ويعود هذا الحوار الاستراتيجي بين القاهرة وواشنطن بعد انقطاع نحو ست سنوات وسط بيئة إقليمية مختلفة جداً، ففي السنوات الست الأخيرة انهارت عدة دول، واستولى تنظيم داعش على مساحات واسعة من سوريا والعراق، وأشعل نفوذ إيران وهيمنتها سلسلة من الصراعات الطائفية في جميع أنحاء المنطقة. وبحسب مراقبين، فإن هذه التطورات أثرت كثيراً على مصر، التي شهدت تغيرات متعددة في النظام، إذ نشرت قواتها البحرية لحماية مضيق باب المندب من الحوثيين في اليمن التي تدعمهم إيران، واضطرت إلى مواجهة المتشددين المنتمين إلى تنظيم داعش إلى الغرب في ليبيا، والشرق في سيناء. وتسببت هذه التطورات في حدوث التباسات كبيرة في العلاقة الثنائية، فمن جهة، يتشارك البلدان الكثير من الأهداف الاستراتيجية، إذ إن واشنطن والقاهرة تقفان جنباً إلى جنب في محاربة تنظيم داعش، ومواجهة التوسع الإيراني، وتعزيز الاستقرار السياسي حيثما أمكن. ولكن من جهة أخرى، اختلف البلدان كثيراً حول ضرورة الإصلاح السياسي في مصر.
وفي هذا السياق، وبعد إدانة مصر لـ 17 موظفاً أمريكياً يعملون في منظمات غير حكومية داعمة للديمقراطية في حزيران/يونيو 2013، وما أعقبها من أعمال وصفتها واشنطن بـ “القمعية” مارستها حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي، تراجع حماس واشنطن للحفاظ على العلاقة مع مصر وبرز عداء كبير تجاه مصر في بعض الأوساط. وعلى نفس المنوال، رفضت مصر دعوات واشنطن المتكررة لإقامة حكم يستوعب أكثر التيارات السياسية، معتبرة ذلك وصفة لتمكين جماعة “الإخوان المسلمين”، التي تعتبرها الحكومة المصرية منظمة إرهابية. وقد أرخت هذه الخلافات في بعض الأحيان بظلالها على المصالح الإقليمية المشتركة بين البلدين، خصوصاً مع نشوب الأزمة الأشد بينهما بعد تشرين الأول/أكتوبر 2013، عندما أبقت إدارة أوباما الجزء الأكبر من المساعدة المالية العسكرية التي تقدمها سنوياً إلى مصر، والتي تبلغ قيمتها 1.3 مليار دولار، “بانتظار حصول تقدم نحو حكومة مدنية شاملة ومنتخبة ديمقراطياً”.
ولسد هذه الثغرات، اقترحت القاهرة عقد “حوار استراتيجي” جديد في أواخر عام 2013، ووافق وزير الخارجية الأمريكي جون كيري على ذلك. ويوحي تأخر هذا الحوار لعامين تقريباً بأن واشنطن ما زالت منزعجة من “مسار مصر القمعي”، حسب وصفها، فضلاً عن التفات الإدارة الأمريكية نحو مسائل إقليمية أكثر إلحاحاً مثل المفاوضات النووية مع إيران ومحاربة تنظيم “داعش”. وفي الأشهر الأخيرة، توصلت الإدارة الأمريكية إلى قناعة بأن مقاربتها الفاترة تجاه القاهرة لم تساهم في تعزيز المصالح الأمريكية الإقليمية ولم تشجع مصر على اتباع مسار أكثر ديمقراطية من ذي قبل. ولذلك، بدأت واشنطن تسعى إلى تحسين علاقتها مع مصر. وقد بدأت هذه العملية في أيلول/سبتمبر 2014،عندما التقى الرئيس أوباما بالرئيس السيسي على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، وازدادت العلاقات تحسناً في آذار/مارس 2015، مع رفع الإدارة الأمريكية حظرها على المساعدات العسكرية.
وتمثل جلسات الحوار الأخيرة الخطوة التالية في تحسين صورة العلاقة بين البلدين، وتعبر أيضاً عن استراتيجية الإدارة الأمريكية في طمأنة الحلفاء العرب السنة في أعقاب الاتفاق النووي مع إيران. ورغم توقف “الحوار الاستراتيجي” لأكثر من ستة أعوام، بقيت الجوانب الأساسية في العلاقة الثنائية تسير بشكل سليم، فقد استمر التنسيق لمكافحة الإرهاب، وما زالت مصر تمنح الولايات المتحدة امتيازات عبور في قناة السويس وفي مجالها الجوي لإيصال الإمدادات إلى قواعدها العسكرية في الخليج العربي. ونظراً إلى أن خلافات هامة حول سياسات مصر المحلية سوف تستمر لما بعد “الحوار الاستراتيجي”، من المرجح أن تبقى القنوات الأقل علانية لإدارة العلاقة بين البلدين، السمة الأهم بين واشنطن والقاهرة في المستقبل المنظور. ويعكس زيارة وزير الخارجية ومشاركته في الحوار الاستراتيجي رغبة البلدين في التشديد على مصالحهما الإقليمية المشتركة لتخطي الخلافات السياسية التي شابت العلاقة بينهما في العامين الماضيين، وبهذا المعنى، تكمن أهمية الحوار أساساً في تحسين صورة العلاقة بين البلدين، إذ إن الجوانب الأكثر أهمية في هذه العلاقة تُدار بالفعل عبر قنوات أخرى أقل علانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق