازلات، حتى لا تعود إلى الحرب مرة أخرى.
بعد عقد الهدنة بين إسرائيل والفلسطينيين بالمباركة المصرية، أبدت إسرائيل موافقتها على بنود كانت قد رفضتها سابقاً، ما اعتبرته حركة حماس نجاحاً كبيراً، وخرج على أثر ذلك أهل غزة للاحتفال، بفتح المزيد من معابرها الحدودية مع غزة للسماح بتدفق البضائع، بما فى ذلك المعونات الإنسانية ومعدات إعادة الإعمار إلى القطاع، على أن تتولى حكومة الوفاق الفلسطينية قيادة تنسيق جهود إعادة الإعمار فى غزة مع المانحين الدوليين، كما ينتظر من إسرائيل تضييق المنطقة الأمنية العازلة داخل حدود قطاع غزة من 300 متر إلى 100 متر إذا صمدت الهدنة، وتسمح هذه الخطوة للفلسطينيين بالوصول إلى مزيد من الأراضى الزراعية قرب الحدود، كما وافقت إسرائيل على توسيع نطاق الصيد البحرى قبالة ساحل غزة إلى 6 أميال بدلاً من 3 أميال، مع احتمال توسيعه تدريجياً إذا صمدت الهدنة.
وفى المقابل، ما زالت هناك مطالب للفلسطينيين لم توافق بعد إسرائيل عليها، تتعلق بإنشاء ميناء برى، وآخر بحرى فى غزة، وإعادة بناء مطار ياسر عرفات الذى قصفته إسرائيل عام 2000، والسماح بتحويل الأموال الفلسطينية إلى غزة.
بعد الهدنة، ناقش سياسيون وكُتاب إسرائيليون باقى مطالب الفلسطينيين، ومدى إمكانية قبولها من الجانب الإسرائيلى، وأى منها لا بد من رفضه، باعتباره يشكل خطراً على أمن إسرائيل، وكان التساؤل الرئيسى الذى اهتموا به جميعاً هو: إلى أى مدى يمكن أن تتنازل إسرائيل؟
قالت رئيسة حزب «ميرتس» الإسرائيلى عضو الكنيست «زهافا جلئون»: «على الحكومة الإسرائيلية الموافقة على مبادرة الرئيس الفلسطينى محمود عباس، ووقف سياسة الفصل بين غزة والضفة، كما علينا التوصل سياسياً إلى حل للأزمة وليس مجرد الهدنة المؤقتة، حتى لو كلفنا الأمر تقديم تنازلات». وأضافت: «يجب علينا إدراك قيود القوة وحدودها»، وأشارت إلى أن «نتنياهو» جعل حركة حماس والمقاومة الفلسطينية تيقن جيداً بأنهم يستطيعون إنجاز أهدافهم وتحقيقها عن طريق القوة.
أما الكاتب السياسى «ناحوم برنياع» فكتب فى صحيفة «يديعوت أحرونوت» مقالاً يحث فيه على إعادة إعمار غزة، وقال: «إسحاق رابين صرح ذات مرة بأنه يريد أن يُغرق غزة فى البحر، وكانت هذه الجملة مُثلاً لرابين أصيلة أكثر من كونها حكيمة، وكانت من البطن أكثر من أن تكون من الرأس، إن غزة ستكون هنا دائماً شئنا أم لم نشأ، وإذا لم نجد طريقة للعيش معها، ولم نجد طريقة لتعميرها وتطويرها فستعود وتُذكرنا بوجودها بصورة قاسية ومن لم يستطِع أن يحتمل غزة بسبب الرائحة فسيلقاها بطريق الدم».
وفى جريدة «هآرتس» نُشر مقال كتب بواسطة أسرة التحرير يحثون فيه «نتنياهو» على الإفراج عن الأسرى، فى خطوة جريئة من الجريدة، خاصة أن مشكلة الأسرى لم تبدِ إسرائيل حتى الآن موقفها بشأنها، فكتب فى المقال: «نتنياهو ملزم فى أقرب وقت ممكن بإعادة بدء المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، بما فى ذلك مع حكومة المصالحة، واتخاذ سلسلة من خطوات بناء الثقة، بما فيها تحرير السجناء الذين تعهدت إسرائيل بالإفراج عنهم وتجميد المستوطنات».
وكتب المحلل السياسى «يوآف ليمور» مقالاً فى جريدة «إسرائيل اليوم» يحث فيه الحكومة على تقديم تنازلات لأمريكا فقال: «برغم عيوب الاتصال بواشنطن من الضرورى إجراء حوار هادئ مع البيت الأبيض، إن مصالح إسرائيل برغم كل الاحترام للأوروبيين موجود أكثرها فى واشنطن؛ فمن هناك تأتى المساعدة والدعم و(القبة الحديدية) الدولية، فعلى إسرائيل أن تتحقق من أنها لا تُدفع إلى حقل ألغام خطير مع الإدارة الأمريكية، فعلاقة إسرائيل القوية بالولايات المتحدة ستعزز موقفها حالياً فى المفاوضات بينها وبين حماس». أما فى «يديعوت أحرونوت» فورد مقال لأسرة التحرير يحث على تقوية العلاقات مع مصر، لأنها الوحيدة القادرة على إنهاء الخلاف بتنازلات أقل لإسرائيل، وجاء فيه: «يؤكد الجيش الإسرائيلى أهمية العلاقات بمصر، ففى كل حل ممكن ستؤدى مصر دوراً مركزياً، ويجب على إسرائيل أن تقوى العلاقات بها، وأن تعتمد عليها وأن تحسب حساباً لمشكلاتها، إن للتعاون مع مصر أثماناً خاصة، وإذا أحرز المصريون آخر الأمر تسوية مع حماس فسيكون أبومازن هو التالى، ويتوقع المصريون أن يهب نتنياهو لأبومازن اتفاقاً يكون قائماً على حدود 1967، ويبدو أن هذا لن يحدث حسب الكلمات التى قالها نتنياهو فى مؤتمره الصحفى، وهى أفق سياسى جديد، فالأفق أفق كلما اقتربنا منه ابتعد، وليس لنتنياهو حزب يوافق على أفق جديد، وليس له ائتلاف حكومى».
كما نشرت جريدة «يديعوت أحرونوت» مقالاً للكاتب الإسرائيلى إليكس فيشمان، أكد فيه أن كل الخيارات خاسرة أمام إسرائيل، وليس فى استطاعتها سوى تقديم المزيد من التنازلات، وقال: «فى جهاز الأمن قليلون ممن يعتقدون أنه ما زال يمكن التوصل إلى إنهاء الحدث بتسوية تخدم المصلحة الإسرائيلية، وحماس قبلت بالمبادرة وببنودها فقط لأن بنود الهدنة ليست فيها عناصر إذلال لهم، ولا تظهر فيها إسرائيل كمنتصرة، ولهذا قبلت حماس».
أما الكاتب الإسرائيلى آرى شبيط فكتب مقالاً فى جريدة «هآرتس» يعرض فيه قائمة جديدة للتنازلات على إسرائيل أن تقدمها كى تأمن شر «حماس» قال فيها: «الرؤيا واضحة الآن فنحن نحتاج إلى خطة مارشل مقابل نزع السلاح، ويمكن أن يُعطى الفلسطينيون ميناء الآن، ويجب أن نبنى معهم محطات توليد طاقة ومصانع تحلية مياه البحر، وأن نهب لهم أفقاً اقتصادياً فى شمال سيناء، ولكن يجب أن نحصل من الفلسطينيين على نزع سلاح رسمى، وينبغى أن نضمن فى واقع الأمر عدم زيادة قوتهم، علينا أن نمنع حفر أنفاق تجتاز السياج الحدودى، وعلينا فى الوقت نفسه أيضاً أن نرى البشر الذين يعيشون وراء السياج الحدودى، وإذا لم يوجد أمل لجيراننا فسيبقى ماضيهم وحاضرهم أيضاً يطاردان مستقبلنا».
من ناحية أخرى، كتبت الصحفية «يفعات يرليخ» المتخصصة فى الشئون العربية فى جريدة «معاريف»، أن «أوباما لم يدعُ أسامة بن لادن لشرب القهوة؛ حتى يحل الصراع بين الولايات المتحدة وتنظيم القاعدة، وبوتين لم يلتقِ برسلان غيلاييف فى أحد الفنادق الفارهة لكى يصنع السلام بين روسيا والمتمردين الشيشان، كما أن فرانسوا أولاند لم يخلق علاقة صداقة مع إياد غالى، زعيم منظمة الإرهاب الإسلامية، حين أرسل جيش فرنسا لتحرير شمال مالى. فقط إسرائيل هى التى خضعت واستسلمت ورفعت الراية البيضاء بقبولها وقف إطلاق النار فى غزة وللشروط التى أملتها عليها حماس الإرهابية.. نتنياهو هو المسئول الأول عن الخذلان الذى تعيشه إسرائيل».
، وهو الرأى نفسه الذى يتبناه المعارضون الإسرائيليون للمبادرة وللهدنة التى عقدت منذ أيام بين إسرائيل والفلسطينيين، والذين شنوا هجوماً عنيفاً على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بسبب موافقته على المبادرة وقبول مطالب حماس، واتهمه بعضهم بالإذعان لمطالب الإرهابيين وبأنه تم جَرّه واستقطابه ووزير دفاعه إلى هذا الفخ، وشملت قائمة المعارضين وزراء وسياسيين وكتاباً وقادة فى الجيش..
أما العميد «تسفيكا فوغل» فكتب مقالاً فى جريدة «إسرائيل اليوم» تحت عنوان «الهدنة اعتراف بفشل العملية العسكرية» قال فيه: «إن الاتفاق الذى دخل حيز التنفيذ جزء من ذلك المسار الخاطئ لصانع القرار، وأدى إلى نتيجة وحيدة هى أن حماس لا يمكن أن تُهزَم، ولم يدرك رئيس الوزراء أهمية مساندة أبومازن لتحمل المسئولية فى غزة ودعم قوة القبة الحديدية القادرة على الانتصار على حماس لأن الدفاع والتحصين والفضاء الآمن هى العناصر الحاسمة، للانتصار على هذه الحركة».. وكتب يوئيل ماركوس مقالاً بجريدة «هآرتس» ندد فيه بفكرة التفاوض مع حماس قائلاً: «هم يطلقون النار علينا ونحن نتحاور معهم؟! وهناك من يقترح منحهم الامتيازات التى يطلبونها: ميناء ومطار كى يكون لهم أفق يتطلعون إليه، لماذا لا نقذف بحماس فى الجحيم؟». كما اعتبر وزير شئون الاستخبارات الإسرائيلى، يوفال شطاينيتس، أن نزع سلاح المقاومة الفلسطينية فى قطاع غزة هو الشرط الوحيد لاستئناف العملية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين. وقال «شطاينيتس»، خلال مؤتمر القانون المنعقد فى مدينة عسقلان، قبل الهدنة بيوم واحد: «إن رئيس الوزراء الإسرائيلى كان يجب أن يشترط نزع سلاح حماس قبل استئناف العملية السياسية. ومن دون نزع السلاح لن تفكر أى حكومة عاقلة فى تقديم تنازلات إلى الآخرين». وأضاف «شطاينيتس»: «سنضطر إلى إيجاد حل سياسى يؤدى إلى الاتفاق على نوع السلاح فى قطاع غزة، أو سنضطر إلى تجريد القطاع من السلاح بواسطة حسم عسكرى. ولا يوجد حل وسط، وعلينا أن نصر على ذلك، لأن هذه هى الطريقة الوحيدة لضمان الهدوء لسكان إسرائيل عموماً وسكان الجنوب خصوصاً لأن إسرائيل لا يمكنها القبول بوجود جيش من الإرهابيين مسلح بالصواريخ فى قلب النقب الغربى لفترة طويلة، وهذا يتناقض مع مفهومنا الأمنى الذى صاغه بن غوريون، بأنه لن تكون هناك قوة عسكرية معادية ومهمة بين النهر والبحر».