العرب اللندنية: تصاعد الجدل مجدّدا حول احتمالات تأسيس دولة كردية، في خضم الصراعات الحادة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، نتيجة استمرار الحرب التي يشنها التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش"، والتي لم تمنعه من تحقيق نتائج نوعية على غرار السيطرة على مدينة الرمادي في شمال العراق، فضلا عن عدم ظهور مؤشرات تزيد من احتمالات الوصول إلى تسوية للأزمة السورية، رغم النجاحات الأخيرة التي حققتها قوى المعارضة المسلحة. ومع ذلك، فإنّ اتخاذ خطوات ملموسة على هذا الصعيد يبدو احتمالا مؤجلا، إن لم يكن مستبعدا، في ظل العقبات العديدة التي تحول دون تحقيق هذا الهدف، على الأقل في الوقت الحالي.
نزعات انفصال قديمة
لطالما عمل الأكراد على تحقيق ما يسمونه بـ"استقلالهم الذاتي" في منطقة الشرق الأوسط، ومن أجل تحقيق تلك الغاية وظّفوا منذ زمن بعيد موارد كبيرة لإنشاء ما يسمى "باللوبي الكردستاني" في واشنطن، لاستدرار عطف صناع القرار ودعم مآربه في تحقيق استقلال إقليم كردستان العراق والتحكم بموارده النفطية. في هذا السياق برز اسم السفير الأميركي الأسبق في بغداد بعد الاحتلال، زالماي خليل زاد، برفقة المستشار الأسبق لمجلس الأمن القومي الجنرال جيمس جونز، كثنائي معتبر للترويج لمصالح إقليم كردستان لدى الدوائر الأميركية. وبالإضافة إلى الثنائي المذكور، دأبت قيادة الإقليم على الاستثمار في عدد من الشركات والمؤسسات الأميركية المختصة بالعلاقات العامة وذات النفوذ في أروقة الكونغرس. وقد أثمرت جهود اللوبي الكردي في إعلان البيت الأبيض بدء حملة قصف جوي في مناطق إقليم كردستان ضد قوات داعش، ونتيجة مباشرة للعلاقات الخاصة التي تربط واشنطن بقادة كردستان بدأت الحكومة الأميركية الوفاء بالتزاماتها بتسليح الأكراد، الذين يتمتعون بدعم عدد من الأصدقاء المؤثرين في واشنطن، ومن بينهم يبرز عضوا الكونغرس الجمهوري جو ويلسون، ولاية ساوث كارولينا، والممثل السابق عن ولاية تنسي لينكولن دايفيس، اللّذان أسسا "التجمع الكردي الأميركي"، عام 2008 كحاضنة لاستقطاب دعم "مسؤولين سابقين في الحكومة الأميركية تشمل وزارتي الخارجية والدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية، إضافة إلى مسؤولين سابقين في الحزبين الجمهوري والديمقراطي". وقد تسببت النزعات الانفصالية الكردية في الكثير من المشاكل، خاصة في البلدان التي يطمحون إلى إقامة "دولتهم" على أجزاء من أراضيها وهي كلّ من العراق وسوريا وتركيا. وإن استغل الأكراد حالة الفوضى التي تعيشها سوريا والعراق من أجل تحقيق مآربهم، فقد اختاروا الصراع السياسي مع تركيا، والذي بدأ يثمر لصالحهم في غداة الانتخابات الأخيرة التي أضحى لهم فيها حضور ووزن لافتان.
استغلال الحرب ضد داعش
برز المقاتلون الأكراد في سوريا والعراق كأكثر القوى فاعلية في الحرب ضد تنظيم "الدولة الإسلامية"، منذ إعلانه إقامة "الخلافة" في المناطق الخاضعة لسيطرته في البلدين قبل أكثر من عام. واستفاد الأكراد من الدعم المكثف لطيران التحالف الدولي بقيادة واشنطن، والذي يشنّ غارات ضد الجهاديين في سوريا والعراق منذ الصيف الماضي. ففي شمال العراق، دافعت قوات البيشمركة الكردية عن مناطق إقليم كردستان، وانتشرت في مناطق عدّة متنازع عليها مع الحكومة الاتحادية، بعد انسحاب القوات العراقية منها في وجه الهجوم الكاسح الذي شنه التنظيم المتشدد في يونيو 2014. وفي سوريا، دافع المقاتلون الأكراد لأشهر عن مدينة عين العرب (كوباني) أمام هجوم الجهاديين، وطردوهم في يونيو الجاري من مدينة تل أبيض الحدودية مع تركيا، وخاضوا معارك ضدهم في مناطق أخرى كمحافظة الحسكة (شمال شرق). وفي حين يواجه أكراد سوريا الذين يشكلون ما بين 10 و12 بالمئة من سكان البلاد، وأكراد العراق الذين يشكلون نحو 15 إلى 20 بالمئة من سكان العراق، عدوا واحدا، إلّا أنهما يتحركان وفق أجندات سياسية مختلفة. وفي مقابل ما حققوه ميدانيا، كانت كلفة الحرب ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" باهظة بالنسبة للأكراد، سواء لجهة عدد الضحايا أو الدمار الذي لحق مناطقهم والخسائر الاقتصادية التي تكبّدوها في البلدين. وبعد نحو شهرين من هجومه الكاسح، شن داعش في أغسطس 2014 هجوما متجددا في شمال العراق واقترب من حدود إقليم كردستان، ما شكل أحد الأسباب التي تدخلت على إثرها واشنطن عبر شن ضربات جوية. وساعدت الضربات المستمرة في إطار تحالف دولي، الأكراد في استعادة مناطق وحماية حدود الإقليم المكوّن من ثلاث محافظات، ومواصلة الانتشار في مناطق متنازع عليها أبرزها مدينة كركوك الغنية بالنفط.
ويقول وزير البيشمركة، مصطفى سيد قادر "نحن كإقليم كردستان وقوات البيشمركة، ذهبنا لحماية هذه المناطق والدفاع عنها، وقد قدمنا التضحيات والدماء، ولهذا فلن نتركها وسنبقى فيها حتى انتهاء هذه الحرب"، مشيرا إلى أن عدد ضحايا قواته في المعارك منذ يونيو 2014، بلغ 1200 قتيل وقرابة سبعة آلاف جريح. وفي حين يرى قادر أن إقليم كردستان "لن يسلم هذه المناطق بسهولة إلى الحكومة العراقية"، يشير إلى أنه "يمكن الوصول إلى اتفاق عبر الحوار والسلم والقانون والدستور". وعلى الجانب الآخر من الحدود، ثبت أكراد سوريا الذين لا يجمعهم إقليم ذو حكم ذاتي، نفوذهم في مناطقهم التي باتت معظمها تحت إدارتهم بعد انسحاب النظام المنشغل بنزاع دام مستمر منذ أكثر من أربعة أعوام. وشكلت معركة عين العرب أبرز محطات المواجهة بين الجهاديين والأكراد في سوريا. وحالت وحدات حماية الشعب الكردية، مدعومة بمجموعات مساندة وضربات التحالف، دون سقوط المدينة في معارك استمرت من سبتمبر الماضي إلى حين انسحاب التنظيم في يناير الماضي. والأسبوع الماضي، كبد الأكراد التنظيم خسارة جسيمة في سوريا، عبر استعادة مدينة تل أبيض، التي كانت تعد طريق إمداد أساسي له من الحدود التركية نحو مدينة الرقة، أبرز معاقله في سوريا.
أفق محدود
يرى الباحث سيروان كجو أنّ "الأكراد هم إلى حد كبير القوة الأكثر فاعلية التي تقاتل ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا. فهم منظمون بشكل جيد، منضبطون ويؤمنون بقضيتهم". ويقول فلاديمير فان ولغنبرغ، الباحث في "مؤسسة جايمستاون” ومقرها واشنطن، إن الأكراد "نجحوا في هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في مناطق عدة، إلا أّن الضربات الجوية الأميركية لعبت دورا كبيرا في ذلك". ويقول كجو "الأكراد عانوا بشكل هائل تحت تهديدات تنظيم الدولة الإسلامية؛ فخلال أزمة كوباني، نزح آلاف الأكراد إلى تركيا". ويضيف "رغم تحرير مدينتهم، إلا أن الغالبية العظمى منهم لم تتمكن من العودة إلى منازلها لأنها دُمرت بشكل كامل".
وفي العراق، نزح أكثر من 1,2 مليون شخص إلى إقليم كردستان منذ يونيو 2014 حتى مايو الماضي، حسب المنظمة الدولية للهجرة. وقد فقد إقليم كردستان سمة المنطقة التي تنعم بالأمن في ظل محيط متفجر وملتهب، بعدما استهدف التنظيم عاصمته أربيل بعدد من التفجيرات، فضلا عن وجود الجهاديين في مناطق قريبة من محافظاته الثلاث. وشكلت كلفة الحرب ضغطا إضافيا على اقتصاد الإقليم الذي يعتمد بشكل كبير على النفط وحصته من الموازنة العراقية. إلّا أنّ نقاط الخلاف المستمرة مع بغداد، واضطرار الحكومة الاتحادية إلى الحد من النفقات جراء تراجع أسعار النفط والكلفة المتزايدة لمعارك قواتها ضد تنظيم الدولة الإسلامية، تجعل الأعباء الاقتصادية على كاهل أربيل أشد وطأة. ويقول زيد العلي، مؤلف كتاب "الصراع على مستقبل العراق"، إن "الأزمة الاقتصادية، سَبّبت مشاكل كبرى وأظهرت إلى أي حد يتأثر الأكراد بتقلبات الأمن الإقليمي وأسعار النفط"، مضيفا بالقول "في المحصلة، لا أحد سيخرج مرتاحا من هذا النزاع".
ويرى مراقبون أن الأكراد عمدوا في المناطق التي سيطروا عليها في كل من العراق وسوريا إلى ردّ الصاع إلى السكان العزل الذين وجدوهم، وكذلك إلى تكريد الأسماء وتغييرها، في إطار خطة منظمة، في محاولة منهم لطمس هوياتها وإحكام السيطرة المطلقة عليها، شأن أكراد سوريا الذي أساؤوا خلال الفترة الأخيرة لقضيتهم العادلة والمحقة، قضية مواطنين لهم حقوقهم السياسية والثقافية والاجتماعية من حقهم الحصول عليها، وتصرفوا بتطرف بنسخة قومجية شوفينية استعلائية انفصالية، حيث يتعامل هؤلاء مع بقية مكونات الشعب السوري وكأنهم مسؤولون عن حرمانهم من حقوقهم خلال الخمسة عقود الماضية، كحرمانهم من الجنسية التي منعها النظام عنهم، وعن التغيير الديموغرافي الذي حاول النظام القيام به في الستينات من القرن الماضي، والمسؤولون أيضا عن عداء تركيا لهم، وعن تسليم زعيمهم الأعلى عبدالله أوجلان للسجون التركية، وعن الحزام العربي الذي أقرته السلطة السورية. خلاصة القول إنّ التطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة في الوقت الحالي والأزمات الاقتصادية، لا توفر خيارات متعددة أمام الأكراد وتجعل أفقهم محدودا، إذ أنّ انشغال القوى الدولية والإقليمية بالحرب ضد "داعش"، فضلا عن تزايد احتمالات الوصول إلى صفقة نووية بين إيران ومجموعة "5+1" قبل 30 يونيو 2015، إلى جانب تصاعد حدة الأزمات الإقليمية في سوريا واليمن، كل ذلك يشير إلى أن تأسيس دولة كردية يبقى احتمالا مؤجلا يواجه عقبات لا تبدو هينة، خاصة إذا ما واصلوا النهج العدائي الذي يسلكونه تجاه سكان المناطق التي تقع تحت سيطرتهم.