صدر مؤخرًا للباحث العراقي الدكتور علي خضير مرزا كتاب تحت عنوان: "ليبيا.. الفرص الضائعة والآمال المتجددة". يقدم
الكتاب نظرة شاملة للتطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية خلال العقود
الخمسة التي انتهت بتغيير نظام الحكم. وهو يتبع في عرضه مسارًا مترابطًا،
يبدأ من تفاعل نمو السكان وتغير تركيبته الحضرية/الريفية/البدوية، وهيمنة
النظام الجماهيري. ثم ينتقل إلى العلاقات الخارجية، ويبين الارتباط الوثيق
بينها ومتطلبات بقاء النظام. بعد ذلك يتطرق إلى إدارة اقتصادية تبدلت
وتقلبت خلال أدوار ثلاثة تتابعت من مد ثوري ثم ركود اقتصادي/سياسي طويل
الأمد، ثم انصياع لتبدل الظروف الدولية. لقد صبَّت نتيجة هذه التطورات في
زعزعة أسس التنويع الاقتصادي. وبعد أن أطيح بنظام العقيد
فإن النظام الجديد سيتأثر طويلاً بمقومات الدولة الريعية التي ورثها؛ لذلك
يتعرض الكتاب إلى جذور الانتفاضة، ثم لنظرة مستقبلية حول إمكانية التحول
الديمقراطي والتنويع الاقتصادي. وينحى الكتاب منحًى موضوعيًّا بعيدًا عن
النتائج والأحكام المسبقة. غير أنه يتبنى التوجه الإيجابي في استخلاص
الدروس والعبر لاقتراح توصيات تتعلق بمختلف السياسات الاقتصادية
والاجتماعية المستقبلية.
السكان والنظام السياسي
يتناول الكتاب التطورات السكانية في ليبيا لنجد أن عدد السكان بلغ
6.4 مليون نسمة في 2010م (5.7 مليون منهم ليبيون). ويعيش معظم سكان ليبيا
في الشريط الساحلي الشمالي المحاذي للبحر المتوسط، كما يعيش في حواضر المدن
89 بالمائة من السكان، أما الباقي ففي الريف، وقسم يكاد أن يتلاشى من
القبائل شبه الرحل. إن مجتمعًا تعوزه الأرض الزراعية/الماء لا يمكن أن
يستمر بهذه النسبة من الحضرية بدون الريع النفطي. ومنذ
إجراء أول تعداد سكاني في 1954م (وحتى آخر تعداد في 2006م), تُبَيِّن قصة
الانتقال من البداوة/الريف إلى المراكز الحضرية أن جزءًا مهمًّا من السكان
انتقل مباشرة من البداوة إلى هذه المراكز بدون المرور بالتوطن
الريفي/الزراعي. وكان ذلك يمثل انتقالاً من صيد الصحراء إلى صيد الريع
النفطي ونقل القيم البدوية/القبلية إلى المدينة. ذلك أن تجربة الدول الأخرى
-بما فيها ليبيا- بينت أن المرور بالريف/الزراعة يُتيح مجالاً لتخفيف
القيم البدوية الرعوية من خلال اكتساب قيم الجد والعمل التي تتطلبها
الزراعة. وفي الوقت الحاضر فإن الهرم السكاني يتسم
بانتفاخه الوسطي؛ إذ أخذت نتائج توسع الولادات خلال الفترة (1954-1984م)
تتبين في توسع وسط الهرم وضيق قاعدته الآن، ويؤدي التوسع أو الانتفاخ
الوسطي للهرم السكاني إلى زيادة عرض العمل بأسرع من النمو السكاني. ولقد
زاد من هذا العرض مشاركة أوسع للمرأة في سوق العمل، وكان نتيجة ذلك توسع
البطالة وزيادة معدلها حتى وصل إلى 21 بالمائة عام 2006م. كما
يستعرض تاريخ ليبيا وجغرافيتها والنظام السياسي وتطور الطبقة المتوسطة في
عهد الجماهيرية. ويلاحظ أن ليبيا عبر تاريخها لم تكن وَحدة متماسكة, بل
كانت تنقسم إلى ثلاثة أقاليم: إقليم شرقي أقرب للمشرق العربي، وآخر غربي
أقرب للمغرب العربي، وثالث جنوبي أقرب إلى أفريقيا. وبالرغم من أن نظام
الجماهيرية حاول فرض وَحدة جامعة إلا أن الاختلافات بين هذه الأقاليم
استمرت إلى يومنا الحاضر. لقد تحول النظام السياسي الذي أعقب النظام
المَلَكي في عام 1969م إلى نظام الحزب الواحد بعد أن وعد بالإصلاح والحرية؛
فبعد تجربة فاشلة في إقامة حزب واحد -على غرار الاتحاد الاشتراكي الناصري-
بدأ القذافي بثورة ثقافية في 1975-1977م لتأسيس حكم الحزب الواحد من خلال
اللجان الثورية.
ولقد أصبحت الجماهيرية -بعد إعلان سلطة الشعب- مثالاً لدولة
شمولية يسيطر عليها الأخ الكبير من خلال بنية رسمها في الكتاب الأخضر
وطبقها في تكوين هياكل وتنظيمات سياسية ومناطقية أتاحت له الهيمنة على
النظام السياسي والتأثير في التطورات الاجتماعية والاقتصادية الفاعلة بدون
أن يخضع للمساءلة. ولاشك أن هذه الهيمنة وانعدام المساءلة ما كان يمكن أن
تكتمل بدون سيطرة موازية على الطبقة المتوسطة؛ فمن خلال توسع الاستخدام في
أجهزة الدولة ومنشآت القطاع العام, فإن هذه الطبقة ترعرعت في قفص الدولة
وتحت سيطرتها. ولقد نتجت هذه السيطرة من تبعية اقتصادية تعود إلى مصدر
الدخل، وتبعية سياسية/أمنية تعود إلى القضاء على التيارات السياسية
المناوئة بالقوة والعنف وفرض الأيديولوجية الجماهيرية وقيام نظام شمولي
أمني. ويلاحظ في هذا الفصل أن الطبقة المتوسطة في ليبيا
قد تستمر ببقية من هذه التبعية لفترة قد تطول أو تقصر, مع كل ما يعنيه ذلك
من تأثير على إمكانية التغيير السياسي والاقتصادي في المستقبل. كما
يتطرق الكتاب إلى السياسة الخارجية التي ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالنظام
السياسي. ويستعرض نمط الصادرات السلعي والجغرافي، ويلاحظ تركزًا شديدًا في
السلع والمناطق الجغرافية. ثم يستعرض تاريخ التضخم في
ليبيا خلال العقود الأربعة الماضية التي توافرت عنها البيانات. ويتعرَّض
إلى الخصخصة، ويبين أن توجه ليبيا نحو الخصخصة مسألة فرضتها الظروف الدولية
من ناحية، وتواضع أداء المنشآت العامة من ناحية أخرى، بالرغم من أنها
تتناقض مع أيديولوجية النظام. وأخيرًا يتطرق إلى أسس زعزعة التنويع
الاقتصادي التي نتجت من السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتقلُّبات
السياسية والمؤسسية خلال العقود المنصرمة.
جذور الانتفاضة والمستقبل في الدولة الريعية
كما يتعرض الكتاب إلى جذور الانتفاضة، ثم لنظرة توقعية حول
المستقبل في ظل الطبيعة الريعية للدولة؛ من حيث إمكانية التحول الديمقراطي
والتنويع الاقتصادي. ويتساءل الباحث: هل التحول الديمقراطي ممكن بعد التغيير في ظل دولة ريعية؟ و"الدولة
الريعية" هي تلك التي تعتمد بمعظم صادراتها وتمويل ميزانياتها العامة على
تصدير النفط، إضافة لذلك تمتلك أو تسيطر الدولة فيها على معظم العوائد
النفطية. ولقد أُقيمت في هذه الدولة -ليبيا أو غيرها من الدول الريعية-
آليات لاستخدام الريع النفطي في مكافأة الولاء وفي الحرمان منه، واستخدام
العنف في معاقبة المعارضة لغرض استمرار نظام الحكم والتحالفات السياسية
والاجتماعية المساندة له. ومن الناحية الاقتصادية: تتسم
هذه الدول بما يُسمى "المرض الهولندي" الذي يقود إلى المبالغة في سعر صرف
العملة، ومن ثَم إلى انخفاض التنافسية، وبالنتيجة غلبة الأنشطة غير
التصديرية. ومن الناحية الاجتماعية: ساندت المجتمعات
الريعية أعدادًا متزايدة من العاملين لدى الدولة، والذين يتسم أغلبهم بضعف
المبادرة والعمل الجاد. ومن الناحية السياسية: انتشرت الممارسات والمؤسسات غير الديمقراطية. إن
الاستقلال المالي للدولة وقابليتها في ترويض المعارضة وتجنب المساءلة ساهم
في تقوية النظام الاستبدادي، وخلق مناخًا معاديًا للمشاركة الديمقراطية
ومعرقلاً لوجود آليات للمراقبة والموازنة. وبعد أن يعرض
للتحديات الاقتصادية التي تواجه العهد الجديد في إعادة تأهيل المنشآت
النفطية ورأس المال الإنتاجي المدمر نتيجة للنزاع المسلح, وفي إعادة تفعيل
البرنامج التنموي (2008-2012م) أو برنامج استثماري آخر خلال الأمدين القصير
والمتوسط؛ يثير سؤالاً آخر وهو: هل يمكن تحقيق التنويع الاقتصادي بعد التغيير في ظل دولة ريعية مثل ليبيا؟
يمكن تعريف "التنويع الاقتصادي" بأنه ذلك الهيكل الاقتصادي الذي
تُوَلَّد فيه غالبية العوائد بالعملة الأجنبية من أنشطة متنوعة غير نفطية،
ويعمل في هذه الأنشطة النسبة العظمى من العاملين. في ضوء
هذا التعريف يجيب الفصل على التساؤل المطروح بأن تحقيق التنويع الاقتصادي
يعتمد على تغيير نمط الاستخدام السائد بشكل جوهري بعيدًا عن أجهزة الدولة
ومنشآت القطاع العام. ولكنه يلاحظ أن تغيير نمط الاستخدام واستيعاب البطالة
بشقيها المكشوفة والمقنعة وتوليد فرص عمل جديدة للداخلين إلى سوق العمل
خارج استخدام الدولة؛ يثير معضلة يصعب حلها. فمن ناحية, فإن استمرار ملكية
الدولة لعوائد النفط سيدفع دائمًا لتوسع الاستخدام الحكومي لأسباب سياسية
ومجتمعية، ومن ناحية أخرى, فإن تغيير نمط الاستخدام بعيدًا عن الاستخدام
الحكومي يحتاج إلى تغيير جوهري في نمط الإنتاج من نمطه الحالي إلى آخر
يعتمد على طلب متنامٍ ومستديم. ولا تتحقق هذه الاستدامة إلا من خلال طلب
خارجي كبير وليس طلب داخلي محدود. وفي هذا الإطار فإن
النشاطات المرشحة لتحقيق هذا التغيير هي الصناعة والخدمات الإنتاجية بما
فيها السياحة، غير أن التغيير المنشود في الحجم والهيكل وسرعة النمو خاصة
في الصناعة من الضخامة بحيث يصعب تصور تحقيقه في ظل القيم والمؤسسات
السائدة والتجربة التاريخية، ويقدم مثالاً رقميًّا على ضخامة التغيير
المطلوب وصعوبة تحقيقه. ومع ذلك, وبالرغم من الشك الذي أثير حول إمكانية
الوصول إلى تغيير من هذا النوع؛ يتم عرض بعض التوصيات المناسبة التي قد
تساعد في طريق التنويع الاقتصادي.
المصدر: الإسلام اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق