العربي الجديد: على صوت الرصاص، استيقظ سكان منطقة مسجد بلال بن رباح بمدينة البيضاء، شرقي ليبيا، هرعوا خارج منازلهم فجراً، وجدوا القوات الأمنية قد حضرت لطرد أسرة ليبية استولت على مبنى داخل حرم المسجد وضمن أوقافه منذ شهور، ما أدى إلى تبادل لإطلاق النيران بين الأسرة الغاصبة وقوات الأمن التي نجحت بعد ساعات في طردها من الحي، فيما تظل أحياء سكنية أخرى بأكملها (بُنيت على أرض الأوقاف الليبية) في مدن شرق ليبيا، مسكونة لم يتم إخلاؤها لتصبح عملية الاستيلاء على أراضي الوقف الليبي واقعاً.
نهب عام
منذ فترة الحكم العثماني، عرفت المدن الليبية بكثرة أوقافها التي يحترمها الليبيون، باعتبارها حرماً مقدساً لا يجوز المساس به، أو العبث بمحتوياته أو قطع أشجاره، "إذ يُعرّض المعتدي نفسه وعائلته وقبيلته للعار والفضيحة بين الناس والنبذ المجتمعي"، كما يقول علي حسين، رئيس المجلس البلدي في مدينة البيضاء، والذي حذر قبل أيام في اجتماع للمجلس البلدي من تزايد الانتهاكات في أراضي الوقف، داعياً مكتب الأوقاف ومجلس الحكماء لحصر أراضي الوقف وإيقاف الاعتداء واستثمار الأراضي في مشاريع تفتقر إليها المدينة بإشراف مكتب الأوقاف.
في هيئة الأوقاف والشؤون الإسلامية في منطقة الجبل الأخضر، شرقي ليبيا، يقع مكتب الأوقاف، يجلس رئيس الهيئة الشيخ عادل امراجع، في حزن شديد لما أصاب أراضي الأوقاف في الشرق الليبي، يؤكد امراجع أن الهيئة عقدت خلال الفترة الأخيرة اجتماعات بمشاركة البلديات والحكماء ووجهاء القبائل والجهات الأمنية بهدف إيجاد حل للقضية، خلصت الاجتماعات إلى تكليف لجنة هندسية بحصر أراضي الوقف وإنجاز الرفع المساحي، إذ لا يوجد حصر حالي لها ولا يُعرف حجمها وحجم ما فُقد من أراضٍ ومزارع ومساكن وعقارات.
يكشف امراجع، لـ"العربي الجديد"، عن تقديرات مبدئية تشير إلى نهب ثلاثة أرباع المساحة الكلية للوقف، أبرزها أراضٍ ومزارع بمنطقتي الوسيطة والغريقة وغيرها. يضيف: "أعطينا مجالاً لجهود الحكماء ووجهاء القبائل على أمل أن تحقق نتائج دون اللجوء لحلول أخرى يصعب اتخاذها في هذه المرحلة كالحل الأمني، لكن المقلق فعلاً أن كثيراً من البؤر السكنية التي قامت على أرض الوقف باتت أمراً واقعاً يصعب إزالته، فقط نحاول استعادة المتبقي".
أبرز التعديات
وثّق كاتب التحقيق أبرز الأوقاف التي شهدت تعديات كبيرة شرقي ليبيا، على رأسها الأراضي التابعة للزاوية السنوسية القديمة بالجبل الأخضر، والعقارات الواقعة في سط مدينة درنة وأراضٍ موقوفة على مساجد ومقابر في البيضاء وترهونة ودرنة وبنغازي وغيرها، إضافة إلى أراضٍ ومزارع وعقارات في أقاليم ليبيا جميعها تم نهب أغلبها لصالح أفراد وعائلات ليس بقصد السكنى فحسب، بل لأجل تحويلها إلى مخططات سكنية ثم بيعها بمبالغ طائلة. ورصدت "العربي الجديد" أحياء سكنية وأسواق تجارية ومزارع ومراكز تعليمية خاصة وعمارات في مدن ليبية مختلفة تم بناؤها على أراض تعود لأوقاف مساجد بل وحتى أراضي وقف لمقابر تم البناء في هوامشها التي لم تستغل في الدفن بعد. الدولة الليبية كذلك استغلت أراضي الوقف في بناء منشآت تابعة لها، منها معسكرات وجامعات، مثل المقر القديم لجامعة عمر المختار بالبيضاء ومطارات مثل مطار الأبرق الدولي في شرق ليبيا، الذي قال الشيخ امراجع إنه أيضاً مقام على أرض وقف.
السنوسية أكبر الضحايا
في 17 يوليو/ تموز 2012، أصدرت وزارة الأوقاف الليبية الفتوى رقم 401، ترفض اغتصاب مجموعة من الناس قطعة أرض تابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ودعت إلى ردها إلى وزارة الأوقاف، لأنها الجهة المخولة برعاية الأوقاف؛ وهو ما تكرر في الفتوى رقم 546 بعدها بثلاثة أشهر، ما يشير إلى تفاقم الظاهرة. الحركة السنوسية، والتي حكم زعيمها الملك إدريس السنوسي ليبيا بعد الاستقلال، كانت قد أوقفت أراضٍ واسعة على مساجد وزوايا وأعمال خيرية مختلفة، لكنها اليوم فقدت أغلبها، كما يؤكد الشيخ حميدة العلمي الغماري، شيخ الحركة السنوسية بالجبل الأخضر وحفيد أحد مؤسسيها، لـ"العربي الجديد".
يتهم الغماري نظام القذافي بالعمل على تخريب الوقف خلال فترة حكمه الطويلة، قائلاً: "البغدادي المحمودي رئيس اللجنة الشعبية العامة (رئيس الوزراء)، قال في إحدى جلسات اللجنة، لدى سؤاله عن مباني الوقف السنوسية ومباني الزوايا السنوسية هل تتم إزالتها إذا وقعت ضمن المخططات العمرانية الجديدة، فقال: لتذهب مع الشيباني (يقصد بالشيباني الملك إدريس)". عبّر الشيخ الغماري عن شعوره بالأسى والحزن تجاه ما تعرضت له أراضي وممتلكات أوقاف الزوايا السنوسية عقب ثورة 17 فبراير، وما صاحبها من انفلات أمني وتعديات واسعة من قبل مخربين ضموا الأوقاف إلى ممتلكاتهم بالقوة وقاموا ببيعها جهاراً دون رادع من أخلاق أو قانون، وهو ما أفقد الزوايا أحد أهم معالمها وأضعف مكانتها وأضاع جزءاً كبيراً من تراث وآثار الحركة السنوسية.
سوق "الهلت"
يطلق الليبيون على أراضي الأوقاف التي تم الاستيلاء عليها "الهلت". صالح فرج، رجل أعمال ليبي متخصص في بناء وتسويق العقارات، يقول لـ"العربي الجديد": "كنت أرغب في بناء عمارة سكنية، فقررت شراء قطعة أرض، عُرضت عليّ أراض في عدة مناطق، لكني رفضت شرائها رغم أن أسعارها كانت مغرية ورخيصة مقارنة بسعر السوق، لأنها تعود لأوقاف مساجد وزوايا دينية تم هلتها". ويضيف: "كثير من العقارات والأحياء السكنية والأسواق والمجمعات التجارية القائمة اليوم، خاصة تلك التي برزت بعد الثورة، أُنشِئت على أراضي أوقاف دينية أو مملوكة للدولة أو تعود لشركات غادرت البلاد بسبب تردي الحالة الأمنية في ليبيا عقب الثورة". يتفق المواطن الليبي علي سعد، من بنغازي، مع رأي فرج قائلاً: "أرض الوقف في الحي الذي أقيم به، تم البناء على كامل مساحتها تقريباً من قبل مواطنين، بينما لم تحرك الدولة ساكناً، وبعد أن ضاعت الأرض، بدأت الدولة تفكر في الحلول، لكنها لن تجدي نفعاً، فالظاهرة خرجت عن النطاق الذي يمكن معالجته وأصبحت أمراً واقعاً وعمّت بها البلوى".
إهمال وعجز الدولة
حماية أملاك الوقف وصيانتها وآليات تنظيمها، مسؤولية الدولة، كما نصت لائحة الوقف إبان عهد المملكة السنوسية التي حكمت ليبيا قبل الانقلاب العسكري الذي قاده القذافي في 1969، ثم بموجب القانون رقم 124 لسنة 1972، والقوانين المكمّلة ( 124) لعام 1972 والقانون رقم 16 لعام 1973، تنص القوانين السابقة على حماية أملاك الوقف وصيانتها وآليات تنظيمها والاستفادة منها. وبحسب الدكتور حسين سحيب، أستاذ القانون بجامعة عمر المختار، فإن "للوقف قانوناً خاصاً، لكن في الحالات التي لا يوجد فيها نص قانوني خاص بالاستيلاء على ممتلكات، يمكن تطبيق القوانين العامة، مثل قانون العقوبات وقانون التخطيط العمراني، بحيث تعد الواقعة من باب جريمة شغل عقارات الغير بدون وجه حق، بالإضافة إلى جريمة البناء بدون ترخيص، كذلك يوجد قانون آخر خاص يجرّم شغل عقارات الدولة والجهات الاعتبارية العامة الأخرى مثل الأوقاف بدون وجه حق".
الليبي المسن صالح عبدالقادر، موظف سابق في الأوقاف الليبية، يحمّل نظام القذافي مسؤولية إهمال الأوقاف، بل وحتى التشجيع على الاعتداء عليها، يقول لـ"العربي الجديد": "عايشت الوقف منذ صغري بمنطقة القبّة في عهد الملك إدريس السنوسي، وقد كان مصاناً ومحفوظاً وتوليه الدولة أهمية وعناية خاصة بالتنظيم والتقنين، وكانت تنتشر في ليبيا، إذ كانت توجد العديد من الزوايا الصوفية، تمثل كل زاوية المركز الديني لمنطقتها، تتبعها أوقاف كثيرة من بساتين وأراضٍ، كان أهلنا يحذروننا من مجرد الاقتراب منها أو تناول ثمارها أو تخريب شيء بها، كنا نعتقد أن من يأكل من ثمار مزارع الوقف يصاب بالمرض، منعنا حتى أغنامنا ومواشينا من الاقتراب من أعشاب أراضي الوقف، عملنا على صيانتها اعتقاداً بحرمة التعدي عليها، إذ كان الليبيون لا يتساهلون مع المعتدي على الوقف، أما اليوم "فقد أكل الناس ناقة الله ويبحثون عن صاحبها ليأكلوه أيضاً".
يرى عدد من المهتمين بالوقف أن ما تعرضت له ممتلكات الوقف من نهب وتخريب كان مدبراً من قِبل الأجهزة الإدارية والتنفيذية في نظام القذافي، وبقاياهم الحالية، إذ فتحوا المجال للمخالفات والاعتداءات على الوقف بمنح العقارات والأراضي والمزارع لحاشية النظام والمتنفذين فيه في السابق، عبر استخراج شهادات عقارية رسمية بتملّكها، ما فتح المجال أمام الطامعين والمتطلعين للثراء، في حين يعرف هؤلاء خارطة الأوقاف الحالية، ويسهّلون لمعارفهم الوصول إليها والاستيلاء على ممتلكاتها. الشيخ امراجع، من جهته، يقول إن التعديات مرتبطة بالانفلات الأمني، أما ما حدث قبل الثورة، فكان عمليات استيلاء من قبل مسؤولين في النظام السابق، على مساحات وعقارات محدودة وترخيصها لأنفسهم أو لمسؤولين آخرين، قائلاً: "أغلب مناطق ليبيا شهدت التعديات نفسها، ولم يقتصر الأمر على الوقف فقط بل طال حتى الآثار وأراضيها والأراضي المملوكة للدولة وغيرها من الممتلكات العائدة لجهات عامة واعتبارية".