العرب اللندنية: أضحت الأجهزة الأمنية في عدد من الدول العربية التي تشهد مراحل انتقالية أو تخضع لتهديدات إرهابية مباشرة، والتي غالباً ما تُعاني من التضخم والفساد، مُطالبةً بإيجاد طريقة لرفع التحدّي المزدوج المتمثّل في إرساء توازنٍ بين مهامها في حفظ النظام وحماية أمن المواطنين، ومعالجة أسوأ التجاوزات التي ترتكبها عناصرها، خاصّة أنّ الاحتجاج على الأساليب القمعية لتلك الأجهزة، كان من بين المظالم الأساسية التي أدّت إلى اندلاع انتفاضات ما سمّي بالربيع العربي. وقد يؤدّي الفشل في تحسين إجراءات الشرطة والممارسات الأمنية، إلى تحريك التململ من جديد وتهديد الاستقرار الإقليمي على المدى الطويل. وقد أسال موضوع إعادة هيكلة المنظومة الأمنية في عدد من البلدان العربية، وضرورة التعجيل بذلك، حبر الكثير من الخبراء والمختصين، الذين تطرقوا إلى دراسة هذه المسألة من جوانب مختلفة مُسلطين الضوء على نماذج بعينها، مُتقصّين عن أسباب التعطّل التي حالت دون مرور عملية الإصلاح بسلاسة إلى حدّ الآن، دون التغاضي عن بعض الأشواط التي تمّ قطعها في هذا الصدد.
المحسوبية معضلة اليمن
لطالما عكس القطاع الأمني في اليمن، تماماً مثل النظام السياسي، مصالح النخبة الحاكمة مستمداً زخمه من منظومة من المحسوبيات والفساد، واستُخدِم أيضاً لتحقيق مآرب سياسية شخصية، لا سيما أجندات الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وفق رأي الباحثة في قسم الدراسات الحربية في كلية كينغز في لندن جوانا كوك، التي أضافت أنّ غياب السيطرة الحكومية المستقلة على القوى الأمنية التي تُستغَلّ الآن لتحقيق المصالح الضيّقة للرئيس السابق صالح والحوثيين، يزيد من حدّة النزاع الدائر حالياً في البلاد. ويعدّ إصلاح القطاع الأمني في اليمن مشروعا طويل الأمد لم يحظَ بعد بالوقت ليتبلور كما يجب، خاصّة في ظلّ انتشار الفساد في البلاد، لا سيما من خلال ظاهرة "الجنود الأشباح" الذين غالباً ما كانوا مصدر كسب كبير لقادة الوحدات العسكرية، حيث تشير تقديرات إلى أنّ نحو ثلث الجنود اليمنيين كانوا موجودين على الورق فقط.
وبالإضافة إلى ذلك تلفت كوك إلى أنّ أمرا آخر زاد من عرقلة جهود الإصلاح، يتعلق بغياب الإشراف الديمقراطي والسيطرة المدنية على تلك القوات، فقد كانت وحدات على غرار قوات الأمن المركزي ومكافحة الإرهاب، تخضع مباشرةً للرئيس الذي غالباً ما كان يستعملها لتحقيق مآربه الخاصة. ومن المشكلات أيضا غياب المهنية، وعدم الفصل بين الأجهزة الأمنية والمصالح السياسية، واستخدام القوى الأمنية لسحق المعارضة السياسية، كما حصل خلال احتجاجات سنة 2011. وقد حصلت العديد من محاولات الإصلاح منذ ذلك الحين، ففي ديسمبر سنة 2012، جرى حل الحرس الجمهوري، والفرقة المدرّعة الأولى بقيادة علي محسن، ليصبح بالإمكان تنظيم القوات الأمنية والمسلحة على أساس مناطقي. وقد استُبدِلت تسمية قوات الأمن المركزي بقوات الأمن الخاصة في محاولة للنأي بها عن الفرقة السابقة التي كانت موضع جدل. وأنشئ أيضاً مكتب المفتش العام ضمن وزارة الداخلية لمعالجة المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان والفساد والانتهاكات التي تمارسها عناصر الشرطة.
بيد أن تبديل أسماء تلك المؤسسات واستبدال كبار القادة لم يؤدِّ في نهاية المطاف إلى انتقال ولاء الجنود والقياديين متوسطي الرتبة وثقتهم إلى الحكومة المنتخبة حينها. ولا تزال تلك القوى الأمنية تُستعمَل لتحقيق المآرب السياسية الضيّقة للنظام السابق وشركائه، وهو ما تجلى على مدى الأشهر الأخيرة بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء ومدن مركزية أخرى في اليمن مسنودين بتلك القوات الموالية لصالح. وتوضّح كوك أنّ الإصلاح واسع النطاق للقطاع الأمني في اليمن، عبر التركيز على المصالح المدنية والسيطرة والإشراف على عملية صنع القرارات والنأي بالقوى الأمنية عن الأجندات السياسية الشخصية وتحقيق المهنية والاحتراف لدى القوات الأمنية والمسلحة، يُشكّل عنصراً أساسياً في التوصّل إلى حلّ دائم للأزمة اليمنية، لافتة إلى أنّ مسوّدة الدستور التي صدرت في فبراير 2015، تقدّم إطار عمل معترفا به يمكن الانطلاق منه، في ظلّ عدم وجود خيارات أخرى كثيرة متاحة أمام بلدٍ غارق في نزاع دموي ما زال مستمرّا.
تونس ترجئ الإصلاح
الأهمية التي حظيت بها مسألة إصلاح القطاع الأمني، مبكّرا، في اليمن، تجد لها صدى كذلك في تونس، حيث تصدّر إصلاح قطاع الأمن قائمة الأولويات غداة سقوط نظام بن علي، بيد أن تصاعد وتيرة الهجمات الإرهابية الدموية، التي استهدف آخرها فندقاً سياحياً في 26 يونيو الماضي في مدينة سوسة الساحلية، ما انفك يُرجئ الانكباب على هذا المطلب حتّى كاد يُغيّبه. وأمام تعالي الأصوات المُنادية بالمصادقة على قوانين مكافحة الإرهاب وتحصين قوات الأمن، تقول الباحثة بجامعة قرطاج التونسية شهرزاد بن حميدة إنّ المواطن وجد نفسه عالقاً بين مطرقة الإرهاب وسندان تأمين الشرطة، فاقداً للضمانات الضرورية لإرساء توازن بين التصدي الناجع للتهديدات الإرهابية واحترام الحقوق المدنية. ويرتبط غياب هذه المعادلة في جزء منه بالاعتقاد المغلوط بأنّ عملية الإصلاح هي ترفٌ مؤسساتي متاحٌ فقط عندما لا يكون هناك وجود للتهديدات الإرهابية، وفق رأيها، لافتة إلى أنّ هذا الموقف يتجاهل واقع أنّ الإصلاح يشمل أيضاً التغييرات البنيوية الضرورية لتحقيق الأمن دون الحد من الحريات المدنية.
وتوضح بن حميدة أنّ التخطيط الاستراتيجي في مجال رسم السياسات العامة للأمن ومتابعتها وتقييمها يعدّ أكثر فاعلية في إصلاح القطاع الأمني من القرارات المرتجلة أو المسقَطة التي يتم اتخاذها وفق ردود أفعال على هجمات محدّدة، فالقرارات التي تم الإعلان عنها إثر هجوم سوسة، حول إعادة النظر في الرخص الممنوحة لبعض الأحزاب والجمعيات وغلق المساجد الخارجة عن سيطرة الدولة وتقييد السفر في اتجاه بعض الدول على كل الشباب التونسيين البالغين من العمر أقل من خمسة وثلاثين عاماً، أدّت إلى إحياء المخاوف لدى الرأي العام حول عودة النظام البوليسي. هذا بالإضافة إلى أنها تثير تساؤلات جدّية حول مدى فاعليتها في غياب سياسة وطنية متكاملة لمكافحة الإرهاب. غير أنّها استدركت لتقول إنه وعلى الرغم من قتامة المشهد الأمني اليوم في تونس والحاجة إلى إعطاء الأولوية لمكافحة الإرهاب، لا يزال هناك أمل بالإصلاح، حيث يُبدي المواطنون استعداداً متزايداً للضغط على الحكومة من أجل تحقيق تغيير مُجدٍ. وقد أدّت الجهود التي يقوم بها المجتمع المدني في تونس، منذ اندلاع الاحتجاجات سنة 2011، إلى رصد غالبية الانتهاكات التي ترتكبها الشرطة وتوثيقها، ما أدّى إلى الكشف عنها على الملأ وتعبئة الرأي العام ضدها، بهدف مساءلة المسؤولين عنها وهو ما حصل في مرات كثيرة، فعلى سبيل المثال، بعد قيام عنصرَين أمنيين باغتصاب فتاة في العام 2012، خضع المتورّطان للمحاكمة بضغوط مارسها المجتمع المدني والرأي العام. كما أُقيل ضباط من مناصبهم، مؤخراً، على خلفية ممارستهم العنف ومنعهم بعض المدنيين من التردّد على المقاهي والمطاعم في ساعات النهار خلال شهر رمضان.
مشاريع نموذجية في لبنان.. ولكن
على الرغم من الاختلاف الجزئي بين الوضعيتين اليمنية والتونسية، على اعتبار أنهما تشتركان في انتمائهما لما سمي بـالربيع العربي، والوضعية اللبنانية التي كانت بمعزل عن موجة تلك الاحتجاجات، إلاّ أنّ مسألة الإصلاح الأمني تحظى في هذا البلد بنفس الأهمية التي تكتسيها في البلدين الأولين. وبغضّ النظر عن التغييرات المستمرة في الهيكلية الأمنية اللبنانية، لم يباشر لبنان عملية إصلاح شامل للقطاع الأمني، في ظلّ غياب حكومة فعّالة. ولكنّ ذلك لا ينفي وجود بوادر أمل، وفق الباحث آلان ماكروم، الذي أشار إلى أنّ وضْع مدوّنة قواعد السلوك لقوى الأمن الداخلي، انطلاقاً من معايير مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، يشكّل تطوراً مهماً في هذا السياق. وينطبق ذلك أيضاً، وفق رأيه، على إنشاء نموذج للشرطة المجتمعية في منطقة رأس بيروت، وهو ما مهّد لحدوث تغيير على مستوى الثقافة المحلية، وساهم في تعزيز مستويات النزاهة والتملُّك والمبادرة من جانب الضباط، ويظهر ذلك من خلال توقيف أشخاص حاولوا بطريقة فاضحة دفع رشاوى لضباط يتبعون جهاز رأس بيروت.
وكانت النتائج الأولى، وفق ماكروم، مشجّعة للغاية، فقد تراجع معدّل الجريمة في منطقة رأس بيروت بنسبة 40 بالمئة في السنة الأولى من المشروع، وكذلك انخفضت مخالفات السير بنسبة 20 بالمئة، وسُجِّل تراجع كبير في مستويات السلوك المعادي للمجتمع. وقد حدّد فريق التحليل مجالات أساسية للتعلّم واكتساب المعارف، فضلاً عن تحديد نقاط الضعف، والممارسات الجيدة، ولأول مرة، كان هناك تعاون داخلي حقيقي. ولكن رغم هذه الخطوات الإيجابية، مازالت جهود إصلاح القطاع الأمني في لبنان غير قادرة على إيجاد حلّ لعدد كبير من الثغرات العميقة في الشرعية السياسية، والتي تتسبّب بخلل أمني وأعمال عنف في أوقات سابقة. لكن رغم ذلك يلفت ماكروم إلى أنه بإمكانه أن يقدّم مساهمة مهمة لتغيير السلوكيات والمواقف من العلاقة بين السلطة والشعب. ولهذه الغاية، يجب أن يستند إصلاح القطاع الأمني إلى مبادئ الشرعية العامة والمساءلة والشفافية. والمطلوب الآن هو البناء على إجراءات محلية أثبتت نجاحها، مثل إجراءات رأس بيروت.خلاصة القول، من المهم، في إطار تناول مسألة إصلاح القطاع الأمني في الدول العربية الثلاث التي تناولها البحث وغيرها من البلدان التي تتشابه معها في الوضعية، الإدراك بأنه يمكن الجمع بين مكافحة الإرهاب، والحفاظ على حقوق الإنسان، والشرطة المجتمعية من دون أن تُقصي الواحدة الأخرى، فإجراءات مكافحة الإرهاب تحتاج إلى معايير حقوق الإنسان حرصاً على ألا يُقوِّض تطبيقها الهدف الذي وُضِعت من أجله، أي حماية مجتمع ديمقراطي والحفاظ عليه.