ليبيا المستقبل - علي المقرحي - طرابلس: كدأب الساعين إلى صنع الثقافة الإنسانية وإقامة جسور التلاقي الإنساني، والعاملين على تحرير النفوس من الاستلاب للغل والظغينة والأرواح من الإغتراب والضياع، ودون جعجعة ولا صخب أجوف، وبلا منّ ولا تبجح ينكب الباحثون التاريخيون وخبراء الآثار بمصلحة الآثار الليبية على البحث عن تاريخنا المجهول وداخل تضاعيفه ودقائقه، وعلى نفض غبار الجهل والتجاهل والإهمال الذي يغلفه، وقد حققوا وما يزالون الكثير من الجدوى ومن المعنى لماضي ليبيا ولحاضرها ومستقبلها، وهو ما يعجز عن تحقيقه بل.. يجهله .. متصدروا المشهد الليبي من كافة وجوهه الذين يزحمون آفاق الوطن ويعكرون صفو أهله بترهاتهم وهناتهم وتبجحهم الأخرق.
هذا بعض من درس حظي به ضيوف أصدقاء دار الفقيه حسن بطرابلس الذين استقبلوهم جريا على سنتهم الحميد، في لقاء الثلاتاء الأول من كل شهر والذي أجل لظرف طارئ إلى الثلاثاء الثاني من شهر ديسمبر الحالى 2015/12/8 حيث القى الدكتور رمضان الشيباني الخبير بهيئة الآثار الليبية محاضرة بعنوان.. الوثائق الإيطالية ودورها في رقمنة المخزون الآثاري بالسراي الحمراء.. استعرض خلالها جوانب من تاريخنا الليبي مجهولة حتى لدى الكثير من المثقفين والمهتمين.
وعرض الدكتور الشيباني عددا كبيرا من الوثائق والصور والرسومات التوضيحية والخرائط وتخطيطات الكروكي لبعض المواقع الآثارية في طرابلس ومحيطها الجغرافي، وتحدث عن علاقات تعاون قسم المحفوظات بمصلحة الآثار مع عدد من المتاحف والجامعات ومراكز البحث التاريخي والآثاري الإيطالية، وشرح باستفاضة الوثائق التي تمكنت الهيئة الليبية من الحصول عليها في إطار هذا التعاون، ذاكرا أن الباحثين الليبيين قد تمكنوا من خلال تلك الوثائق من معرفة وتصنيف أكثر من سبعين بالمئة من محتويات مخازن الآثار بالسراي الحمراء وفي مختلف مراقبات الآثار في كل مناطق ليبيا سواء في الشرق أو الغرب أو في الجنوب، كما عدد بعضا من المؤسسات الإيطالية التي تعاونت معها هيئة الآثار وأتاح لها ذلك التعاون الحصول على تلك الوثائق الثمينة، وذلك مثل.. ارشيف المستعمرات الإيطالية بفيرنسي.. و.. الإرشيف الوطني.. بروما.
وقدم المحاضر أمثلة عما تحقق لدارسي هيئة الأثار وباحثيها من استفادة من ذلك التعاون فقد مكنتهم خرائط وسجلات إيطالية قديمة من التعرف إلى الكثير من المعالم الحضارية التي كانت مجهولة أو لم تكن موثقة في محفوظات المتاحف الليبية، فمن ذلك مثلا أنه تم اكتشاف مقبرة قديمة في منطقة سيدي الهدار بطرابلس وتحديدا في بيت القنصل الانجليزي في ذلك الوقت، الذي عثر في حديقة ذلك البيت على مقبرة قديمة.. لعلها امتداد لمقبرة برج الدالية التي اكتشفت في ذلك المقال، وقد ظهر للباحثين أن القنصل البريطاني قد استباح الآثار التي كانت في تلك المقبرة وحمل إلى بلاده حوالي خمسمئة قطعة آثارية نفيسة مازالتفي بريطانيا حتى اليوم.
أشاد الأستاذ المحاضر ببعض الباحثين والعاملين الإيطاليين في مجال الآثار والتوثيق، فتحدث عن السيد.. فابري.. الذي كان مسؤول قسم الترميم بمصلحة الآثار والذي أعد سجلات للكثير من اللقى الآثارية الليبية، وكذلك السيد.. ديفيتا.. الذي زود الباحثين الليبيين بعدد من السجلات التوثيقية التي سدت النقص الذي يعاني منه ارشيف الآثار الليبي، كما ذكر أن خبراء الآثار الليبيين قد استعانوا بكثير من المنشورات والدوريات والمجلات والتقارير الايطالية واستفادوا منها فيما هم بصدده من توثيق للآثار الليبية، ولم يفت الدكتور الشيباني الإشارة إلى بعض السلبيات التي تواجه الباحثين في مجال الآثار، فمن أمثلة ذلك أن بعض اللقى تنسب في بعض الوثائق إلى.. بير التوتة.. ولكن الذي واجه الباحثين عند قيامهم بالبحث الميداني أن اكتشفوا أن تسمية.. بير التوتة.. تطلق على ما لا يقل عن اربعة اماكن مختلفة في ضواحي طرابلس، في قصر بن غشير والنشيع وتاجوراء ووادي الربيع.
وتحدث عن اكتشافات أثارية في منطقة قرقارش تبدوا من بقايا أويا القديمة وقد وجدت فيها آثار تشير إلى كونها منطقة نشاط اقتصادي وصناعي حيث احتوت حتى على افران شي الفخار ومعاصر للزيتون والنبيذ، كما أكتشفت بعض المقابر التي بها العديد من اللقى والآثار. كما قال أن الباحثين الآثاريين الليبيين قد تمكنوا من الحصول على الخرائط الإيطالية، والتي قاموا في سياق عملهم التوثيقي بمطابقتها بخرائط الأقمار الصناعية وذلك للتمكن من التحديد الدقيق لأماكن الأثار في ليبيا، وأشار أيضا إلى أن من النتائج الإيجابية لذلك التعاون الثقافي والمعرفي أن تمكن الباحثون الليبيون من تصحيح اكثير مما يعتور أرشيف الأثار الليبي بالسراي الحمراء، كما تحدث عن ورشة عمل في مجال التوثيق الآثاري عقدت بمدينة جرجيس التونسية وخلال الصيف الماضي ورشة عمل أشرفت عليها جامعة روما الثالثة ومصلحة الآثار الليبية للتعريف بالمنظومة التوثيقية التي تمخضت عنها جهود التعاون المثمر بين الطرفين، وقال الدكتور الشيباني أيضا أنه قد تم اعداد قاعدة بيانات متطورة، تضمنت ما يمكن تسميته.. بطاقة هوية.. لكل قطعة آثارية على حدة سُجل بها المعلومات المتوفرة والمتعلقة بها، وتم كذلك إعداد خريطة آثارية لمنطقة تريبوليتانا.
وبعد انتهاء المحاضرة فتح باب النقاش وإبداء الملاحظات والآراء حول ما جاء فيها وقد قدم للنقاش الأستاذ سعيد حامد بملاحظة مهمة أشار فيها إلى ما يعانيه التوثيق في ليبيا من مشكلات وما يواجهه العاملون في مجاله من عراقيل ومعوقات والذي لا يقتصر على مجال التاريخ والآثار بل يمتد ليشمل كل مجالات الحياة الليبية. وتحدث الدكتور إبراهيم الخراز عن أهمية الأرشفة والتوثيق وخصوصا في مجال التاريخ باعتباره ذاكرة الشعب، مؤكدا على أن شعبا بلا تاريخ هو شعب عاقر، كما اقترح الدكتور الخراز تشكيل لجنة من المتخصصين في التاريخ ليكونوا عونا للعاملين بمصلحة الآثار من دارسين ومحققين وموثقين في عملية البحث والجمع والتوثيق لتراثنا التاريخي، ودعا إلى التنسيق مع الهيئات الدولية كاليونيسكو والإكسو وذلك للبحث عن الآثار الليبية المنهوبة والمهربة من استعادتها. وأبدت الباحثة الأستاذة أسماء الأسطى بعض الملاحظات حول صعوبة قراءة بعض الوثائق المخطوطة والمكتوبة بخط اليد، وحول ما أشار إليه المحاضر من موضوع الخمسمئة قطعة آثارية أخذت إلى بريطانيا خلال القرن التاسع عشر، كما لفتت النظر إلى أهمية الإستفادة من الجريدة الرسمية الإيطالية لما تتمتع به من دقة وحرفية. وأشاد الأستاذ حسين المزداوي بالتعاون الليبي الإيطالي وشكر المنخرطين فيه من الطرفين، وعرج على جهود المحاضر الدكتور رمضان الشيباني في مجال التوثيق الآثاري، ثم أقترح على ذوي الشأن إصدار كتيبات تعريفية للمفقودات من الآثار تعرف بها وتتحدث عن تاريخها.
وقد تواصل الحوار الذي كان مثمرا وتطرق المشاركون إلى قضايا مهمة مثل ضرورة سن قانون للآثار يكون متفقا مع قيمتها وأهميتها ليكون رادعا للعابثين والمفسدين ، كما أثير موضوع أهمية مشاركة المثقفين إلى جانب المتخصصين في التعريف بالآثار وقيمتها وأهمية المحافظة عليها وعدم العبث بها.