المفكرة التونسية أم الزين بن شيخة المسكيني لـ «القدس العربي»:
الشعب التونسيّ يتدرّب الآن على شكل جديد من الحياة السياسيّة
روعة قاسم - تونس ـ «القدس العربي»:
أم الزين بن شيخة المسكيني، كاتبة وشاعرة وأستاذة جامعية في الفلسفة في
جامعة تونس وتعتبر رائدة الدراسات الجمالية في العالم العربي ولديها عديد
المؤلفات أهمها كتاب «كانط راهنا أو الإنسان في حدود مجرّد العقل».وكتاب
«الفنّ يخرج عن طوره أو جماليات الرائع من كانط إلى دريدا» و«تحرير المحسوس
لمسات في الجماليات المعاصرة» وكتاب «الثورات العربية… سيرة غير ذاتية»
وكتاب «جرحى السماء» وغيرها من الكتب. تقول بن شيخة في حديثها لـ «القدس
العربي» ان هناك علاقة متينة بين انتشار موجة التطرّف بين شباب تونس
والمنظومة التربويّة التي لم تنجح دوما في تصوّر سويّ لمفهوم الإنسان
التونسيّ. وتعتبر ان التطرف ليس مسألة تونسيّة بل مسألة عالميّة. وقالت ان
الفلسفة تمنحنا بعضا من الحياة حين تكون محمّلة برسائل الحُبّ في زمان لم
يبق فيه سوى الحبّ. في هذا الحديث الشامل تتحدث أم الزين عن أسباب تفاقم
الإرهاب في العالم العربي وأسباب تعثر «الثورات العربية» وعن دور الفلسفة
في واقعنا وغيرها من الملفات الكبرى التي تشغل عالمنا اليوم.الشعب التونسيّ يتدرّب الآن على شكل جديد من الحياة السياسيّة
♦ ما رأيك في موجة التطرف التي تجتاح الشباب التونسي وتجعله يقبل بكثافة على الانخراط في التنظيمات التكفيرية رغم أن تونس عرفت بانفتاحها وبتوجه مدرستها منذ ما قبل الاستقلال نحو التحديثية التنويرية؟
• ثمّة على الأقلّ ثلاثة عناصر للإجابة عن هذا السؤال: أوّلا هشاشة السياسة الاقتصادية والاجتماعيّة في تونس على امتداد الحكم السابق وإلى اليوم. وهي سياسة لم تنجح في خلق توازن اجتماعي بين الجهات وبين الفئات. بحيث ساهمت في تفقير الشعب التونسي واستثراء طبقة من الأغنياء. لذلك فانّ تزايد عدد الفقراء إلى حدّ الحديث عن طبقة من الجياع والأفواه الفاغرة قد جعل من دعاة التطرّف يعشّشون شيئا فشيئا في عقول طبقة مهمّشة من أبناء الشعب بشراء ذممهم وجعلهم يقبلون على هذه الأشكال من الانتحار الرمزي الاجتماعي. فمسألة التطرّف هي في رأيي مسألة «فيزيائيّة»حيويّة: ثمّة ردّة فعل على ظلم اجتماعي هو الذي يؤدّي بمجتمع برمّته إلى دفع فاتورة سكوته عن القهر غاليا.
ثانيا: ثمّة علاقة متينة بين انتشار موجة التطرّف بين شباب تونس والمنظومة التربويّة التي لم تنجح دوما في تصوّر سويّ لمفهوم الإنسان التونسيّ على الرغم من الصورة التي وقع رسمُها دوما عن المدرسة التونسية بوصفها مدرسة التنوير والحداثة. فبقيت كل مشاريع اصلاح التعليم في تونس منذ العهد السابق إلى اليوم، شكليّة وفضفاضة ورهينة أجندات سياسيّة. وبقيت قيم التنوير شعارات وحقوق الإنسان تجارة مطابقة لمواصفات العولمة. في حين بقي الشباب التونسي في أغلب الأحيان وحيدا مهملا بلا أفق خاصّة من جهة التشغيل الذي مثّل سببا عميقا لما حدث في تونس تحت راية الثورة. بالإضافة إلى أنّ السياسات التربويّة قد أدّت إلى نوع من الفراغ الروحيّ والأخلاقيّ والرمزيّ وذلك باختيارها ترجيح كفّة الاختصاصات العلميّة على الاختصاصات الأدبيّة والإنسانيّة عموما. فوقع تفقير مفهوم الإنسان نفسه وكان هذا الأمر سياسة مقصودة في العهد السابق. ولذلك، نعتقد أنّ التطرّف ما كان ليدخل إلى بلادنا إلاّ من هذه الثقوب في الفلسفة التربويّة والثقافيّة العامّة التي سيظلّ الشعب التونسي يعاني منها ربّما طويلا.
ثالثا: انّ التطرّف ليس مسألة تونسيّة بل مسألة عالميّة تخصّ الأفغانيّ والألمانيّ والفرنسيّ والإيرانيّ والخليجيّ والأمريكي وربّما الصينيّ أيضا. لأنّ التطرّف لا لغة له ولا وطن ولا مستقبل وهو لا يشاركنا أيّ همّ حيوي ولا بيئيّ ولا مدني ولا حقوقيّ. وهذا التطرّف الناتج عن الفكر الأصولي انّما- كما شخّص ذلك مفكّرو الغرب أنفسهم- هو نتاج لردّة فعل عنيفة على تحديث عنيف لنا، نحن الذين التقينا بالغرب وهو يستعمرُنا ويفتكّ بأوطاننا. لذلك يظلّ التحديث والتنوير إلى اليوم في أذهان شبابنا العربيّ والمسلم اغترابا عن هويّتنا أو تهديدا لها أو جرحا عميقا مادام قد ارتبط تاريخيّا بالدبّابات والأساطيل الحربيّة. ثمّة هشاشة ما في شكل انتمائنا إلى أنفسنا وإلى العالم هي نتاج علاقة تاريخيّة متوتّرة بالغرب، وهي التي جعلت التطرّف والأصوليّات تعشّش في أوطاننا على نحو مخيف. ورغم ذلك ليس التطرّف حكرا على الوطن العربي، وليس هو بالصناعة الإسلاميّة أيضا. انّما وكما يعلم الجميع اليوم هو نتاج أجندات مافيوزيّة عالمية وأسواق أسلحة ومخطّطات غامضة حول اقتسام العالم بخيراته وشعوبه.
♦ ما الذي يجب فعله فكريا وثقافيا لمقاومة آفة التطرف التي لا تقتصر على تونس وإنما تجتاح كامل البلاد المغاربية والعالم العربي؟
♦ علينا أن ننجح في العثور على تصوّر ثقافيّ مناسب لما يحدث لنا. وذلك يتطلّب منّا القدرة على تشخيص واضح لبيت العنكبوت الذي هو بصدد نسج حياتنا ومستقبلنا وعقولنا ومشاعرنا وعقائدنا معا. أعتقد أن ليس ثمّة حلولا بالمعنى السحريّ للعبارة، انّما ثمّة امكانيّات لتحرير الحياة حيثما يقع اعتقالها. وهذا لا يتمّ إلاّ بمواصلة العمل على بناء حياة روحيّة وثقافيّة لأبنائنا الذين تسطو عليهم ثقافة العولمة والذين يجدون أنفسهم عُزّلاء إزاء آلة العولمة. وهي آلة تنجح كلّ يوم في تسطيح الأفراد وعزلهم وتتفيه القيم الروحية وتحويل الحياة إلى سوق استهلاكيّة والبشر إلى انفعالات نرجسيّة إلى حدّ العُصاب.
♦ هل ترين أن تونس نجحت في مسارها الانتقالي وأنها عبرت إلى بر الأمان؟
♦ ليس ثمّة برّا للأمان في أيّ مكان. تونس هي وطننا وعلينا أن نحيا فيه بأيّ شكل. لكن بوسعنا القول أنّ الشعب التونسيّ انّما هو الآن بصدد التدرّب على شكل جديد من الحياة السياسيّة التي لم تكن له في العهد السابق. وهي حياة برغم تعثّراتها ومناطق ضعفها تتمتّع بصحّة جيّدة من حيث القدرة على ممارسة الحريّة وإقتدار الحلم، حتى وان وقعت أحيانا سرقة أحلام أبنائنا.
♦ ما رأيك في ما وصلت إليه المرأة التونسية، وهل ترينها ممثلة سياسيا كما يجب بعد الثورة؟
♦ طبعا ثمّة مكاسب كثيرة حقّقتها المرأة التونسيّة بالنسبة للمرأة العربيّة عموما. لكنّي أعتقد أنّ تونس لا تعاني من جهة قضيّة المرأة لأنّ التونسيّ فهم جيّدا بعد الثورة بخاصّة أنّ مشكلة المجتمع لا تكمن في قضيّة المعركة الموهومة بين الرجل والمرأة مثلما كان العهد البائد يُسوّق لذلك. فالمرأة تبني المجتمع وتشارك في سياسته على قدم المساواة مع الرجل. ونحن التونسيّون قد تجاوزنا كثيرا المعارك النسويّة. وذلك بالرغم من أنّ مشاكل تعنيف المرأة أو تسليط أشكال الوصاية الذكوريّة لا تزال سائدة، وذلك راجع إلى العودة القويّة لرؤية دينيّة رجعيّة تختزل المرأة في القمقم الرعويّ وهي رؤية غريبة عن روح المجتمع التونسيّ الذي خطا خطوات رائعة على درب تحرّر المرأة والمجتمع منذ الطاهر الحدّاد وبورقيبة. وأنا لا أعتقد أنّ عدم مشاركة المرأة في المناصب الوزاريّة علامة على عدم مشاركتها في سياسة البلاد. فمفهوم السياسة لا يقتصر على التمثيل الحكومي الذي يخضع إلى أجندات حزبية ومكر سياسيّ في اقتسام الدولة هو من جوهر العمليّة السياسيّة نفسها. فالمرأة التونسيّة تشارك بشكل كثيف وناجع في السياسة العميقة للمجتمع التونسيّ. فهي المُربّية في البيت والمدرسة، وهي الكادحة في الحقول، وهي القاضية في المحكمة، وهي القائدة في الطائرة، وهي المثقّفة الحرّة، وهي الكاتبة العنيدة، وهي الصحافيّة الشرسة. أعتقد أن لا خوف على المرأة في تونس لأنّ الرجل التونسيّ تدرّب جيّدا على احترام المرأة ومحبّتها والاعتزاز بنجاحاتها. لأنّ في نجاحها نجاح لأطفال المستقبل. أمّا ما تبقّى من مظاهر الأفغنة لتونس فسحابة عابرة وسوف تنقشع سريعا.
♦ لماذا تحول في رأيك الربيع العربي إلى حروب أهلية مدمرة؟
♦ لو سلّمنا جدلا بأنّ ما حدث في البلاد العربيّة يمكن أن نسمّيه ربيعا عربيّا، رغم أنّ هذه التسمية لم تولد في بلاد «الربيع العربيّ» ورغم أنّها قد لا تكون التسمية المناسبة، فنحن نقول أنّ كلّ ربيع انّما هو دوما ربيع متقلّب. وانّ ما يحدث في بلاد «الربيع العربي» إذن إنّما هو من المظاهر الطبيعيّة لتقلّب الربيع إلى رياح صحراويّة لا تبقي على أيّ شيء ولا تذر، أو إلى بعض السحب المتأخّرة التي وصلت بعد أوانها أو إلى عواصف لم تجد مكانا لها في شتاء سابق. ما لا ينبغي الاستسلام له هو مظاهر الحداد على ثوراتنا وعلى أبنائنا وعلى مدننا وعلى مستقبل ذاكرتنا. كلّ خراب انّما ينتعش من حزننا ومن يأسنا. وانّ عُمُر الثورات لا يُحتسبُ بعُمُر البشر القصير. وذلك لأنّ التاريخ محكوم بخطّة عميقة لا أحد منّا بوسعه التنبّؤ بها. انّ ما أصبحنا على يقين منه منذ قرنين من الزمن هو أنّ التاريخ لا يصنعه الأفراد، انّما تصنعه الشعوب. وأنّ لكلّ شعب ليلُهُ الخاصّ لكنّه ينتهي دوما بعد معارك ضارية مع الظلام، إلى العثور على شمسه الخاصّة أيضا. ثمّة دوما حروب تقع من أجل تاريخ جديد. وثمّة دوما ضحايا يسقطون. لكنّ التاريخ يتقن جيّدا لعبة الولادات الجديدة ولنا فيه أكثر من درس وأكثر من عبرة. حسبنا أن نقاوم كل أشكال الخراب بأقصى ما نملك من قدرة على الألم وعلى الحلم معا.
♦ كيف ترين العلاقة بين الفن والمقدس؟
♦ ثمّة واو ماكرة تندسّ دوما بيننا وبين فهمنا للحقيقة. ووظيفة المثقّف هي أن يفكّك ذاك المكر في كلّ واو لا تصلح لأيّ عطف بل للتنكيل بعقولنا ومشاعرنا أحيانا. لقد سبق وأن كتبت عن هذه الثنائيّة بين الفنّ والمقدّس (انظر كتابنا: تحرير المحسوس ، بيروت 2014 الفصل الأخير) وهي ثنائيّة تجعلنا دوما إزاء ضرب من التوتّر بين حريّة الإبداع وقداسة الاتّباع. وأنا أعتقد انّ علينا أن نحرّر الفنّ من الأحكام الظالمة التي تعتقله من جنس المسّ بالمقدّسات. وأتصوّر أيضا أنّ الفنّ لا يمسّ من المقدّسات بأيّ شكل إلاّ بالنسبة لأصحاب النفوس الهزيلة غير القادرة على تحمّل قيم الإبداع الكفيلة بجعلنا ننتمي إلى ثقافتنا وإلى العالم إنتماء صحّيا وموجبا. فنحن ثقافة زاخرة بشعرائها وأدبائها ومُغنّيها منذ آلاف السنين فلنتقن الانتماء إذن إلى أرواحنا العميقة بدلا عن ثقافة الزجر والمنع والرقابة على حواسّنا وعقولنا! انّ الفنّ لا يسيء إلى أيّ جميل في العالم بل هو من يبدع قيم الجمال ومن يحرسها. وانّ شعوبا بلا فنّانين هي شعوب بلا مستقبل.
♦ بحكم أنك من رائدات الدراسات الجمالية في العالم العربي، ما هي أبرز الاتجاهات والنظريات المعاصرة في هذا الشأن؟
♦ لقد اتّخذت منذ أكثر من عشر سنوات من مسيرتي العلمية والجامعيّة من اختصاص فلسفة الفنّ والجماليّات حقل بحث وتدريس وكتابة. وانّ أهمّ ما أنجزته في هذا المجال كتابين وثالثهما هو قيد الانجاز في اختصاص الجماليّات المعاصرة: الأوّل تحت عنوان «الفنّ يخرج عن طوره» وفي هذا الكتاب اشتغلت على أهمّ اتجاه جماليّ معاصر هو حقل إشكاليّة «الرائع» في معنى Sublime الفرنسيّة، والذي وجد في جماليّات القبيح وفي جماليّات الفظيع أي ضمن كل ما يخرج عن حدود التمثيل والتخييل البشري تعبيراته القصوى. ذلك أنّ كل الفنّ المعاصر انّما هو فنّ الرائع والمريع، من ذلك مثلا سينما الرعب الأمريكية، وذلك على صورة مجتمع ينشر القبح في كلّ مكان. واشتغلت في كتابي الثاني تحت عنوان:»تحرير المحسوس»على قراءات فلسفية معاصرة للفنّ المعاصر من أجل تطعيم الثقافة العربيّة المعاصرة بآخر النظريّات الفنّية في أفق تحرير حواسّنا التي أصيبت بالركود ووقع السطو عليها من طرف أجندات أخرى. ليست عقولنا فقط هي التي تحتاج إلى تحرير بل حواسّنا أيضا ومشاعرنا وذائقتنا. نحتاج إلى نفض الغبار عن أرهف أحاسيسنا الجميلة التي تتكلّس يوما بعد يوم تحت ضغوط الحياة الاستهلاكيّة التي تنشر الإكتئاب والتوتّر في كلّ ركن من أركاننا العميقة. انّ اهتمامي بالجماليّات هو اهتمام بما تبقى من الحقيقة في واقع الدمار. فالفنّ هو الحقيقة في عالم الأكاذيب السياسيّة ورعب الحرب ومدن الرماد.
♦ ما هو دور الفلسفة في واقعنا اليوم وهل يمكن ان تكون خلاصنا الكبير من كل هذا الدمار والفوضى؟
♦ لم يعد ثمّة خلاص كبير في أيّ اتجاه. فلقد ولّى زمان السرديّات الكبرى واليوتوبيات التي تعزّينا وتفتح جنان الخلد تحت ناظرينا. ما تبقى هو امكانيّات لاختراع الحياة. والفلسفة تمنحنا بعضا من الحياة حين تكون محمّلة برسائل الحُبّ في زمان لم يبق فيه سوى الحبّ. ما يمكننا فعله هو العمل على نشر قيم الحياة ضدّ قيم الدمار والموت. فنحن مطالبون بزرع الأمل حتى على أعتاب الكارثة. ولا يهمّ حينئذ كم عُمُرُ ذاك الأمل. فكلّ الأعمار صارت في ديارنا قصيرة. ورغم ذلك فصناعة الأمل لا تموت لأنّها تحلّق دوما في سماء جديدة. سنظلّ الصدى العميق لصوت الفرح في مدائن البؤس، وصوت الجمال في صلب سياسات القبح. وكلّما سقط عالم الدول إلاّ وابتكرنا عوالم أخرى بالقصيدة والرسم والرقص حتى على شواهد القبور. وضدّ سياسات المقابر الجماعيّة سنبني كل يوم بالكلمة الحرّة حدائق الحياة المشتركة التي تقيم احتفالاتها وزغاريدها حتى وهي تشيّع جثامين شهدائها إلى مثواهم الأخير. أعتقد فعلا أنّ الفنّ قادر على مقاومة ما يحدث في أوطاننا من الدمار والرعب. لكن علينا مواصلة دعم الثقافة الفنّية لدى أبنائنا وفي مدارسنا إلى حدّ مواجهة صوت القنابل العنقوديّة بصوت الغناء الشجيّ. لا أحد سيستفيد من خوفنا وحزننا غير صنّاع الخراب. فلنطاردهم بالأغنيات «لأنّ على هذه الأرض من يستحقّ الحياة».
♦ في رأيك لماذا تأخر العالم العربي عن الركب الحضاري وكيف السبيل إلى نهضته مجددا؟
♦ انّ العالم العربيّ في تصوّري، لم يتأخّر في أيّ اتّجاه، لأنّ العالم الكبير ليس بصدد التقدّم نحو أيّ أفق. لقد انقضى الزمان الذي كنّا نشخّص فيه وضع العرب في مفردات التأخّر والتقدّم .لأنّ زمان العولمة قد حوّل كلّ العالم إلى قرية صغيرة، كلّ المدن فيه متشابهة من حيث تحوّلها إلى سوق كبيرة لبيع البضائع من الهمبورغر إلى السفن الحربيّة. كل العالم اليوم يسقط في الخندق نفسه.لا شيء يخضع لهندسة الخطّ المستقيم الذي قد نعثر فيه على من تأخّر ومن تقدّم ومن تجمّد في مكانه. نحن ربّما صرنا في زمن اللولب الذي يبتلع الجميع على نحو كلبيّ درامي وفي برودة الأسلاك المعدنيّة. لا أتصوّر أنّ الصدام بين العرب والغرب أو الشرق والغرب ما زال كافيا لتشخيص الوضعية الحالية للعالم بعامّة وللوطن العربي بخاصّة. ولا أتصوّر أيضا أنّ الحداثة ملك للغرب وأنّ العرب هم مجرّد ضحايا أو هم في أحسن الأحوال مجرّد مستهلكين لمكاسسب الحداثة. فالحداثة قد صارت إلى تراث عالميّ يخترق الجميع.لا أحد بوسعه الافلات من التاريخ الذي صنعته الحداثة الاّ وهو متوهّم أو مخبول. وما أكثر صنّاع الأوهام في ديارنا ! وربّما علينا أن نعيد نداء فلسفيّا للفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشال فوكو «كفانا إبتزازا للحداثة ..فإمّا أن نكون معها أو نكون ضدّها». وفعلا ثمّة من يبتزّ الحداثة فيستعمل وسائلها من الانترنت إلى البارابول إلى الطائرة إلى الأدوية إلى تكنولوجيات التجميل والقضاء على التجاعيد.. إلى وسائل التهريب والإرهاب الخ، لكنّه مع ذلك يقاوم قيمها الأخلاقيّة والمدنية تحت راية الهويّة. وهذا هو عين الابتزاز وهو علامة خطرة على ضرب من الانفصام، انفصام حضارة برمّتها وهذا هو الأخطر..ولا أتصوّر أنّ الحداثة هي المسؤولة عن كل الكوارث التي تقع اليوم في التاريخ العالميّ. ثمّة قيم حداثيّة ومدنيّة ينبغي مواصلة الدفاع عنها وترسيخها في أوطاننا. فمن يعترض على قيم الحرية والمساواة والعدالة وعن الإنسان كغاية في حد ّذاته وعن العقل كسقف أخير لكلّ سياساتنا، غير عشّاق العبوديّة الجُدد؟ أمّا عن امكانيّة النهوض بأنفسنا فتحتاج إلى خطّة ثقافيّة عميقة طويلة المدى علّنا بدأنا في استشراف ملامحها بعدُ لدى بعض المتفلسفة العرب الحاليين من ادوارد سعيد إلى فتحي المسكيني.
♦ ما هي أحدث أعمالك وإبداعاتك لو تحدثينا عنها قليلا؟
♦ ما زلت أشتغل دوما في حقل الإبداع، فلسفة وكتابة وشعرا. ويمكن الحديث عن نوع من المنعرج الروائيّ في تجربتي الإبداعيّة الصغيرة. وذلك لأنّ الفلسفة لم تعد ممكنة إلاّ انطلاقا من حقل تخييل ما. وبهذا المعنى فالرواية هي بالنسبة لي ورشة تجريب لإمكانية أخرى للتفلسف نثرا وشعرا وتخييلا. أؤمن فعلا أنّ ثقافتنا تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى مساحة أوسع للحلم في زمان ضاق فيه الواقع إلى حدّ الاختناق. وهو ما توفّره الكتابة الإبداعيّة بعامّة التي تهدف إلى توسيع وإثراء قدرة ثقافة ما على الحلم والحكي والنثر: نثر أوجاعنا ونسج آلامنا كما تنسج بنلوب ليلها كي تواصل انتظار حبيبها يوما آخر. في هذا السياق كتبت روايتين عمّا حدث تحت راية الثورات في ضرب من التخييل العجائبي لما عاشته مدائننا من خيبات أمل ومن أحلام موجعة. فكانت رواية «جرحى السماء»(2012) تحمل الوطن العربي في أحشاء لغة الضاد في شكل جرحى سقطت عليهم سماؤهم فلم يحسنوا التقاطها فظلّوا يتأرجحون بين الحياة والموت، فظهروا على سطح الرواية في شكل أشباح لاهم بالأحياء كي يموتوا في أوانهم ولا هم بالأموات كي نرثيهم بما يكفي. وثمّ عقبتها رواية «لن تُجنّ وحيدا هذا اليوم» (2014) في استئناف لها بالشخصيات نفسها وبقصص مغايرة وبعوالم مبعثرة ومشوّهة.»لن تُجنّ وحيدا هذا اليوم» هي «رواية المواجع» حسب توصيف للناقد الأدبي التونسي عبد الدايم السلاّمي، جاءت كي تنثر أوجاع شعب نضجت بما يكفي لجنون عموميّ من أجل نسيان الجروح والشروخ التي عبرت بجلودهم في شكل طوابير. و هكذا تتناثر «المسوخ الضاحكة» على صدر الورق الهشّ من أجل عوالم أخرى لا يتقن فيها سكّانها غير الضحك. هو ضحك من أنفسنا وضحك ممّ ليس من أنفسنا..ضحك من أوجاعنا ومن حكوماتنا ومن ثوراتنا الكاذبة ..لا شيء غير حوار للصمّ جاء كي يحرس الفراغ…ورواية ثالثة هي الأخت الصغرى للروايتين السابقتين هي قيد الانجاز تحت عنوان طريف «طوفان من الحلوى» في عالم ينثر في قلوبنا مرارة الحياة وقد أوشكت على الموت وحيدة في نفوسنا المنهوكة بمستقبل لا يعرف من أيّ جهة سوف يأتي.
* أم الزين بن شيخة المسكيني. حصلت في سنة 1990 على شهادة «الكفاءة في البحث» ببحث جامعي حول جماليات أدورنو باللغة الفرنسية، ثم على شهادة التبريز في الفلسفة سنة 1993. و في سنة 2000 حازت بن شيخة على شهادة الدكتوراه في اللغة الفرنسية بأطروحة حول فلسفة كانط. وحازت أيضا على شهادة التأهيل الجامعي في اختصاص الجماليات سنة 2012 وتعمل أستاذة الفلسفة في جامعة تونس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق