العرب اللندنية: مرة جديدة يتم تأجيل تشكيل حكومة الوفاق الوطني الليبية بسبب انسحاب ممثلي المؤتمر الوطني العام من المباحثات، بعد بضعة أسابيع من رفضهم التوقيع على الاتفاق الأولي الذي توصلت إليه كافة الأطراف الليبية الأخرى في 11 يوليو الماضي. وبينما لا تزال إمكانية تشكيل حكومة وفاق وطني ممكنة في المدى القصير، فإن مثل هذه الحكومة لن تتمكن من تحقيق المهام الموكلة إليها بشكل متين ما لم يترافق ذلك مع تقدم ملموس في مجال ترتيبات الأمن الداخلي. ولكي تتمكن حكومة الوفاق هذه من أن تتولى زمام الأمور في طرابلس وإدارة أمور البلاد منها، فلا بدّ لها أولا وقبل كل شيء أن تتمكن من استخدام الأبنية والمرافق الحكومية، ما يتطلب أن تقوم المجموعات المسلحة المؤيدة للاتفاق بالسيطرة على هذه الأبنية الأساسية وحمايتها. لكن، في الوقت الراهن، فإن زعماء الميليشيات المستقرة في العاصمة طرابلس، مثلها مثل مجموعة من قادة الميليشيات في مصراتة والزاوية، يدعمون الصقور في المؤتمر الوطني العام، ما يشكل خطرا مباشرا على تطبيق أي اتفاق سياسي يتم التوصل إليه من دون مشاركتهم. وقد وضع الاتفاق الأولي، الذي تم التوصل إليه في مدينة الصخيرات المغربية في شهر يوليو الماضي ومن المنتظر أن تتواصل جولاته هذا الأسبوع، تصورا لـ”ترتيبات أمنية داخلية” من شأنها أن تشكل الأساس لوقف إطلاق شامل للنار في كل البلاد وانسحاب تدريجي للمجموعات المسلحة من المدن والبلدات في ليبيا. ومع ذلك، فقد عانت مفاوضات المسار الأمني من نكسات جدية عديدة، وبقيت محدودة من حيث منظورها ونتائجها.
وبينما قامت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بعقد سلسلة من الاجتماعات التمهيدية مع الفاعلين الكبار في المجال الأمني، وبخاصة بين زعماء المجموعات المسلحة الأكثر نفوذا في طرابلس، فإن الفئات العسكرية المتناحرة لم تعقد فيما بينها اجتماعات موسعة. أضف إلى ذلك أن التحالفين العسكريين الأبرز وهما ما يسمى بـ"الجيش الوطني الليبي"، بقيادة الفريق حفتر، و"تحالف فجر ليبيا" المؤلف من مجموعات مسلحة من مصراتة والغريان والزاوية وطرابلس -إضافة إلى التشكيلات المقربة من الإسلاميين- قد أصبحا كل على حدة مفتّتَين بمرور الزمان، مع هرمية قيادية قائمة على نواة مركزية ولكن من دون هيمنة سياسية على العسكريين. أما العسكريون الذين شاركوا في المباحثات فقد فعلوا ذلك بشكل فردي ومن دون أي تنسيق مع السياسيين، بل إنهم كانوا ينافسون السياسيين في ذلك. بيد أن ثمة تنسيقا ضعيفا تمّ تأمينه أثناء عملية التفاوض التي قادتها الأمم المتحدة بين السياسيين والعسكريين، وكان ذلك غالبا بسبب النقص في الموارد والقدرات. ولذلك أحجمت الأطراف عن الدخول في مباحثات أمنية والتعهد بالالتزام بخطوات ملموسة في هذا المجال ما لم يتم التوصل إلى اتفاق سياسي. بل إن التصميم الجديد لمسار العملية التفاوضية لن يعطي العسكريين تأثيرا رسميا على نتائج المفاوضات عل المسار السياسي.
تطورات إيجابية
كان أعضاء بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا الذين يتولون قضية الترتيبات الأمنية مقيدين بالمباحثات مع الأطراف المنخرطة بشكل مباشر في الصراع على الأرض. ومع ذلك، فإن التطورات الإيجابية الأخيرة في غرب ليبيا (وبخاصة التوصل إلى اتفاقات محلية لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى) أظهرت أنه يمكن التوصل إليها بشكل أسهل (ويمكن أيضا المحافظة عليها أكثر) عندما تدخل أطراف ثالثة محايدة ولكن مؤثرة في المباحثات. وبينما يتم تقديم أفكار جديدة لدفع المباحثات في الترتيبات الأمنية لطرابلس، فإن مشاركة قوى محايدة يمكن أن يلعب دورا مهما في هذا الجال. وركّزت المباحثات مؤخرا، على احتمال تشكيل قوة ثالثة محايدة تتولى الأمن في طرابلس. وسوف تحل هذه القوة محل القوتين المتصارعتين المتحالفتين مع مصراتة أو الزنتان اللتين تهيمنان على المدينة منذ 2011، واللتين تورطتا في صيف 2014 في مواجهات مسلحة مباشرة. مثل هذه القوة الثالثة يمكن أن تتشكل من بلدات ومجموعات سكانية في ليبيا لم تشارك في صراع 2014 وتؤيد العملية السياسية ولديها القوة العسكرية الكافية لكي تضغط على الطرفين المتصارعين، شريطة أن تكون لها شرعية وأن تدعمها القوى السياسية المؤيدة للتوافق السياسي وشركاء ليبيا الدوليون. وسيكون ثمة تحدّ كبير في مناطق شرق طرابلس على وجه الخصوص متمثل في ردة الفعل المحتملة للتشكيلات الإسلامية الأكثر تطرفا والطريقة التي يمكن لهذه القوة الثالثة أن تعالج فيها ردة الفعل المحتملة تلك. إضافة إلى الغاية الرئيسية، وهي فرض الأمن في مدينة طرابلس وبخاصة المباني الحكومية الرئيسية ومؤسسات الدولة، يمكن لهذه القوة أن تشكل نواة الجيش النظامي الجديد، أي أنها سوف تدمج سوية مجموعات صغيرة من الثوار وجنودا نظاميين (بشكل أساسي الضباط الذين التحقوا بالثورة وبالتالي لم يعودوا للخدمة العسكرية) تحت قيادة جديدة وبنية عسكرية جديدة.
قوة ثالثة قوية
لعل تجربة "غرفة نفوسة العسكرية" التي تم انتشارها في الأشهر الأخيرة في مناطق غرب وجنوب طرابلس، يمكن أن تشكل اختبارا مثيرا للانتباه في هذا المجال. تأسست هذه القوة التي يرأسها العقيد مجمد شيبون، وهو ضابط سابق في سلاح الجو الليبي، من وحدات من مدن وبلدات جبال نفوسة، ويقودها مجلس عسكري مؤلف من 20 ضابطا من المنطقة، وهي تجمع عسكريين سابقين منشقين وثوارا. ولا شك أن مثل هذه التجربة تواجه صعوبات جمة. فأولا، يجب الأخذ بعين الاعتبار الحساسية البارزة لدى الليبيين في غرب البلاد من إعادة إدماج الضباط السابقين في الجيش الجديد. وثانيا، تطرح هذه التجربة مجموعة من الأسئلة حول الهرمية العسكرية والانضباط في الجسد الجديد، لكي يتم تجنب تكرار ما حدث في عامي 2012-2013، عندما كان كافة الفرقاء في الحكومة والمؤتمر الوطني العام يبنون شبكاتهم وقوتهم العسكرية الخاصة بهم من خلال السيطرة على مواقع مهمة مثل رئاسة الأركان العامة ووزارة الدفاع ووزارة الداخلية. ومع ذلك، فإن العمل على هذا السيناريو الذي يتضمن إنشاء قوة ثالثة قوية ولكن محايدة من أبناء البلاد أنفسهم والالتزام بتقديم الدعم اللازم لذلك يمكن أن يكون بالنسبة لشركاء ليبيا الدوليين الخيار الأفضل في الظروف الراهنة. ولا غرو أن التطورات الأخيرة في غرب ليبيا أظهرت كيف يمكن للحلول الوطنية التي تتضمن العمل مع فاعلين محليين يعتبرون محايدين ومؤثرين في آن معا هي خير من سواها لحل الأزمة السياسية والأمنية في ليبيا، على الأقل فيما خص غرب ليبيا. وعلى النقيض من ذلك، فإن الفكرة التي يعاد طرحها بين الفينة والفينة عن تدخل عسكري جديد يهدف إلى تأمين الوضع الأمني في طرابلس هي فكرة خطرة وصعبة التحقيق في آن واحد، بما أنه قد يستتبع هذا التدخل تدهور جديد في الأمن وزيادة في نشاط الجهاديين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق