وكالات: قتل الصراع الدائرة في العراق مختلف مظاهر الحياة والأمل؛ ولم يعد مسيطرا سوى ثقافة الحرب والموت، التي أصبحت حاضرة حتى في أفراح العراقيين ومناسباتهم السعيدة؛ فلم يعد يخلو حفل من أغان تتضمن مصطلحات عن الموت والقتل، على غرار أغنية "يا ستار". يقول الصحفي العراقي إبراهيم صالح إن هذه الأغنية أصبحت مطلوبة في كل الحفلات والمناسبات، التي تحمل صفة "السعيدة"، رغم سلبية دلالة "يا ستار"، التي تعني في مفهومها العام "يا رب نسألك الستر"، ولم يكن يستعملها العراقيون، من قبل، إلاّ في أوقات الشدّة والخوف. ولأن الفنون هي المرآة التي تعكس حال الشعوب؛ فإن الإقبال على هذه الأغنية ومثيلاتها، في العراق، صاحب إحدى أهم المدونات الغنائية في العالم العربي، والتي يغلب عليها طابع الفرح والحب والحياة، دليل على أن أوقات الشدّة والخوف أصبحت اليوم هي الغالبة على حياة العراقيين.
تتحدث الأغنية عن دخول العراق في حالة إنذار بسبب الحرب ضد داعش؛ وهي تحاول رفع الحماس والهمّة لدى أبناء الشعب من خلال القول إن زيارة المقابر باتت نزهة لدى العراقي وإن المقاتل العراقي دائما ما يشبّه بالموت من قبل أعدائه وغيرها من معان. يرصد إبراهيم صالح أغان أخرى، في هذا السياق، بعضها يتحدّث عن أن ساعة الصفر باتت قريبة جدا وأخرى عن أن العراقي بات يأخذ صورا مع الموت ويرحب به، وغير ذلك كثير من الأغاني، التي من غير المعقول أن يستمع إليها الحاضرون في حفل عرس. لكن يبدو أن ثقافة الموت أصبحت واقعا تكيّف معه العراقيين، لدرجة أنه أصبح عاديا أن تستمع العروسة في ليلة زفافها لأغنية "هلا بالموت".
ومن الأسباب التي طرحها إبراهيم صالح، في تفسيره لهذه الظاهرة أن القائمين على كتابة الكلمات وتلحينها وتوزيعها موسيقيا عمدوا إلى جعلها مناسبة للذوق العام. فأغنية "يا ساتر" مثلا تم تأليفها لدعم القوات الأمنية والحشد الشعبي في الحرب ضد تنظيم داعش لا لأسباب أخرى، فتم اختيار ألحان لها تناسب كل فئات الشعب العراقي لتتسع دائرة الدعم المرجوّ. إلا أن هذه الأغنيات خرجت عن كون غرضها حماسي لشحذ الهمم إلى أغنيات شعبية يتغنى بها العراقيون في كل حفل وفي كل مناسبة بل إنهم يستمعون إليها في أغلب الأوقات.
ظاهرة تشغيل الأغاني الحماسية في الحفلات، بدأت في الحفلات التي يقيمها عناصر القوات الأمنية والحشد الشعبي لمناسباتهم إلا أنها اتسعت لتشمل جميع الفئات الأخرى فلا تجد حفلا اليوم يخلو منها؛ فـ"وجود هذه الأغاني ضروري في الحفل لأن الرقص يكون أحلى معها” مثلما يقول محمد محمود. ويضيف "دائما أتعمد الذهاب إلى حفلات العرس مع الأصدقاء والأقارب والمعارف ولا نجد فسحة للرقص بحرية أكثر من التي توفرها لنا هذه الأغاني". أما منظمو الحفلات فوجدوا أنفسهم مضطرين أو منصاعين لهذا التطور الطبيعي في حاجة الحفلات التي ينظموها لأغنيات مماثلة.
ويقول أحمد البدري، منسق موسيقي في إحدى قاعات استضافة الحفلات "بصراحة لا أحد يطلب منا أن نشغل هذه الأغنية أو تلك لكن هذه الأغاني باتت تقليدا وموضة في كل حفل نحييه هنا في هذه القاعة". ويضيف أحمد المعروف بـ"أحمد دي جي" أن "هذه الأغاني بألحانها الراقصة وبكلماتها الشعبية السلسة تخلق جوا أكثر صخبا وبهجة وتجعل الجميع يندمج مع جو الحفل". الألحان الراقصة التي يتحدث عنها أحمد جعلت هذه الأغاني تخرج من إطار شهرتها في العراق إلى خارج حدوده لتصل أوروبا وأميركا سواء مع المهاجرين أو أفراد الجاليات العراقية هناك. فمواقع التواصل الاجتماعي تضج بمقاطع فيديو تظهر فتيات من بلجيكا مثلا أو من السويد أو الولايات المتحدة وهن يرقصن فرحات بالموسيقى الغريبة عن ثقافتهم من دون معرفة حتى معاني الكلمات التي تحملها.
“في الخارج يعرفون الموسيقى العراقية من ألحان كاظم الساهر مثلا فما الضير إن عرفوها من هذه الأغنيات أيضا؟" يتساءل أكرم العتابي وهو شاعر مغترب. ويضيف العتابي "بغض النظر عن المقارنة فإن أيّ أغنية تخرج إلى نطاق أوسع وتلقى شهرة لها خارج المكان الذي ولدت فيه تحمل معها رسالة لجمهور جديد بالتعرف على الثقافة التي أنتجت هذه الأغنية وهذا الأمر يخدم الهدف من الأغنية أيضا إن كانت حماسية". إذن يمكن القول إن الألحان المميزة لهذه الأغاني ساعدت في انتشارها بسرعة كبيرة جدا كما يمكن القول إن البحث عن الانتشار جعل القائمين عليها يبحثون عن هذه الألحان فيها وفي كلتا الحالتين تحقق المطلوب. لكن ثمة من يؤشر بعض الملاحظات الفنية على هذه الأغنيات رغم اقتناعه بأنها ناجحة على المستوى الفني نفسه.
"من الناحية الفنية هنالك الكثير من الانتقادات التي توجه لهذه الأغاني من حيث فقدانها لمقومات النجاح الأساسية الثلاث وهي الكلمة واللحن وصوت المؤدي فأكثرها من الناحية الفنية لا تتمتع بهذه المقومات لتكون أغنية متكاملة فنيا لكنها انتشرت لكون الذوق العام يسمح لها أن تكون حاضرة وبقوة أيضا” يقول الناقد الفني عباس فاضل. ويضيف "أيّ نجاح لأغنية كهذه يؤكد أن هذه العناصر الثلاثة لم تعد دستورا لنجاح أيّ أغنية وأن الذوق العام تغير كثيرا وهذا لا يعني أنه في تراجع بقدر ما يعني أن هنالك حاجة لدى المستمع العراقي في أن يتذوق هذا النوع من الألحان للرقص والفرح من دون الاكتراث بمعناها أو عناصرها الفنية". العراقيون دائما ما كانوا يستمعون الى أغنيات وطنية وحماسية في مناسباتهم الخاصة نظرا للظروف التي مر بها العراق على مدى سنوات لكن هذا الأمر كان محدودا جدا أما اليوم فدائرة انتشار الأغنيات الحماسية والوطنية في المناسبات بدأت تتسع لتكون هذه الأغنيات في أعلى قائمة كل حفل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق