الاتفاق النووي يؤجج الصراع على السلطة في طهران..
ويضع القوى الغربية أمام معضلة
وليس من المعتاد لأي دولة الشروع في تغيير سياسة ما من دون فهم المعاني المتضمنة باللغة الأم لتلك الدولة. وفى حال عرض الصفقة على مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان الإيراني)، يبرز التساؤل عن اللغة التي ستعرض بها. على أي حال اللغة الرسمية للدبلوماسية في إيران هي الفرنسية، وليست الإنجليزية، فالارتباك بسبب اللغة لا يتوقف هنا. والنصوص المختصرة التي نشرتها إيران باللغة الفارسية صممت كلها كي توحي للقارئ أن إيران قد أحرزت نصرًا دبلوماسيًا عظيمًا، وأنها قد مرغت أنف الولايات المتحدة الأميركية في التراب، وحتى صحيفة «كيهان» التي تعكس وجهة نظر خامنئي، استخدمت نفس اللغة، ولذا فالنسخة الفارسية مشكوك في صحتها، إن لم تكن معادية بشكل صريح «للفتح المبين» للرئيس حسن روحاني. بيد أنه في النسخة العربية تحتفي الصحيفة بـ«إذلالها للشيطان الأكبر» ولإجبارها القوى العظمى على الاعتراف بالجمهورية الإسلامية كقائد للمنطقة. ويتساءل رضا تابيش، عضو المجلس الإسلامي (البرلمان): «هل يعنى ذلك، من وجهة نظر الملالي أن العرب لا يستحقون أن يعرفوا الحقيقة؟». لا شك أن «الصفقة» المعلنة قد هبطت بطبقة الخميني الحاكمة ومن خلفها بالمجتمع ككل. فعلى الرغم من الفشل في ترتيب «احتفال تلقائي» بالصفقة، فإن غالبية الإيرانيين يؤيدون صفقة تمهد لرفع الحظر. فقد تعب الإيرانيون من نظرة العالم الخارجي لهم كمتعصبين وإرهابيين. وعليه، فهم يرحبون بأي صفقة من شأنها المساعدة في استعادة الاحترام الذي فقدوه بعدما تقلد الملالي مقاليد الحكم في البلاد. ويتمنى البعض كذلك لو أن تطبيعًا في العلاقات مع الغرب، خاصة الولايات المتحدة، يؤدي إلى بداية للسلام بين الغرب وإيران.
وفي هذا السياق، يقول الناشط في مجال حقوق الإنسان عازار أحمد: «عندما يدخل الجمل برأسه فسوف يتبعه بقية الجسم بكل تأكيد». ويضيف: «نرحب بأي تحرك في سبيل دعم التواصل مع الدول التي تحترم حقوق الإنسان أكثر مما تحترم الأماكن كما تفعل كوريا الشمالية، وسوريا، وزيمبابوي». على أي حال، فإن الصفقة المعلنة قد بدأت فصلاً جديدًا من الحرب الآيديولوجية التي مزقت الحركة الخمينية لأكثر من عقد من الزمان. ويتمثل العنصر الأول في الصدع الجديد في الاختلاف حول ما جرى الاتفاق عليه. من جهته، تساءل حميد راسائي، عضو البرلمان الإيراني: «ألا ينبغي أن يتم إخبار الإيرانيين بلغتهم ما الذي تقرر نيابة عنهم؟». الواضح أن جذور التشاحن الآيديولوجي بين الفرق المتشاحنة أعمق من ذلك، ذلك أن البعض يرغب في أن تغلق طهران فصل الثورة وتعيد تنظيم نفسها كدولة قومية طبيعية في عالم من الدول القومية. ومن بين هؤلاء عالم الاجتماع هرمز مسعودي، الذي قال: «لا يمكن أن نغفل أن هذه بلاد حقيقية بها شعب حقيقي يرغب في حياة حقيقية. كل الدول التي مرت بثورات انتهى بها الحال يومًا بإغلاق فصل الثورة، والبدء من جديد في العيش كعضو عادي في المجتمع الدولي».
وعبر صادق زيبا كلام، مستشار الرئيس روحاني، عن الفكرة ذاتها بأسلوب مختلف، إذ قال: «لم يوكلنا أحد بمهمة تصدير الثورة ومحاربة إسرائيل وأميركا. يجب أن تكون مهمتنا الأولى التعامل مع احتياجات شعبنا وحل مشكلاته». إلا أن مثل هذه الآراء تثير سخط أنصار «الثورة الدائمة» الذين يتوجسون من أي محاولة للتطبيع، خوفًا من أن تنهي وجود الدولة الآيديولوجية. ومن بين هؤلاء حجة الإسلام محمد مهدي فاطيميبور، الذي صرح بأن: «هناك من يحاولون الإبقاء على مصطلح الجمهورية الإسلامية، لكن، خاويًا من محتواه، والرئيس روحاني يتحرك في هذا الاتجاه الذي يبعد تمامًا عن روح الإيمان، ويعد بمثابة حلم أميركي». بل وبلغ الأمر حد اتهام فاطيميبور روحاني بـ«تزييف الخطاب الأساسي للإسلام منذ بعثة النبي حتى اختفاء الإمام الخفي وعودته. إنه يحتفل بإبرام هدنة مع إبليس». وبالنسبة للمعنيين بالفكر الآيديولوجي للجمهورية، فإن أي تطبيع مع العالم الخارجي يرقى لمستوى خيانة الثورة.
وفي هذا الصدد، تساءل صادق فارامارضي، رئيس اتحاد الطلاب المسلمين في طهران: «لماذا يحتفلون؟ على المرء أن يحتفل بانتصارات المقاومة وليس انسحابها، حتى وإن كان مجرد انسحاب تكتيكي». ويدرك من يتابعون المشهد السياسي الإيراني خطوط الصدع داخل نظام منقسم على نفسه ما بين الرغبة في التمسك بالمثالية العسكرية تجاه جميع القضايا وضرورة التسوية التي يفرضها الواقع. والملاحظ أن أنصار التطبيع موجودون بالمستويات كافة، خاصة داخل جهاز الخدمة المدنية والحقل الأكاديمي ومجتمع الأعمال. وفي هذا الصدد، أعرب فرهاد درويش، رجل أعمال، عن اعتقاده بأن: «إيران السوق الأخيرة غير المستغلة في العالم. ويعد الانفتاح على العالم الخارجي أمرًا طيبًا ليس لشعبنا فحسب، وإنما للاقتصاد العالمي بأسره». وتجد وجهة النظر هذه أصداءً قوية لها حتى داخل الدائرة الصغيرة لصانعي السياسات الاقتصادية المحيطة بالرئيس روحاني الذين حصل كثيرون منهم على درجة الدكتوراه من جامعات أميركية وتأثروا بشدة بفكر اقتصادات السوق.
أما وجهة نظر النخبة العسكرية، فلا يزال يكتنفها الغموض. يذكر أن بعض الجنرالات أصدروا تصريحات داعمة للشعارات التقليدية الخاصة بمحو إسرائيل من على الخريطة وتدمير الولايات المتحدة وخلق قوة مسلمة عالمية كبرى بزعامة إيران. مع ذلك، فإن المؤسسة العسكرية بأكملها تشارك بقوة في شبكات الأعمال، وستستفيد بصورة هائلة حال إقرار استراتيجية التطبيع بالفعل. ومن بين العناصر الأخرى التي تغري المؤسسة العسكرية باتجاه التطبيع، إمكانية الحصول على الأسلحة المتطورة أميركية الصنع. وتعود الزيادة الأخيرة في الموازنة العسكرية، نحو 23 في المائة، في جزء منها إلى حسابات ترى أن إيران ستتقدم بطلبات شراء ضخمة لأسلحة خلال السنوات الخمس المقبلة. وتكمن المفارقة في أن فكرة التطبيع تحظى على ما يبدو بشعبية أيضًا في أوساط رجال الدين الذين حرصت غالبيتهم على إبقاء مسافة بينهم وبين النظام. ويخشى كثيرون منهم من احتمال أن ينتهي الحال بالآيديولوجية الراهنة بتحريض الإيرانيين ضد الدين ذاته.
وقال روحاني في خطاب ألقاه مؤخرًا: «لا يمكنك أن ترسل الناس إلى الجنة بالقوة، وليس من مهام الحكومة إجبار الناس على الالتزام بواجباتهم الدينية». من جهته، عبر آية الله حسن أقاميري عن الفكرة ذاتها، لكن على نحو مختلف؛ حيث قال: «إن الإسلام الغاضب صاحب الوجه العبوس ينفر الناس. إن المجتمع المسلم الحقيقي يشدد على السلام والتسامح والتفاهم». في المقابل، فإن معارضي رجال الدين يرون أن أصوات «الاعتدال» المتعالية حاليًا تشير إلى عملية إعادة تمترس تكتيكية فحسب. ومن بين هؤلاء مسعود هونارماندي، رجل أعمال، الذي قال: «الملالي يخشون ما هو قادم، لذا يحاولون المراهنة بحذر، بحيث إذا استمر النظام فإنهم سيحتفظون بذلك بامتيازاتهم. أما إذا سقط، فإنهم سيزعمون أنهم سبق وحذروا من التجاوزات».
وبحلول مارس (آذار) المقبل، ستقف وجهتا النظر المرتبطتين بمستقبل إيران أمام اختبار حقيقي يتمثل في إجراء انتخابات البرلمان وأخرى لمجلس الخبراء الذي يختار «المرشد الأعلى». وقد وعد فصيل رافسنجاني قوى غربية بأنه سيفوز في الاثنين حال تنفيذ اتفاق نووي يبث الروح في الاقتصاد الإيراني المتداعي. ومع ذلك، فإن الكثير يعتمد على من يسيطر على العملية الانتخابية. يذكر أن خامنئي وفريقه لا يزالون يملكون سلطة استخدام حق الفيتو ضد أي مرشحين محتملين، وبعد الانتخابات إلغاء أي نتائج لا تروق لهم. كما أن سيطرتهم على المؤسسة العسكرية والجهاز الأمني تمكنهم من «ترتيب» النتائج المرغوبة. مع ذلك، فإن أنصار التطبيع في موقف أقوى عن أي وقت مضى منذ أواخر تسعينات القرن الماضي، حيث يسيطرون على جزء كبير من الجهاز الحكومي وكذلك من الموازنة الوطنية، بجانب شبكة من مصالح الأعمال التي قد تمنحهم ميزة على كثير من الأصعدة. ورغم أن التكهن بمستقبل إيران مهمة بالغة الخطورة، فإن أمرًا واحدًا يبقى في حكم المؤكد، سواء جرى تنفيذ الاتفاق النووي المعلن بالفعل أم لا، فإن الصراع على السلطة داخل طهران سيزداد حدة وصولاً إلى المواجهة في الربيع المقبل. هذا الوضع يطرح على القوى الأجنبية المهتمة بإيران معضلة: هل ينبغي أن تعاون أنصار التطبيع على توسيع دائرة نفوذهم في طهران أم تنتظر نتيجة المعارك الانتخابية في الربيع المقبل؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق