أجد لنفسي ألف عذر وعذر في كرهي واشمئزازي
من كلمة ثورة ومشتقاتها، وذلك لأنني حُقنت مكرها بهذه الكلمة الخشنة على مدى عمر
ثورة الفاتح "أبدا" وجماهيريتها العظمى التي عمَّرت أزيد من أربعة عقود.
فقط الذين قضوا سني شبابهم وكهولتهم
وشيخوختهم مجبرين على معايشة نظام حكم ادعى الثورة وأدمنها، واتخذ من العبث المفرط
في كل شيء طريقة تفكير ومنهج حياة ونظام حكم؛ هؤلاء فقط هم من يسهل عليَّ إقناعهم
بموقفي من كلمة ثورة.
على رأس كل جبل من الجبال الكثيرة للعبث
المفرط التي تشكلت منها جماهيريتنا العظمى السابقة تنتصب كلمة ثورة بما تمتلئ به
هذه الكلمة وتفيض من صنوف غلظة وجفاء وخشونة وعربدة، و"عوج"، وهو
الأهم!
كانت كلمة ثورة، وها هي عادت، تبرر القتل
والسجن والتعذيب وسرقة الأموال وهدرها، وكل ما هو مناف لدين ومجاف لخلق.
عندما كنا طلابا، وبعد التحاقنا بوظائفنا، وحتى في الحي الذي نقيم فيه، كان مجرد علمنا بشخص من زملائنا أو جيراننا أن له من كلمة ثورة نصيب، يصيبنا ذلك بحالة من الخوف والاضطراب، وتوقع كل سوء من جانب هذا الشخص، ويصير ذلك الشخص كابوس ليلنا ونهارنا.
من سوء حظ كلمة ثورة في عالمنا العربي أن
معظم أجنتها تشكلت في معسكرات الجيش ودهاليز مقار المخابرات، وضمت غرف البيان
الأول في الإذاعات مسقط رأسها، ثم ترعرعت بين أيدي وتحت وصاية مراكز القوة
من جنرالات وثورجيين، وغيرهم.
في ردة فعلنا الأولى على نجاح انتفاضتنا على
النظام السابق وجد الكثير من الذين تذوقوا بعمق ومرارة كلمة ثورة غضاضة
وحرجا كبيرين، وهم يستعيرون مكرهين هذه الكلمة، والتي لم يترك فيها النظام السابق
موقع إصبع من ذكريات سعيدة وأفعال مجيدة يمكن استعارتها وبسطها على ما أطلقنا عليه
مجبرين اسم ثورة.
يبدو أن النحس لم يشأ مغادرة كلمة ثورة
الليبية هذه، وذلك حتى بعد مرورها بأعقد عمليات التطهير والتعقيم من أدرانها
الأولى التي عرفناها بها، وكذا تغير الأوضاع السياسية بواقع 180 درجة عما كانت
عليه.
ما من أحد منا ساءه أو أزعجه مظهر وسحنة
ثوارنا الأوائل الذين شاءت الأقدار أن تكون أول معرفتهم بالثورة ضد الظلم
والاستبداد والفساد لا في قاعات المناظرة ومؤتمرات الحوار المتحضر البناء،
بل في جبهات القتال والبارود والدم، وما فرضته هذه البيئة الخشنة على ملامح وكلام
وأفعال الثائرين من غلظة وشدة وجفاء، ومن ملازمتهم طقوس الحرب والتزي بزيها وترديد
أهازيجها.
بيد أن إصرار بعض المتشعبطين بقطار الثورة
على جعل البلاد، التي نستعجل تحولها إلى دبي شمال أفريقيا وربما أفضل، إلى بلاد
تصبح على كلمة ثورة وتمسي عليها، وتنام على الانفجارات وتصبح على غلق الطرقات وحمل
الجنازات، فهو أمر لا يمت بأي صلة ولا تربطه أي وشيجة بما كنا نتمناه ونحلم به،
وتمناه وحلم به ومات عليه الثوار الحقيقيون الشهداء الشرفاء.
إن الحوادث الكثيرة المؤسفة التي باتت
ملازمة لنا؛ من خطف، وسرقة بالإكراه، واقتحامات، وغلق للطرقات، وغير ذلك كثير،
إنما تتم كلها من قبل شباب وأحيانا صبيان يحملون السلاح ويركبون سيارات كتائب
الثوار ويعلقون شعاراتهم، بل إن مجموعة منهم استعارت مؤخرا دبابة من كتيبة بالجوار
وسدت بها الطريق، وذلك من أجل التعبير" الثوري الديمقراطي" على حادثة
ما!
وحتى مع الأخذ في الاعتبار وجود بعض الكتائب
التي تأسست ضرارا، وتعمل بعيدا عن الغالبية الصالحة من الكتائب، إلا أن ذلك يعاظم
ولا يقلل من مسئولية كتائب الثوار المعروفة، والتي ينتسب إليها السواد الأعظم من
الشباب الحاملين للسلاح الأن، والذين لهم ملفات إدارية تثبت تبعيتهم لكتيبتهم،
وكذا وجود ملف مالي يتقاضى به منتسبو هذه الكتائب أجرا شهريا منتظما معلوما.
إن القلة من المحسوبين على الثوار الذين
يتاجرون بالمخدرات ويسرقون ويغلقون الطرقات ويخرقون القانون، وهم يرتدون بزة كتائب
الثوار ويركبون السيارات الحاملة لشعارات هذه الكتائب، إن هم إلا أجسام طفيلية
فتاكة تعبث بكيان الثورة والثوار الحقيقيين وتشوه سمعتهم.
نحن نعذر الحكومة ونقدر ظرفها، وذلك لأنها
غير مسئولة على شيء لا تقدر عليه، ولكن الكتائب المعروفة التي تملك السلاح وتملك
الرجال الذين ربما يكون بعضهم من طائفة حاميها حراميها، هم من نحملهم المسئولية
الكاملة على ما يجري من قبل سفهاء "الثوار" وأشرارهم.
على كل كتيبة معروفة أن تقوم بتحديد مكان
عملها ومجال سيطرتها، وكذا تحديد ما لديها من قوة بشرية لاستخدامها في تأدية دورها
في بسط الأمن وتنظيم وتيسير حياة المواطنين، وتتحمل المسئولية عن كل مظهر غير
مسئول يقوم به من يدعون الانتساب للثورة.
ما دام هذا الوضع الاستثنائي للحكومة قائما،
وما دام ما يعرف بكتائب الثوار هم المتواجدون في الشارع، فإن الواجب يحتم على هذه
الكتائب قيامها بتنظيم نفسها وتطهير كوادرها من كل شخص منافق يوجد في صفوفها، ثم
وبالتنسيق مع وزارة الداخلية ترسم هذه الكتيبة لنشاطها مربعا أمنيا تنشر قوتها
عليه زمنيا ومكانيا.
لا بأس من أن تقوم كل كتيبة بتطعيم أذرعها
الرادعة بأصابع اجتماعية من كبار وشيوخ المنطقة المتواجدة بها هذه الكتيبة، وذلك
لما لهؤلاء من دور في إطفاء الكثير من حرائق الشارع قبل الاضطرار إلى إطفاء النار
بالنار.
وحتما ستؤدي هذه الإجراءات إلى ردات فعل
متباينة من جانب المحسوبين على الثوار، إلا أن هذه الإجراءات ستعمل على تقليل قوة
العناصر المنحرفة، إما بخضوعها للشرع والقانون وانضوائها تحت مظلة الدولة، وهو
الذي نريد، أو بتشتتها وتشرذمها وتلاشيها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق