العرب اللندنية: بعد عام على إعلان "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، من لدن تنظيم داعش، يثور التساؤل مجددا حول مصير تنظيم "القاعدة"، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس طوال العشرية الماضية؛ فقد مكن الزحف الميداني والانتشار الأفقي لتنظيم الدولة من استقطاب المبايعة من لدن العديد من الجماعات المقاتلة ـ التي كانت حتى الأمس القريب تنضوي تحت مظلة التنظيم الذي يقوده أيمن الظواهري ـ لصالح التنظيم الذي يقوده أبو بكر البغدادي، وبات مستقبل التنظيم السابق يتوقف على مدى التقدم الذي قد تحرزه الدولة الإسلامية في معاركها المقبلة. نشأ تنظيم داعش من حضن القاعدة وعلى أطرافها، كتجربة جهادية محلية قادها أبو مصعب الزرقاوي من داخل العراق، وأسّس لنفسه عقيدة جهادية مستقلة ترتكز على أدبيات التنظيم الرئيس، لكنها تختطّ مسلكا في الممارسة الميدانية يعتمد تطوير الخطة العسكرية لتنظيم القاعدة، مع تكييفها ميدانيا على أرض العراق؛ كما يعتمد قراءة جديدة للأدبيات الجهادية لنفس التنظيم، تنزّل المفاهيم المؤسسة للفكر الجهادي ـوأساسا مفهوم الولاء والبراءـ على البيئة العراقية التي تتميز بالتعدد المذهبي والطائفي، بعد أن كان تنظيم القاعدة قد منح ذلك المفهوم محتوى دوليا يضع خط المفاصلة في نقطة التقاطع ما بين المسلمين والصليبيين.
الكثير من الدراسات في الفكر الجهادي تنظر إلى التنظيمين من منطلق القطيعة بينهما، لكن مكمن الخلط يوجد في عدم التمييز بين القطيعة التنظيمية والقطيعة التنظيرية؛ بينما واقع الحال أن القطيعة بين التنظيمين هي قطيعة على المستوى التنظيمي لا على المستوى التنظيري؛ ذلك أن تنظيم داعش يعتبر نفسه امتدادا لمشروعية تنظيم القاعدة على الصعيد الفكري والعقدي، وتجربة تنطلق مما أنجزه التنظيم في مرحلة مؤسسه أسامة بن لادن لكي يبني عليه مشروعه الجديد؛ ومن هنا فهو استمرار للأسس النظرية التي أرساها التنظيم السابق. أما على المستوى التنظيمي، فهو يعتبر أن تنظيم القاعدة لم يعد هناك ما يبرر وجوده، بعد إعلان "الخلافة"، وأن عليه، إذا أراد البقاء ضمن المشروع الجهادي العالمي، أن يلتحق بركب المبايعين للبغدادي، وإلا فعليه حل نفسه. يعكس الاختلاف بين التنظيمين اختلافا في الباراديغم – أي الإطار النظري- الذي ظلّ يحرك الفكر الجهادي العالمي خلال الثلاثين سنة الأخيرة. ويمكن تقسيم هذا الإطار النظري إلى قسمين: الأول هو الذي سيطر على الفكر الجهادي منذ نهاية حرب أفغانستان، مرورا بتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001، إلى مرحلة الربيع العربي؛ والقسم الثاني هو الذي بدأ مع هذا الأخير ولا يزال مستمرا إلى اليوم، وهو مرشح للتطور التلقائي في حال ما إذا لم يتم التصدي له بكل العدة الفكرية والدينية والعسكرية.
وقد مثّل تنظيم القاعدة الشكل التنظيمي الأنسب للمرحلة الأولى. فقد تكوّن فكر التنظيم في سياق الحرب مع الاتحاد السوفييتي، أي مع العدو البعيد بالمفهوم السائد في الأدبيات الجهادية، ومن ثمة تطور ونما في ظل فكرة القتال ضد الأجنبي، ومن هنا تركيزه على اختطاف الأجانب واستهداف النصارى وتنفيذ هجمات ضد الدول الأوروبية في عمقها الترابي. وبالموازاة مع ذلك، لم يكن التنظيم يشغل نفسه بإنشاء دولة أو إعلان خلافة أو احتلال مواقع والمكوث فيها، بل كان يتسم بطابع متحرك، ويتبع استراتيجيات متباينة وفق ساحات العمليات التي ينفذها. مقابل ذلك، ارتكز منهج تنظيم داعش على مقاتلة العدو القريب، وإنشاء “إقليم ـ قاعدة” ـ بالمعنى الذي كان ينادي به الفكر القومي في حقبة الستينات من القرن الماضي ـ حيث يكون منطلقا وموئلا للعمليات الجهادية في مختلف الجهات الأخرى. إن فكرة “المركز” التي كانت لدى القاعدة تعني وحدة المرجعية الفكرية الجهادية، باتت لدى تنظيم داعش تعني مركزا جغرافيا يقف عليه، كنواة للمشروع الجهادي العالمي. مع اندلاع أحداث الربيع العربي في سنة 2011، تغير الباراديغم الذي يسند النزعة الجهادية العالمية، إذ لم يعد تنظيم القاعدة الشكل التنظيمي الأنسب للمرحلة الجديدة، بالنظر إلى أن تلك الأحداث شهدت رواج مطالب سياسية مختلفة عن تلك التي كان التنظيم يحاول الإجابة عنها في السابق؛ فهتافات الشوارع العربية لم تكن تطالب بطرد المحتل، مثلا، أو قتال الأوروبيين أو حتى تحرير فلسطين، بل ببناء الديمقراطية وإرساء العدالة الاجتماعية والمساواة، أي أن الهدف أصبح يتمثل في بناء أنظمة سياسية جديدة. تلقف الفكر الجهادي هذه النقطة وبنى عليها استراتيجية جديدة، تتمثل في التسلل عبر حالة الفوضى في العالم العربي وطرح نفسه كبديل.
وقد سعت العديد من الجماعات السلفية المتطرفة إلى الركوب على تلك الأحداث، لكنها اصطدمت بحالة الرفض من لدن الشارع، وبالأخص من الجماعات الإسلامية المنتمية إلى التيار الإخواني، التي كانت تريد قطف ثمار الأحداث وتحييد السلفيين الجهاديين. لقد مثل منعطف الربيع العربي تحولا نوعيا في البنية الفكرية الجهادية، التي بات تنظيم داعش حاملا لواءها في الحقبة الجديدة؛ إذ أصبح مفهوم الدولة جزءا من هذه البنية، بفضل الصحوة السريعة والعابرة للشارع العربي التي قفزت عليها الجماعات الإسلامية. ويمكن ملاحظة أن مواقف تنظيم القاعدة من أحداث الربيع العربي ـ كما عبر عنها أيمن الظواهري بوجه خاص ـ قد عكست طموحا إلى بناء الدولة؛ ذلك أن تلك المواقف لم يكن فيها ما ينمّ عن رفض القاعدة لفكرة الدولة من أساسها، بدليل أنها تضمنت “توجيهات” إلى التيارات الإخوانية بضرورة الثبات والمصابرة وعدم التفريط في المكاسب، بل يمكن القول إن أحداث الربيع العربي قد فاجأت تنظيم القاعدة ذاته، حينما وجد نفسه خارج المعادلة السياسية التي برزت في أعقابها. مهدت تلك المواقف المسوغ النظري لتنظيم داعش من أجل المرور إلى فكرة الدولة، ولذلك كانت هذه الأخيرة نوعا من المباغتة للقاعدة، الذي وجد نفسه مرة أخرى خارج المعادلة الجهادية، بعد أن فرّط في التواجد بقلب المعادلة السياسية. فقد قفز داعش على فكرة الدولة، ليشكل ذلك نقلة أخرى في الفكر الجهادي الذي كانت القاعدة التعبير السابق عنه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق