الميراث
يقول السيد هنري سيرانو فيلار، اول سفير امريكى فى ليبيا فى كتابه "ليبيا المملكة العربية الجديدة فى شمال افريقيا": وفى مدينة طرابلس، ورثت الدولة الليبية مدينة جميلة جاهزة، بها مبان ادارية، وعمارات، ومستشفيات، وفنادق، ومقاهي، ومسارح للسينما، والشوارع، والأروقة ذات الأعمدة، والساحات العامة، كلها شيدها الطليان على خلفية من المساكن المتواضعة، ذات فناءات بجدران عالية وشرفات مشبكة، وفى مدينة الحدائق "Garden City"، حيث توجد فلات الإيطاليين ذات "العرائش" المزخرفة بنباتات الزينة. مقابل البحر يقع شارع لنغومارى "Lungomare" الذى تصطف على جانبيه سيقان النخيل، ذلك الشارع المفضل لدى سكان المدن الساحلية الإيطالية وهوأكثر جمالا من شاطئ اللازورد الفرنسي "French Riviera".انها اشهر مدينة نظيفة فى الشمال الافريقي.
دخلت طرابلس لأول مرة فى منتصف الخمسينات من القرن الماضى، طالبا قادما من الجنوب، فوقعت فى هواها منذ اللحظة الاولى. مدينة فريدة، تمازجت فيها حضارات كثيرة مرت بالمكان. معمارها نسيج متداخل، واجهة إيطالية على خلفية عربية. كان للجالية الإيطالية حضور مؤثر فى كلّ مناحى الحياة. لبلديتها العريقة حضور قوي، وعميدها يتمّ اختياره من الشخصيات الوطنية (بي) تطبق قوانين ولوائح بلدية صارمة، يتم تنفيذها بواسطة حرسها البلدي المتواجد في الشارع على الدّوام. كان من معالم طرابلس ايضا رجل المرور الأكثر حزما، والاجمل مظهرا وأناقة، واعتقد ان أبناء جيلى يتذكرون شبكة المواصلات العامة وحافلاتها النظيفة بخطوطها، "الدائرة على اليمين" و"الدائرة على الشمال". كانت طرابلس بالنسبة لنا نافذة حضارية نطل منها على الدنيا. مدينة احتضنتنا، وعلمتنا الكثير: كيف نلبس، وكيف نأكل، وكيف نتعامل مع الآخر، ومنحتنا المواطنة وكان اَهلها يداعبوننا بعبارة "الشلافطية" ولكن دون تمييز أو تحقير.
الانتكاسة
اكتشاف النفط، ادّى الى ارتفاع فى عدد المؤسسات التجارية، وأدّى إلغاء النظام الاتحادي، الى حركة انتقال كبيرة لموظفي الدولة وأسرهم إلى المدينة، انتقال نتج عنه تطور عمراني، واتساع غير مسبوق للمدينة، تطور لو كتب له الاستمرار لكانت طرابلس شيئا اخر. بعد انقلاب سبتمبر، طرح شعار "البيت لساكنه" وكان ذلك بمثابة الانتكاسة، لحركة التطوير العمراني فى ليبيا بشكل عام، وفى طرابلس بشكل خاص، تبعه انهيار كامل لسوق الاستثمار العقاري من طرف القطاع الخاص، وفشلت الدولة فى طرح برنامج بديل.تمّت مصادرة ممًتلكات الناس ظلما، وفقدت البلدية سيطرتها، وبدات اكبر عملية تغيير لمعالم المدينة بهدم عدد من المباني التاريخية، بما فى ذلك كورنيش طرابلس (شارع لنغوماري) أتذكريهذا الصّدد تعليقا لمخرج سينمائى بريطانى، كان يعد شريطا وثائقيا عن مدينة طرابلس بقوله: "الكورنيش هو البطاقة البريدية لطرابلس، فهوكبرج -ايفل - لباريس، وساعة - بيج بن - لمدينة لندن، انه التوقيع، البصمة، ان تغييرها جريمة فكيف تسمحون بها" المدينة القديمة، عبق التاريخ، هي الصامدة عبر كلّ الحقب والعصور، لم تسلم، هي الأخرى، من يد التخريب، وتحولت الى جحور للقوارض والحشرات، ومأوى للعمالة الافريقية. لم تتوقف اعمال التخريب على المخطط العام لبلدية طرابلس، ولكنه امتد الى ضواحي المدينة، ليشمل الغابات التى تمت زراعتها كمصدات للرياح، اضافة الى الاف الهكتارات من الاّراضى الزراعية التى تم تقسيمها بشكل عشوائي لتقام عليها غابات إسمنتية بشكل قبيح.
ماذا سيكتب عنا؟!
"انها اشهر مدينة نظيفة فى الشمال الأفريقي" قالها السفير الأمريكى فى بداية الخمسينات من القرن الماضى، وسبقه الرحالة التونسي الشهير ابومحمد عبدالله التيجاني، الذى زارها فى القرن الرابع عشر بقوله: "ورايت شوارعها فلم أراكثر منها نظافة ولا أحسن اتساعا واستقامة". خرجت متسكعا، عبر ظلام دامس، نتيجة انقطاع الكهرباء،استنشق الروائح العفنة وتحيط بي أكوام القمامة، وعلى الارصفة تنتشر الأكواب الورقية، والزجاجات البلاستيكية، نفايات الاستهلاك لشباب عاطل متسكع على النواصي. أرصفة المشاة، استولى عليها اصحاب المقاهي، وألاكشاك واللوحات الاعلانية، على الطرق العامة. تم الاعتداء بشكل عشوائى على نهر الطريق، وأقيمت آسواق فى خيام منصوبة، او على ظهر سيارات شحن تحيط بها النفايات، وأكوام القمامة. أصبح المنظر العام،مباني متآكلة، نتيجة انعدام الصيانة لسنوات طويلة، وهياكل إسمنتية لمشاريع توقف العمل فيها.
ابحرت فى ذاكرتى، ابحث عن طرابلس التى اعرفها، أتلمس روائح الزهر والحنة، وابحث عن ام السرايا والشط والهانى، عن اَهلها الطيبين الذين قال عنهم ابن حوقل: "اَهلها قوم مرموقون بنظافة الأعراض والثياب والاحوال، متميزون بالتجمل فى اللباس، وحسن الصور وقصد فى المعاش، ومحبة للغريب اثيرة ذائعة" ابحث عن ميراث جميل تعاقبت الأجيال على إرثه وتوريثه، لأنها العاصمة، ولأنها النموذج الذى يقتدى به، فما جرى فيها من تخريب امتد الى مدن الوطن كله.
وافقت من حلمي على الحقيقة المرة، فلاحقنى سؤال.. ماذا فعلنا بالميراث؟ وماذا سيكتب عنا التاريخ؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق