العرب اللندنية: طرح انهيار الجيش العراقي في أول اختبار حقيقي لأدائه أمام هجوم تنظيم "الدولة الإسلامية" على عدد من المدن العراقية الكبرى، العديد من الأسئلة المحيرة التي رافقها جدل محتدم حول أسباب هذا التقهقر السريع والدوافع التي أدت إليه، والتي يعيدها البعض إلى حالة التفكك التي تعيشها هياكل الجيش منذ وقع حله غداة الغزو الأميركي، والفساد الذي ينخره والولاءات الطائفية التي تشقه جراء السياسات التي اتّبعها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وهو ما يرفع من سقف التّحديات التي يواجهها رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي الذي يبدو مصرا على إتمام عملية إصلاح هذه المؤسسة رغم كثرة المعوقات، وفق دراسة للباحثة مريم بن رعد صادرة عن مبادرة الإصلاح العربي.
في خضم صيف سياسي وأمني ساخن مرّ على العراق، وافق رئيس الوزراء حيدر العبادي على إجراء محاكمة عسكرية ضدّ عدد من قادة الجيش الذين تخلّوا عن مناصبهم فاسحين المجال أمام تنظيم "الدولة الإسلامية" للسيطرة على مدينة الرمادي. وعلى خلفية القتال العنيف الذي تشهده العديد من المدن العراقية، تزداد ديناميّات الصراع هناك تعقيدا، ويصبح القلق واضحا في الغرب بشأن أفضل استراتيجية ممكنة لمتابعة المجريات على الأرض وتجنّب الوقوع في أخطاء تُكرر السّقطات الأمنية التي حصلت.
وفي خضم حالة الذهول التي نتجت عن سقوط مدن عراقية بأكملها في يد التنظيم المتشدد دون مقاومة تذكر، يأتي قرار العبادي هذا كتذكير بالاختلال العميق والجذري الذي ينهش جسم الجيش العراقي، الذي لا يزال يشهد حالة من الاضطراب منذ بدء الهجوم الجهادي قبل عام من الآن. ولا شكّ أنّ انهيار مدينة الرمادي قد مثّل التطور الأكثر أهمية على مدى الأشهر الأخيرة، حيث رافقته موجة من المظاهرات والاحتجاجات الشعبية التي تتهم الحكومة المركزية بالفشل في حماية المدنيين وتندد بالعديد من المظالم الأخرى المسلطة على العراقيين جراء تفشي الفساد في مؤسسات الدولة.
وفي ظل هذه الموجة من الاحتجاجات عادت مسألة ضعف الجيش العراقي وفساد هياكله لتطفو على السطح، على الرغم من أنها قضية قديمة متجددة، بدأت مع الغزو الأميركي للبلاد ولم تنته ولم تحلّ بانتهائه. وبالفعل، فقد كان فرار القوات النظامية، إلى جانب السخط على التجاوزات الحاصلة في هياكل الجيش والاتجاهات المريبة التي تسعى إلى تسييسه وإلباسه جلبابا طائفيا ينزع عنه صفة الوطنية، من أبرز العوامل التي سهّلت التّنامي المذهل لتنظيم “الدولة الإسلامية” وأسهمت في فتح الطريق أمامه ليسيطر على قطاع شاسع من الأراضي العراقية.
ونظرا للمسؤولية الملقاة على عاتقه في ما يتعلق بفهم أسباب هذه الإخلالات واستنباط الحلول الجذرية لمعالجتها، أقدم العبادي على خطوته هذه لغاية إتمام المساءلة حول مدى قدرة السلطات العراقية على مكافحة هذا التهديد الوجودي، وفهم مُركّبات الفشل الذي حصل، وبالتالي تحديد المسؤوليات في ما آلت إليه الأوضاع، خاصة أنه أضحى من الجلي أنّ هذه الوضعية الحالية ليست سوى نتيجة لسياسات رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وللدور الذي لعبه خلال السنوات الثماني التي قضاها في منصبه.
دوافع الانهيار
في الوقت الذي يحتاج فيه العراق إلى مؤسسة عسكرية قوية تحمي وحدة ترابه وترسخ سيادته على أراضيه، يبدو الجيش العراقي منهكا وغير قادر على الاضطلاع بدوره بشكل ناجع. وعلى الرغم من أنّ أفراد الجيش العراقي كانوا قد تلقوا تدريبات عسكرية مكثفة على أيدي مستشارين عسكريين ومدربين أميركيين لمدة عشر سنوات، إلى جانب تزويدهم بالسلاح والعتاد الحربي من جانب الولايات المتحدة، إلاّ أنّ أداء هذه القوات العراقية لم يكن قدر التطلعات. وتبرز خيبة الأمل الأميركية من أداء هذه القوات من خلال تصريح لوزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر، في مايو 2015، عبّر فيه عن استياء بلده من شركائه العراقيين، وأفاد بـ"أنّ الجنود العراقيين لم يبدوا أي إرادة حقيقية لمحاربة العدو في الرمادي أو في أماكن أخرى".
وكانت هذه الملاحظة الدقيقة والجريئة من الناحية السياسية، بمثابة أول اعتراف لمسؤول أميركي رفيع المستوى بالفشل في إعادة هيكلة جيش عراقي قوي، بعد 12 عاما من سقوط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين. وبوضع هذا التصريح في سياقه التاريخي، بات من الواضح، بما لا يدع مجالا للشّك، أنّ القرار الذي اتّخذته إدارة بوش بحل الجيش العراقي عام 2003، ساهم بشكل كبير في تفكّك الدولة العراقية مما أفضى مؤخرا إلى تنامي قوة "الدولة الإسلامية".
وفي مواجهة التحديات الناتجة عن الهجومات التي شنها تنظيم "الدولة الإسلامية"، يظل الجيش العراقي يشكو من عجز حاد في المعدات والتدريب والقيادة، وحتى على مستوى الكفاءات المطلوبة لخوض مثل هذه المعارك، والمعدات التي تضمن تنسيق العمليات على نحو سلس. والأسوأ من ذلك، تفتقر القوات المسلّحة العراقية بشكل واضح إلى الطاقة المعنوية والروح القتالية اللاّزمة بعد أشهر من النّكسات التي منيت بها في مواجهة تنظيم إرهابي منضبط.
وقد أجبر هذا الإنهاك سواء البدني أو المعنوي الذي انجر الجهاز العسكري والأمني العراقي على طلب دعم من عناصر مقاتلة أخرى غير نظامية، من المتحاربين غير الرسميين وأبرزهم البيشمركة الكردية والميليشيات الشيعية. لكن هذه القاعدة ليست معمّمة على الجميع، فعلى الرغم من أنّ القبائل السنية كثيرا ما طالبت بتوفير غطاء جوي وتسليح أبنائها لمساعدة القوات الحكومية على دحر تنظيم داعش، إلاّ أن طلبها ذاك جوبه بالتجاهل من قبل حكومة بغداد والائتلاف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة على حدّ سواء.
وجراء الالتجاء إلى هذه الجماعات المقاتلة غير النظامية، تأثرت وحدات الجيش ونخب الأمن الحكومية بالانقسامات الداخلية الكبرى التي تشقها بشأن أساليب العمل، وهو ما يتناقض مع الوحدة النسبية التي تتميز بها كل من البيشمركة والميليشيات الشيعية. وتسود حالة من عدم الثقة المتبادلة على نطاق واسع في صفوف الجيش العراقي بسبب الانتماءات الطائفية والولاء إلى أحزاب متصارعة.
ضرورة الإصلاح
لدى توليه مقاليد الحكم في أواخر عام 2014، كان العبادي ملتزما بتنفيذ إصلاحات كبرى في صفوف الجيش. وقد أعاد التأكيد على هذا الالتزام في أغسطس الماضي، عندما تمّ إطلاق حملة تهدف إلى أن تكون حاسمة في المعركة ضد تنظيم "الدولة الإسلامية". وحظي رئيس الوزراء العراقي بتجديد الدعم الأميركي، وهو ما يعني إعادة بناء جيش وطني قوي واحتواء الفوضى. وبالتوازي مع ذلك فقد حظي بدعم آية الله العظمى علي السيستاني، والذي يعتبر ضمانا للشرعية والسّلطة في العراق وصدا أمام أي تشويش يمكن أن يعمد إليه نوري المالكي بالتعويل على المرجعيات الإيرانية التي لها تأثير على شيعة بلاده. وقد كانت عبارات التضامن هذه حاسمة ورفعت من معنويات العبادي غير أنه مازال في حاجة إلى وجود قوات قوية حوله.
ويعتبر التحسن السريع في الأداء الأمني ضروريا في وقت ينبئ بقيام ثورة شعبية، خاصة وأن العراقيين قد سئموا الأوضاع المزرية التي يعيشونها وخرجوا مطالبين بوضع حد للفساد والامتيازات السياسية، ونظام المحسوبية والطائفية التي تمت وراثة معظمها من عهد المالكي. ونظرا إلى أنّ العديد من اللاعبين في الساحة العراقية يعارضون التغيير، بدءا من قادة الميليشيات الشيعية التي يودّ العبادي إدماجها في صفوف الحرس الوطني وإخضاعها لسيطرة الحكومة، لا مناص من أن يستعيد الجيش العراقي الموحد قوته ودوره ويخدم غرض المصالحة على المدى الطويل، ليحول دون أي محاولات اختراق محتملة، خاصة أن إدماج ميليشيات مرتبطة بولاءات خارجية، وتحديدا لإيران، من شأن تداعياته المستقبلية أن تكون وخيمة وغير محمودة العواقب.
وتفيد الإحصائيات الصادرة عن الجهات الرسمية العراقية، اليوم، بأنّ العراق لديه حوالي 271.500 عنصر تابع للقوات المسلحة، بين قوات الأمن العادية والقوات الخاصة. وحاليا، رغم محاولات إعادة التنظيم الداخلي لصفوف الجيش العراقي والعديد من حالات الطرد التي تمت على أعلى مستوى، لا يزال الكثير من الضباط والجنود في عداد المفقودين، بعد أن غادر بعضهم البلاد جراء خيبة أملهم في حكومة بغداد التي فشلت في دعمهم.
خلاصة القول، في ظلّ غياب خطة ثابتة وواضحة المعالم والأهداف، من المرجح أن تستمر قوات الجيش والأمن العراقيين في توفير مقاومة تبعث على السخرية لدى الجهاديين المدججين بالسلاح والعتاد المتطور والمدربين تدريبا عاليا الذين يقودون حرب استنزاف على الدولة العراقية تستعصي على التكتيكات التقليدية. ولذلك فليس من حلّ أمام أصحاب القرار في العراق سوى المضي في إصلاح المؤسسة العسكرية وليس من خيار أمام الجيش سوى إعادة بلورة نفسه، خاصة أنّ ذلك سيكون له تأثير جوهري يتجاوز المستوى العسكري؛ حيث أنه سوف يؤثر أيضا على بقاء العراق، من عدمه، ضمن حدوده المعروفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق