العرب اللندنية: رواية "مزرعة الفردوس"، لمحمد عامر التميمي، تخبرنا عن زمن اندثر دون أثر، في عصر لا يحمل فيه الصباح سوى الموت وقطع الرؤوس، واختفى فيه صوت الناي وعزف الربابة أمام فرقعات الهاون والكلاشنكوف، وهاجرت العصافير وامتلأت السماء بطائرات الموت، وعندما يستعير كاتب هذه المعاني القديمة النبيلة ويعيدها حية في عمل روائي، فإنه لا يكون إلّا دعوة إلى إعادة اكتشاف بهجة الحياة التي افتقدناها في هذا الزمن الرديء. صناعة الفرح في الزمن الحزين هو عمل مستحيل، ولكنه ضرورة إنسانية استمرارا لرحلة الحياة، ويحضرني بيت شعر، للشاعر الراحل محمد الفيتوري، وهو "الأعظم من قدر الإنسان.. هو الإنسان".
كاتب موسوعي
معرفة الروائي محمد عامر التميمي عن قرب، تساعدنا على فك الرموز المصاحبة للرواية، والقارئ للسيرة الذاتية للمؤلف، سيكتشف أنه أمام كاتب موسوعي التكوين، فهو رجل قانون، تخرج من كلية حقوق بنغازي في ليبيا، والتي منحته درجة الليسانس وهي بداية للسلم الوظيفي، من أجل لقمة العيش، وهو وضع معروف، مع كل المبدعين من أبناء العالم الثالث أو النامي. والموهبة والإبداع هنا ليس لها علاقة بالخلفية الأكاديمية في التكوين، على اعتبار أن الإبداع موروث جينيا، المحظوظ من يتلقى الرعاية مبكرا، وهذا ما سندركه عند التعرف على النشاط والنتاج الثقافيين للمؤلف، الرواية لم تكن العمل الأول ولكنها نتاج تجربة طويلة من أعمال أدبية وفنية خلال رحلة عمل دؤوب. كتاب التجربة الأولى في مسرح الممثل الواحد، وهو أول كتاب يصدر في ليبيا، وهو عن نوع من الفنون الدرامية التي يطلق عليها "المونودراما" وهي واحدة من أشكال المسرح التجريبي، تعتمد على الممثل الواحد، الذي يسرد الحدث عن طريق الحوار فوق الركح متقمصا أكثر من شخصية في آن واحد. كما صدرت للتميمي أربعة دواوين شعرية، في الشعر المحكي، وهي "بعيد السوط و"ربيع العمر" و"خفقات ربيعية" و"ليش ترحلي"، وهو نوع من الشعر المنبثق من الزجل الشعبي، يقول عنه الدارسون واسطة بين العقل والقلب للتعبير عن الذات، اشتهر به الأندلسيون في القرن الثامن عشر. كما صدر له أيضا كتاب "رنين آخر الليل” قصص قصيرة، وكتاب “المبشرون بالجنة". كما كتب العديد من البرامج الإذاعية والمرئية، على المستوى المحلي والعربي، وله العديد من المسرحيات الاجتماعية والكوميدية، وله نشاط في إعداد الأشرطة الوثائقية، نذكر من أهمها "قوارب الموت" الذي يتناول فيه الهجرة غير الشرعية.
الزمن الرديء
رواية "مزرعة الفردوس" هي آخر أعماله المتعددة، وأولها في كتابة الرواية، وهي نتاج تجربته الطويلة، في رحلة العمل الإبداعي. العمل مكتوب بحرفية عالية، وطرح تشويقي، تجبرك الأحداث بتلاحقها منذ الصفحة الأولى على متابعتها، لتكتشف أنك لن تستطيع التوقف، حتى تصل إلى عبارة "انتهت الرواية". العمل درامي، يتحرك أبطاله على أرض لا ملامح جغرافية لها، ومن خلال أشخاص لا جنسية لهم، وعبر القراءة تولد صلة حميمية وإحساس بالقربى والتشابه في التجربة الإنسانية وأحداثها في أي مكان على أرض القرية الكونية، لا فرق فيها من حيث اللون أو العرق أو العقيدة، وأن صراع الخير والشر واحد في كل مكان، بل في كثير من الأحيان ومع تشابه الأحداث تتداخل الشخوص وتصعب التفرقة بين القارئ وأبطال الرواية. نجح المؤلف في كتابة النص، في إطار روائي مصحوب بتفاصيل دقيقة عن المكان والزمان وحركة الأبطال، من خلال سيناريو جميل، يعطي إحساسا للقارئ بمتابعة العمل كأنه عمل مسرحي، وهو عمل لا يجيده إلا كاتب سيناريو محترف.
وكان للشاعر المسكون دور كبير في صياغة التشبيهات، والجمل الحوارية بين أبطال العمل: "ثغر مبتسم بلون البرد"، "اخترت سفينة المزاح، لنبحر فيه سويا"، "كنت تحمل آلام الحيرة". الوفاء وصبر أيوب هما اللذان يُتوسّل بهما الأمل الوحيد المحتمل لدخول الفردوس، كلمات انقرضت من قاموس لا وجود له في هذا الزمن الرديء، في النص الروائي يتلاعب الكاتب برمزية الكلمات من خلال أسماء أبطال الرواية في محاولة لإعادة حفر هذه الكلمات على صفحات القاموس في عصرنا الرديء، ببنط أسود على صفحات الكتاب، لقد كرر لنا اسم البطلة وفاء أكثر من 250 مرة، واسم البطل أيوب أكثر من 70 مرة، وهو رمزية لسيدنا أيوب عليه السلام وقصته التي اشتهر من خلالها بالصبر. وعبر النص تكررت أسماء أمل، وسراج الدين وكلها تحمل رموزا لمعاني نبيلة. مزرعة الفردوس رواية أدبية أعدت بأسلوب محترف كسيناريو متكامل يمكن طرحه منجزا مرئيا نأمل أن يرى النور قريبا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق