في قلب الأحداث
كان سيف الإسلام قبل اندلاع الأحداث في ليبيا، وفق الهوني، يريد أن يصلح من أجل أن يحكم، لأنه رأى أن البلد عصي على أن يُحكم بنظرية وممارسات الأب في طريقة الحكم وفي هيكلة المؤسسات، وكان يعلم أنّ ليبيا مقبلة على كارثة إن لم تنجح في الخروج من شرنقة ما وضعت فيه، كما كان واعيا بأنّ الخروج من الحصار الدولي يعدّ شيئا مهمّا، وقد تمكّن بمعيّة آخرين من الخروج من ذاك الوضع من خلال تسوية بعض القضايا مثل "ذا بيل" و"لوكربي" وأسلحة الدمار الشامل، ومن ثمّة بدأت المعركة الكبرى المتعلّقة بالتنمية. وقد حاول أن يضع خطة متكاملة للتنمية، وأن يستجلب الليبيين والأجانب من أجل مساعدته في هذا الاتجاه، إلاّ أنّه أخفق إخفاقا كبيرا. وقد تضافرت أسباب ذاك الإخفاق ومنها ما هو شخصي متعلق به أساسا، ومنها ما هو موضوعي يتعلق بعدم وجود المؤسسات التي يمكن من خلالها أن يتمّ التغيير أو تحدث النقلة أو التنمية، فأرجأ كل شيء إلى لحظة أخرى أفضل، لكنّ تلك اللحظة لم تأت بل أتت اللحظة الأسوأ، وحدث ما حدث.
أمّا خلال الانتفاضة، يقول الهوني، فقد اتفقنا أن يلقي سيف الإسلام خطابا متوازنا ومتصالحا، لكنّه تغيّر خلال 24 ساعة وألقى خطابا غير الذي اتفقنا عليه. أما بعد الانتفاضة، وحتى أثناء اندلاعها، فقد كان سيف مغيّبا عمّا يحدث، عن الأحداث وتفاصيلها، ومن غيّبه هما أخواه المعتصم وخميس، حيث أعطيا أوامر لقيادة القوات المسلحة بألا تعطي أيّ خبر له ولا تستقبل منه أيّ أوامر، حتّى أنه آخر من خرج من طرابلس لأنّه لم يعلم هول الكارثة وحجمها، فقد خرج بعد أن هرب القذافي الأب، ثم إنّ مجموعة من المكالمات الهاتفية التي تلقاها في تلك الفترة ما بين 15 و20 فبراير ألقت بظلالها على الخطوات التي قام بها، فقد كان من يتحدثون إليه من الخارج سواء كانوا من الأسرة القطرية أو الإسلاميين من جماعة الإخوان، الذين تحالف معهم في فترة سابقة، كلهم يخاطبونه بخطاب يعلمون مسبقا أنّه سوف يسجل ويتم التجسّس عليه ويعطى إلى الأب والآخرين المتنفذين، فأصبح في موقف ضعيف، فكان لا بد له أن يتخذ موقفا بالخروج من طرابلس. وبعد خروجه من طرابلس أضحى رجلا مطاردا، بعد أن فقد أخاه الأول في شهر أبريل، ثم الثاني وابن خالته المقرّب منه وغيرهم من الناس، وحينها أضحى يبدو عليه أنّه استفاق من الحلم وبدأ يوقن بأنّ القلعة ما عادت محصّنة وأنّ الأب لا يستطيع أن يخرج من كمّه أيّ نوع من السحر يوقظه من هذا الكابوس ويستمر في حياته العادية، وهنا كان إحساسه ببداية النهاية. وشدد الهوني على أنّ سيف الإسلام لم يلجأ إلى القتال ولم يدخل فيه فهو لم يكن رجلا عسكريا، لافتا “إلى أنّ سلوكه ذلك يعد من بين أسباب وجوده واعتقاله اليوم في ليبيا وكذلك تعطّل محاكمته لأنّ الذين اعتقلوه لا يستطيعون أن يحاكموه، لأنه ليس لديه ما يحاكم عليه”.
ضبابية المشهد الحالي
لطالما شدد الهوني على وصف "الثورة" الليبية بـ"الحرب الأهلية"، لافتا إلى أنّها "حرب أهلية وإن بدأت في شكل انتفاضة، لأنّ فكرة الثورة دقيقة، لا يمكن أن تحدث إلا من خلال مجموعة منظمة، وليست عسكرية بالأساس، تؤمن بأيديولوجيا تستطيع أن تسقط البنية الفوقية للمجتمع وأن تبدأ في تحقيق برنامج الثورة، وفي ليبيا لم يحدث ذلك". في ليبيا خرج شباب غاضب نتيجة البطالة والفساد وغياب رؤية مستقبلية لحياته، خرجوا كلهم غاضبين من أجل أن يقولوا "لا" والذي حدث أنّ النظام استعمل القوة ضدّهم، وجاء سيف ـ الذي كان ينتظر منه الثوار أن يقول كلاما آخر ـ فقال كلاما فيه الكثير من التحدي، فقبلوا التحدي وبدأ تصاعد الأحداث، فتدخل الأجنبي (حلف الناتو) وأراد أن يصفي حساب اثنين وأربعين عاما مع القذافي. فقد جاء بدعوى حماية المدنيين وأسقط النظام، ثمّ عاد أدراجه تاركا الليبيين دون دولة أو جيش أو أمن أو مؤسسات. ورأى أنّ الانهيار الذي تشهده ليبيا اليوم، عائد إلى أنّ القذافي طوال فترة حكمه كان يخرّب المؤسسات وينشئ مؤسسات بديلة يستعملها كأداة للحكم وليس كمؤسسات للدولة، فكانت النتيجة أن وجدت في ليبيا "دويلة" داخل النظام وليس نظام داخل الدولة، وعندما سقط النظام سقطت الدولة، على عكس ما حصل في كلّ من تونس ومصر، حيث كان هناك نظام داخل الدولة وعندما سقط النظام بقيت الدولة قائمة.
ولدى رسمه للمشهد الليبي الحالي، يقول"الثابت أنه لا توجد خريطة للفوضى، لذا سأحاول أن أوصّف ما يمكن؛ الذي حدث في ليبيا بعد سقوط النظام وتخلي الدول التي ساعدت في إسقاطه وتركهم الليبيين دون دولة، خلق حالة من الفراغ، وعدم وجود الدولة ملأته الميليشيات. فقد كان عدد المقاتلين بما فيهم المساعدين اللوجستيين لا يزيد عن 25 ألفا في كلّ ليبيا، سواء الذين قاتلوا مع القذافي أو الذين كانوا ضده، وعندما سقط النظام تكونت ميليشيات جديدة انضمت لها عناصر من الميليشيات الأولى، ثم تكونت ميليشيات العصابات الإجرامية ومهربي المخدرات الذين خرجوا من السجون، من ثمّة تشكلت الميليشيات الأيديولوجية شأن الإخوان المسلمين ومن تبعهم والقاعدة وأنصار الشريعة. وعندها أحسّت القبائل بالخطر فتسلّحت، ووصلنا الآن إلى حوالي 300 ألف مسلح في شعب كله لا يتجاوز 6 مليون نسمة بنسائه وأطفاله، وعندما رأى الشباب أنّ من يملك السلاح يستطيع أن يأخذ من خزينة الدولة الأموال، انخرط كثير منهم في هذه الميليشيات، فخرج الوضع عن السيطرة حينها، وأصبح من غير المعلوم من يقاتل من؟ ولماذا يقاتلون أو لماذا يتقاتلون وما هي الأهداف والغايات، وما هي المنطلقات؟ فقد أصبح الكل يقاتل الكل، وأصبح الجميع يتنافس على تخريب البنى التحتية ومقدرات البلد، ويعتبر ذلك بطولة، كما يتنافسون في تقتيل بعضهم البعض، وفي حرق مزارعهم ومؤسساتهم، وقد عمت نتاجا لذلك حالة من الفوضى الكبرى"
وأضاف الهوني أنّ الإشكالية تكمن في أنّ القذافي لم ينفق الكثير من الأموال على مجالات التنمية، وعندما رحل كانت هناك أموال تقدر بـ 200 مليار دولار، استغلها هؤلاء ليوزّعوها فيما بينهم، فكان أيّ شخص له ميليشيا مكونة من مئة شخص يأتي ويقول عندي عشرة آلاف أو خمسة آلاف، ويحصل على رواتبهم، فأصبحوا يستنزفون الأموال العامّة، وكانت تلك الحكومات الهزيلة التي أتت بعد الفوضى، تخاف من الميليشيات فلا تستطيع أن تقول لا، فاستنزفوا كل ثروة البلد. وأضحت الإشكالية الكبرى الآن تتمثّل في أنّ الشعب الليبي خلال الأشهر القادمة لن يجد ما يأكل، لا نقود ولا دواء ولا كهرباء. وقد أصبح البلد مقدما على الإفلاس وفق كلام محافظ البنك المركزي الليبي.
فرصة داعش الكبرى
هذه الأوضاع التي تسودها الفوضى، تعدّ فرصة سانحة، وفق الهوني، لتغلغل التنظيمات المتشددة وزيادة نفوذها، شأن داعش، ولذلك فمن المتوقع أن يجتاح التنظيم ليبيا مثلما حدث في العراق. ويبدو أنّ جلّ عوامل النجاح متوفرة له للقيام بهذا الأمر، ولذلك تشعر كلّ من مصر والجزائر وتونس بالخطر الداهم. ولا يستبعد الهوني أن ينضمّ الشباب، الذي تعود أن يأخذ أموالا من خزينة الدولة، إلى صفوف داعش عندما يجد أنها استولت على النفط، فليس كل من يقاتل مع داعش اليوم في العراق وسوريا هو إسلامي متشدد، بل إنّ أكثر من يقاتل اليوم مع داعش في العراق، مثلا، هم ممن تمّ تهميشهم مثل جيش صدام حسين وعناصر مخابراته وشرطته، الذين أبعدوا وفقدوا امتيازاتهم ورواتبهم، وذاك ما قوّى شوكة داعش في العراق، وهو كذلك ما يمكن أن يتكرّر في ليبيا". وقد دخل تنظيم داعش ليبيا من باب عدم وجود الدولة، وأصبح يتوسع إلى جانب أنصار الشريعة والقاعدة، وبالنهاية سيكون هناك تكتل واحد بين هؤلاء المتشددين، قادر على اجتياح ليبيا خلال 6 أو 7 أشهر قادمة. وحول نسبة الليبيين الذين يقاتلون مع التنظيمات المتشددة، قال الهوني "أولا في ليبيا توجد أغلبية صامتة لا حول لها ولا قوة، تخرج من بيوتها بسلاح واحد هو بطاقة الاقتراع عندما يسمح لها بأن تقترع، ثم ترجع، وهؤلاء هم الذين يعانون ويتضرّرون، أمّا الشباب العاطل الذي يعاني الفقر، فقد تمّ تجنيده للقتال، وهؤلاء الشباب ليسوا على أيديولوجيا معينة وإنما هم بندقية للإيجار، يقاتلون مع من يدفع لهم سواء كان داعش أو القاعدة أو أنصار الشريعة". وخلص إلى أنّ طوق النجاة اليوم يكمن في تشكيل حكومة وحدة وطنية مدعومة من العالم كله، ومدعومة بقوة عسكرية من الأمم المتحدة على الأرض، حتى تستطيع أن تحاور المسلحين وتنزع سلاحهم وتبدأ في إنشاء الجيش الوطني وأجهزة الدولة من الصفر، ويبدأ الليبيون من جديد كما بدؤوا سنة 1951، وإذا لم يحدث ذلك فليبيا ستظل في مهبّ المطامح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق