في
عز ثورة 17 فبراير، وقف العقيد الراحل معمر القذافي -على غير عادته- وحيدا
أمام كاميرا التلفزيون، مهددا الثائرين بأنه وجنوده سيزحفون "عليهم
بالملايين لتطهير ليبيا شبر شبر، بيت بيت، دار دار، زنقة زنقة وفرد فرد",
فبدأ "التطهير". كانت خطته مبنية على ضرب المدن الثائرة
بأبناء المدن الموالية مع تعمد إظهار ذلك وتأريخه بالفيديوهات، ليوقع أكبر
قدر من الحقد والضغينة بين أبناء البلد الواحد، وفي ذلك نجح حتى بعد سقوط
نظامه، فبدأت مرحلة "الانتقام". شكلت مصراته واحدة من
قلاع الثورة في مواجهة حكم العقيد فنالها من العقاب أشده وحوصرت لأشهر
عديدة، وتعرضت للنهب والتخريب واغتصبت النساء على يد كتائب النظام. ولم يكن
أفراد الكتائب غير أبناء المدينة المحاذية مدينة تاورغاء، مما أسقط من
التاريخ مشاركة جزء من أهلها في الثورة ضد النظام. كان ألم "العار" أشد
إيلاما من الخراب الذي ألم بمصراته وسكانها، فكان "الانتقام" بحجم المعاناة
تشريدا في أرض ليبيا الجديدة. متابعة للموضوع تبث قناة
الجزيرة الإخبارية حلقة من برنامج "تحت المجهر" بعنوان "الطريق إلى
تاورغاء" يوم الخميس 19 سبتمبر/أيلول 2013 في الساعة 17:05 بتوقيت مكة
المكرمة.
وفي هذه الحلقة استعادة لجذور معاناة سكان المدينة التي اتهمت
بالانتماء كليا إلى كتائب نظام القذافي التي حاصرت وهاجمت بوحشية غير
مسبوقة مدينة مصراته وأهلها، فقتلت واعتقلت وعذبت ونهبت واغتصبت الحرائر من
بنات المدينة الصامدة. شهادات المصراتيين لا تترك مجالا
للشك في وحشية المهاجمين، ومشاهد الدمار التي تنقله كاميرا المخرج
باحترافية وانسيابية رائعة تشهد على مرور الكتائب من هناك بشكل حوّل
المدينة إلى متحف حي لتخليد ملحمة مصراته. أبناء تاورغاء
عرفوا بالاعتماد كليا على مصراته لتأمين احتياجاتهم اليومية المعيشية..
عاشوا نوعا من القهر الاجتماعي، وهو ما قد يفسر انخراط جزء من أبنائها في
الكتائب النظامية.. هم الآن مهجرون داخل ليبيا وممنوعون من العودة إلى
مدينتهم مخافة التعرض للانتقام، ولم تفلح مساعي العقلاء ووجهاء المنطقة من
إصلاح ذات البين وطي صفحة الماضي الأليم, فصارت تاورغاء شتاتا في مخيمات
داخل البلاد ورديفا للمطاردة والنبذ.
يعايش الفيلم مأساة نازحي تاورغاء ويستعيد مأساة أبناء مصراته في
ظل مؤسسات دولة غائبة تكتفي بالتنظير للمصالحة الوطنية وتقصّي الحقائق
والعدالة الانتقالية دون أثر فعلي على الأرض. وحدهم بعض
الناشطين المنتمين لتاورغاء الذين شاركوا في الثورة، يواصلون الجهد بتوثيق
معاناة أبناء بلدتهم الموزعين بين مخيمات النزوح التي لا تسلم من التعرض
لهجمات مسلحة كما المسيرات السلمية للنازحين.
الطريق إلى تاورغاء لا يقاس بالمسافة ولا بالزمن، بل بخطوات بناء الدولة والمجتمع الجديدين في ليبيا، وهو طريق يبدو طويلا جدا. في
حلقة "الطريق إلى تاورغاء" من برنامج "تحت المجهر" معالجة فنية حميمية
لموضوع شائك ومؤلم، جمعت بين الوثيقة التاريخية والشهادة الحية والصورة
الفنية المبدعة البعيدة عن التبئيس فنا وموضوعا.
المصدر:الجزيرة.نت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق