العرب اللندنية: انتقلت المنفعة المتبادلة بين السلطة الجزائرية وتيار السلفية العلمية، إلى وضع مثير ومقلق في الآونة الأخيرة، فبعدما استغل التيار سكوت السلطة من أجل التمكين لنفسه ولرموزه والعمل على التغلغل والانتشار، مقابل استغلال المواقف السياسية المهادنة للحاكم لضرب تيارات السلفية الجهادية والإسلام السياسي، وتوظيف تحريمه للتظاهر والتحزب والخروج عن السلطان، لتثبيط عزائم دعاة التغيير السياسي عبر الشارع، تبادل الطرفان رسائل مبطنة توحي بنهاية سنوات التعايش السلمي بينهما. نفذت وزارة الشؤون الدينية والأوقاف في الآونة الأخيرة، حزمة من التدابير الرامية إلى تضييق الخناق على الامتداد المريب والمقلق لتيار السلفية العلمية والمدخلية، في الكثير من مساجد البلاد ودور العبادة ومدارس التعليم، على خلفية تحصين وحدة وسلامة المرجعية الدينية للبلاد من التيارات الدينية المحرضة على الفتن والانقسامات الطائفية.
ويأتي على رأس تلك التدابير عزل أكثر من 50 إماما وغلق 42 مسجدا في العاصمة، بدعوى عدم الامتثال لسياسة الوزارة في توحيد الخطاب الديني والمذهبي، وارتباطها بمرجعيات غريبة عن المرجعية المحلية (المذهب السني المالكي)، إلى جانب قيام وزير القطاع بحركة واسعة طالت مسؤولين وكوادر سامية، يشتبه في انتمائها غير المعلن للتيار السلفي. وانتهت بذلك حالة التقاطع بين السلطة في الجزائر وتيار السلفية العلمية، التي ميزت علاقة الطرفين طيلة السنوات الماضية، إلى عداء متصاعد وصراع مستتر في المساجد ودور العبادة ومدارس التعليم القرآني، فبعد انتفاع كلا الطرفين من الآخر خلال الأعوام السابقة، دخلت علاقاتهما حالة من الفتور والخصومة غير المعلنة، خاصة أمام استشعار السلطة لمخاطر ضرب وحدة المرجعية الدينية للبلاد واستقرارها. وإن سلم لحد الآن رموز التيار كأستاذ الشريعة في جامعة الخروبة بالعاصمة محمد علي فركوس، أبو عبدالباري وعبدالمالك رمضاني وغيرهم من أيّ إجراءات واضحة في هذا السياق، فإن العارفين بشؤون علاقة السلطة بالتيارات الإسلامية بمختلف التوجهات، يرون بأن المسألة تتعلق بتريث الحكومة لأجل عدم تهييج أنصار التيار السلفي العلمي والمدخلي، ومحاولة استغلال خلافاتهم الفكرية والمنهجية لضرب بعضهم ببعض.
وعزا الملاحظون تدابير وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، إلى الرغبة في وضع حد لنشاط التيار، خاصة بعدما أبدى قدرات فائقة على الانتشار الواسع وعلى اختراق مؤسسات رسمية، وضلوع بعض رموزه في الأزمة المذهبية المشتعلة في محافظة غرداية منذ ثلاث سنوات، التي أدت في اشتباكاتها المتجددة إلى سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى وخسائر مادية كبيرة، وآخرها مشادات مطلع الشهر الجاري التي راح ضحيتها 25 قتيلا ببلدتي القرارة وبريان التابعتين للمحافظة. ويكشف مسح بسيط لشبكات التواصل الاجتماعي إلى ضلوع ناشطين سلفيين بالمحافظة، في نشر خطاب الأحقاد والكراهية والانتقام والقتل، ويأتي على رأس هؤلاء أحمد سقلاب الذي تلقى تعليمه في المملكة العربية السعودية منذ سنوات، وإمام أحد المساجد المالكية بالمدينة المدعو أحمد الشحمة، وهما الناشطان اللذان أشعلا الشبكات المذكورة بمنشورات وتسجيلات سمعية وبصرية، تدعو للقصاص من أتباع المذهب الإباضي، وتحشد أتباع المذهب المالكي للوقف في وجه ما أسمياه بـ “الخطر الإباضي الشيعي الصفوي القادم من إيران”.
وترتبط رموز السلفية في الجزائر منذ نشأتها في ثمانينات القرن الماضي، بمراكز المذهب السني الوهابي وربيع المدخلي في المملكة العربية السعودية واليمن، ويزاول عشرات الطلبة الجزائريين دراساتهم في الرياض وجدة والمدينة وصنعاء، تمهيدا لتحويلهم إلى دعاة للمذهب المذكور في بلدهم، وتداول ناشطون على شبكات التواصل الاجتماعي صورة البطاقة الدراسية للناشط السلفي في غرداية أحمد سقلاب الصادرة عن جامعة الملك عبدالعزيز. وكان هؤلاء هم النواة الأولى في الجزائر التي تفرعت عنها مختلف التيارات الإسلامية، كالسلفية الجهادية والعلمية والمدخلية، ولو أن خلافات واسعة تفرق بينها في مسائل دينية وفقهية كثيرة، منها الجهاد والتشدد والعلاقة مع الحاكم والممارسة السياسية، إلا أنها لا تخرج عن الإطار الأم لمراكز التيار في دول الخليج العربي. لكن يبقى الانتشار المذهل للتيار في مختلف الأوساط الشعبية وحتى الرسمية، واحتكاره لنشاط تجاري واقتصادي بعيد عن الرقابة الحكومية، أكبر المؤرقات للسلطة الجزائرية، فلقد استطاع شاب مقرئ وإمام يكنى بـ”السّديس الصغير”، أن يجمع خلفه حوالي ثمانية آلاف مصلّ خلال صلوات التراويح في شهر رمضان المنقضي، بأحد أحياء مدينة بوفاريك (30 كلم جنوبي العاصمة)، لا لشيء إلا لأنه يملك صوت الشيخ السّديس.
كما يهيمن أنصار السلفية الذين يرفضون الالتحاق بالوظائف الحكومية، على أنشطة تجارية كثيرة وحتى في الاستيراد والمقاولات، ويحتكرون أحياء بكاملها في العاصمة والمدن الكبرى، كما هو الشأن في حيي السمار وبلفور بالعاصمة، لتجارة المواد الغذائية والهواتف الخلوية، وهو ما تخشى منه السلطة في أن يوظف في تمويل مشروعات مشبوهة لخدمة أفكار التشدد والتطرف الديني. وشكلت حملة الإقالات التي نفذها مؤخرا وزير الشؤون الدينية والأوقاف محمد عيسى، وشملت عددا من المديرين والمستشارين والكوادر، القشة التي قصمت ظهر البعير وأنهت موسم التعايش السلمي بين السلطة والتيار السلفي، حيث تسود حالة من التململ داخل القطاع بدعوى ظاهرها توجه الوزارة إلى “علمنة” القطاع والتخلص من الكفاءات والخبرات، وباطنها استشعار رموز السلفية لخطر فقدان مواقعها المؤثرة في القرار الديني، ووجهوا للوزير تهم تشجيع التيار الغريم “الصوفية “، التي بدأت السلطة تشجعها وتستعين بها منذ مجيء الرئيس بوتفليقة في العام 1999 من أجل خلق توازن بين التيارات الدينية، وخلق بدائل للمتشددة منها.