العرب اللندنية: لا يجد سامر الشيخ، معلم اللغة السريانية، بُدّا من التمسّك ببارقة أمل وإن كانت ضئيلة في العودة مجددا إلى منزله، الذي تركه قسرا في مدينة الموصل، بينما يمضي حياته مستسلما لتفاصيل عمليات النزوح اليومية التي أجبر عليها هو والآلاف من المسحيين منذ أن دخل تنظيم الدولة الإسلامية مدينته. ظنّ سامر، في بداية الأمر، أن ما يجري وما حصل له وللموصل، مجرد انفلاتة أمنية عابرة، سرعان ما ستعود قوات الأمن العراقية لشطبها من شوارع المدينة ليتمكن من العودة إلى مدرسته وطلابه في منطقة الدواسة، تماما مثلما كان يحدث باستمرار منذ انهيار النظام العراقي في 2003، لكن الحال اختلفت هذه المرة، والانفلاتة الأمنية طالت، بل وتحوّلت إلى سيطرة ذلك التنظيم الدخيل على المدينة، مما أدّى إلى تهجير أهلها واستئصال جذورها وشواهد تاريخ جزئها المسيحي وحاضره؛ بينما تحوّلت كنائسها إلى حطام أو إلى محاكم شرعية أو سجون لمعارضي داعش بعد أن انتزعت منها الصلبان والرسوم والنقوش.
يسترجع سامر بحزن ذكرى سيطرة داعش على مدينته في العاشر من يونيو 2014، وكيف اشترط التنظيم على المسيحيين إما "اعتناق الإسلام" وإما "عهد الذمة"، أي دفع الجزية، و"إن أبوا ذلك فليس لهم إلا السيف" أو "ترك المدينة وما يملكونه". وازداد الوضع سوءا بعد ذلك، حين عاد داعش في شهر يوليو وأمهل المسيحيين بضع ساعات لمغادرة مدينتهم وإلا سيكون مصيرهم القتل، ما أجبر معظمهم على الفرار إلى كردستان العراق. يقول سامر، متحدّثا بلهجة موصلية نقية، عن مأساته، التي هي مأساة آلاف العراقيين من مختلف الديانات والطوائف “لم يكد يمر أسبوع على تركي للمنزل حتى أقدم عناصر من داعش على رسم حرف النون باللون الأحمر على جداره وباعوا أثاثنا وباقي مستلزمات المنزل في سوق الغنائم". وحدث هذا مع جميع منازل المسيحيين. هكذا، أصبحت نينوى، وللمرة الأولى منذ ألفي سنة خالية تماما من المسيحيين، ولم تعد تقرع فيها نواقيس الكنائس. وهو ما ذكره صراحة بطريرك الكلدان في العراق والعالم لويس ساكو بقوله "لأول مرة في تاريخ العراق الموصل فارغة الآن من المسيحيين".
مخطط قديم
لكن، كيف تمكّن تنظيم الدولة الإسلامية في عام واحد، من إفراغ الموصل من مكوّنها الرئيسي، المتجذّر فيها منذ ألفي عام؟ يجيب سامر على هذا التساؤل مؤكّدا أن عمر الاعتداءات على المسيحيين وأملاكهم، يمتدّ إلى ما قبل 10 يونيو 2014، إذ كان لتنظيم داعش ومنذ تشكيله في أكتوبر 2006 أذرع عبثت بالعقارات في نينوى ولاسيما التي تعود ملكيتها إلى مسيحيين مغتربين. يؤكد ذلك أحمد فتحي، محامي العقارات المتخصص، الذي بيّن أن نقل ملكية العقارات كان يتم بواسطة محكمة بداءة الموصل بسبب توقف نقل الملكية في دائرة التسجيل العقاري في الجانب الأيسر لمدينة الموصل حيث تقطن أغلبية الأقليات، وبينها المسيحيون. وهذا بعد أن قتل التنظيم مديرين متتالين لهـذه الدائرة مـع ثلاثة موظفين وهـدد بالقتـل البـاقين فـي حـال روجوا معـاملات نقـل الملكية. ولخص دعوى التمليك واصفا إياها بالصورية من خلال توجيه المشتري المفترض إنذارا إلى البائع على أساس أنه مجهول محل الإقامة ويتم نشر تبليغ بذلك بواسطة جريدة محلية، ومن ثم تنظر المحكمة في الدعوى بوجود طرف واحد فقط، ويصدر القرار غيابيا بحق الطرف الآخر، وهو غالبا ما يكون من عناصر تنظيم الدولة الإسلامية. وفي عام 2013 عاد التنظيم ليمنع بيع وشراء أي عقار تعود ملكيته إلى مسيحيين باعتباره من ضمن أملاك الدولة الإسلامية، وكانت تلك رسالة لم تفك الجهات الأمنية شفرتها بأن داعش كان يستعد للسيطرة على الموصل ومحيطها. وبعد احتلاله الموصل في العاشر من يونيو 2014 ألحق التنظيم عقارات المسيحيين بما يسمى "بيت المال" ووضع إشارة حرف "نون" على جدرانها، وهو الحرف الأول من كلمة "نصراني". كما أن أراضي تعود ملكيتها منذ القدم إلى عائلات مسيحية في منطقة حاوي كنيسة، على الضفة اليمنى لنهر دجلة في الموصل، تحوّلت خلال سنة واحدة من عمر خلافة داعش إلى مساكن عشوائية.
عدد المسيحيين المهجرين يتصاعد
منذ الغزو الأميركي للعراق أخذ عدد مسيحيي العراق يتناقص يوما بعد يوم، وبينما قدّر عددهم بحوالي 1.4 مليون عام 1987، لم يبق منهم اليوم سوى 400 ألف مسيحي منتشرين في بعض المحافظات، وأغلبهم نازحون من الموصل التي فقدت كل مكوّنها المسيحي. ويقدّر أنور متي هداية، رئيس الهيئة التنفيذية لحركة تجمع السريان وعضو مجلس محافظة نينوى، عدد المسيحيين الذين فرّوا من نينوى، في الفترة الأخيرة، بـ120 ألف مسيحي عراقي، تركوا كل شيء خلفهم ورحلوا إلى أماكن نزوح تؤويهـم داخل العراق وخارجه، بعد دخول داعش إلى مناطقهم. وبيّن هداية أن الكثير من المسيحيين اضطروا إلى النزوح مرتّين، النزوح الأول حدث في العاشر من يونيو 2014 إلى بلدات قرقوش وكرمليس وبرطلة وتلكيف بعد سيطرة داعش على مدينة الموصل، والنزوح الثاني حدث مع سكان تلك البلدات بعد اجتياحها من قبل داعش في السادس من أغسطس 2014 وقصدوا محافظات إقليم كردستان؛ أربيل والسليمانية ودهوك، وبعضهم سلك طريقه إلى خارج العراق. وحتى تستعيد الموصل مسيحييها، اشترط ممثل كوتا المسيحيين في مجلس محافظة نينوى توفير منطقة آمنة بضمانات دولية، والأهم من ذلك إصلاح القضاء العراقي وتخليص العملية السياسية من النفس والمحاصصة الطائفيتين. ولفت هداية إلى نقطة مهمة، وهي نتيجة ما يجري، التي لن تعود سلبا على المسيحيين فقط، بل على كلّ سكان الموصل، بمختلف طوائفهم وانتماءاتهم، وذلك لأن المسيحيين حضورهم كبير وفاعل في مختلف مجالات الحياة الثقافية والعلمية والاقتصادية والسياسية.
أمل في العودة
سامر مثل أفراد 1154 عائلة مسيحية نزحت من الموصل في يونيو 2014 لا يستطيع أن يصدق أبدا أنه فقد مدينته وأن عليه أن يفكر جديا في التأسيس في مكان آخر، فهؤلاء جميعا رفضوا لسنوات طويلة الالتحاق بقافلة الهجرة المسيحية الطويلة من الموصل بدءا من عام 2003، وقرروا التمسك بجذورهم الممتدة لألفي سنة وجاء داعش ليضع بالسيف حدا لذلك. يدرك سامر جيدا أن طريق عودته إلى الموصل ليست سالكة وأن صفحة الوجود المسيحي في هذه المدينة التي كانت لهم بالكامل ذات يوم تكاد تطوى إلى الأبد خصوصا بعد تراخي حكومة بغداد عن استعادتها واقتصار التدخل الدولي على قصف غير فعال وامتداد خط الهجرة للمسيحيين اليائسين ليبلغ منافي نهائية في أوروبا وأميركا وأستراليا. لكنه يبقي على خيط الأمل الرفيع بإدمان ملاحقة الأخبار وإشعال شموع كنسية وهو يدعو من صميم قلبه أن تقبض أسماعه مرة أخرى على دقات نواقيس موصلية وكل كنائس الموصل كما كان يحدث منذ ألفي سنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق