د. محـمـد محـمـد المـفــتي- يكاد يكون من غير المجدي تركيز النقـد على
المؤتمر الوطني الفاقد لدوره وهـيـبــته، وعلى الحكومة الغائبة إلا من
تصريحات لا أثـر لـها في الواقـع.
ما يـهـدد ليبــيا حـقـا الآن، هـو انهيار الأمن الشخصي للمواطن.. نتيجة اسـتشــراء الاغتيالات الغامضـة.. ربما لثــأر شخصي أو خـلاف على أرض أو صـفـقـة تـهـريب. ويبـدو أن هـذا الأمر قـد بلغ درجـة خـطـرة للأســف في تونس ومصر، كما حـدثني صـديقي الأسـتـاذ أحمـد الفيتــوري رئيس تحرير صحيفة ميادين: ".. ففي تونس، قـرب وقـت المغـرب.. يختفي الناس من المقاهي والشوارع، فجأة كما لو كانوا على اتفاق.. وفي القاهرة يحذرك أصدقاؤك ألا تخرج ما معك من دولارات في مكان عـام.. مقهى مثلا.. لأن أحدهم ربما من الجالسين، يراك ويتبعك عند خروجك ليوقـفـك بنصل سكينه.. ويحذرونك بضرورة اختيار التاكسي...". لم نصل بـعـد إلى هـذا المستوى لكنـنــا لســنا بعيدين !
غياب الأمن الشخصي يعني شـلل الإدارة، وتعطل مختلف جوانب الحياة، فالحكومة تشيح بصرها عن شتى الاعتداءات والتجاوزات، ولا تفصح حتى عن نيتها في التحقيق فيها، والوزير يخشى نقل أو فصل موظف. والمؤتمر، قياسا على تمرير قانون العزل قادر على اتخاذ قرار حاسم لصالح الوطن.. ولا القاضي آمن، ولا هناك ضبط قضائي لتنفيذ أحكام المحاكم، ولا الضابط بل ولا شرطي المرور قادر على التوقيف وتحرير المخالفات، بل المصارف تخشى بيع الدولار أو اليورو لمحتاجـيه، فـمبعوثي تجار العملة بأسلحتهم يرغمون موظف على بيعـهـا له.. والمواطن مهدد حين يسحب مبلغا كبيرا لدفع أجـور عمال لديه.. وصاحب الأرض التي منحت لغيره بقوانين القذافي، لا يسـتطيع اســترداد عـقــاره. وطالب الثانوية يطرد من الامتحان ليـعـيده المدرس بعد ربع سـاعة !! وأسـئلة امتحـان مادة كذا، تسـرب، وينشـرها أحدهم الطلبة على الإنترنت.. إلخ.
وقبل أكثر من عام، في أبريل 2012، نشـرت مقالا بعنوان كوابيس الدولة الفاشلة، جاء فيه: " فـشـل الدولة، مصطلح حديث.. يعني فقدان مؤسـسـات الدولة لفعاليتها، والتعبير قريب الدلالة من الفشل العضوي في الجسم.. الفشل الكلوي، هبوط القلب.. فشل الكبد.. وهكذا. ولعل أبرز حالات فشل الدولة هو ما نراه في الصومال وبعض دول غرب أفريقيا.. وقـد اختصر الخبراء أهم أعراض فشل الدولة في ثلاثة مظاهر أسـاسية وهي:
• فقدانها السيطرة على الأمن والسلاح،
• وعجزها عن السيطرة على حدودها وحركة الناس عبرها.
• وثالثا فقدان الثقة في ما تصدره من عملة وحركة العملة عبر الحدود بالتهريب وغيره.
بغض النظر عمن يتـبــوأ مراكـز السلطة، علينا جميعا نـدرك هـذه المخــاطر التي نـنـزلــق كل يــوم نحــوها، وعلينـا أن نبحث عـن حـلول لـهـا، لأن اســتشــراءها سـوف يعـدد حـيـاتـنـا جمـيـعـا، بغض النظـر عن خـلافاتنـا الفكرية أو السياسية.
عليـنــا أن نـعـترف
"الواقــع السياسي متـقـاصي.. تعازي المسئولين لأهـل بنـغـازي خـافـتـة.. ولا حـلول فـوريــة.. بل أكابر المسئولين يخاطبون الناس عبر تسجيلات فيديو ربما في مربوعـة، أثــناء زيارة لم يعلن عنـها. شــنو صـاير بالله؟" هكذا عـلـق المناضل المهجـري والكاتب الساخر، فتح الله بـزيــــو، الذي كتب في الـعـقـد الماضي، سـلسـلة طويلــة من المـقـالات تحـت عـنـوان "عـبث الكـوازي في بنـغــازي" يفضـح فيــها نظــام القـذافي.
علينا أن نعترف أن الحكومة تستجيب بردود أفـعـال ولا تبادر، وحين تتحدث تـعـد ولا تـقـدم حـلولا، وبتصـريحات أقـرب إلى المسكنات الدوائية دون علاج. فلا المؤسسات نقلت، ولا النازحين غـادروا مخيماتهم البائسة، ولا الجنـوب في مأمن.
وعلينا أن نعترف بأن المـؤتــمر الوطني خـائر القوى وربما انتهى كمؤسـســة سـياسيـة منذ اقتحــام الكريمية، وموافـقـتـه على قــانون الـعـزل في وجـود 120 نعش فاضي، خـارجـه. وعليـنــا أن نـعـترف أن ليبــيا مقسـمة بالفـعـل الآن. فحين صرح مسئول قبل أيام ردا على المحكمة الدولية، بأن الحكومة سـوف تنقـل سـيف القـذافي إلى طرابلس، قال صديقي الدبلوماسي المخضرم: ".. هـذه فضـيحـة في حـد ذاتـها.. اللي في عـقـلك تـخـرّب جـوابك!". كيف تقول الحكومة "سـوف ؟ إنـها تـفـصـح دون أن تـدري عن ضـعـفـها".
إذا ما الحل؟ لابـد من الاعـتـراف بـواقــع الأمـور، فتلك هي أول خـطـوة نحـو حل المشــكلات وتجـــاوز السلبيات. لدينا كتائب مسلحة، ولدينا دويلات داخل الدولة، فـلتكن نقطـة البـداية من هـذه الحـقــائق.
صـورة الثــوار
السؤال الذي اخـترعـه البعض ليواجـهـونك بـه كلما نطقت بكلمة ثـوار، هـو " بس قول لي من هـم الثــوار؟". صحيح تضخم عدد المسلحين والكتائب، لكننا لا نتحدث عن كل حامل سـلاح، بل نقـصـد القيادات، ومن لديهـم القـدرة على الـعـمل السياسي، وهـؤلاء معروفين وســيرهم النضالية لا غـبـار عليهـا مهما كانت الاختـلافات.
السؤال عن من هم الثوار لا يخلو من خبث، لكنه لا يخلو من حـقـيقـة، فالآن وبعد عامين من التخـبـط، لا أحد يمكنـه أن يتجاهـل أن صورة الثـائر كبطل وطني.. وهذه صـورته الحـقـيـقـية، قـد تحولت في أعين المواطن البسيط إلى صورة المسلح المتعجـرف المعرقل لمسيرة البلاد نحو الاسـتـقـرار والازدهــار. نعم هـنـاك تـشـويه متـعـمـد مـِن قبل مَـن شـعـروا أن الثـورة قضت على امتيازاتهم أو هـددت مصالحـهـم. كما أن فقدان الثقة في الثــوار مرجعه إحساس الناس بخيبة الأمل. لقد توقع المواطن أن تحـقق لـه الصورة ما كانوا يفتقـدونه.. الحرية، الأمن، الاسـتقرار، تأمين مصادر رزق.. تحسن في خدمات الصحة والتعليم.. وهـكـذا.
لكن السبب الرئيسي هـو غـياب برنــامج سيـاسي للثـورة، وارتباك في تحـديد الأولويات. فبعض فصائل الثوار وضعت مسائل أخرى في مصاف الأولوية بـدءا من هـدم أضرحـة إلى حصار الـوزارات في طرابلس واقتـحـام المؤتمر الوطني في الكريمية ناهيك عن التجاوزات كاختطاف الأفـراد، وهي تصرفات تتعـدى القضاء وسـيادة القانون، وتخترق حـقـوق الإنسان وتثير الرأي العام. لهذا كله شــوهـت صـورة الثـــوار. ولابد أن نســأل أنفـسـنا بصـدق.. هل هـذه أولويات سـياســية ؟؟
أيضـا... ضمن قائمة ما نسـب للثـوار أو اتهـمـوا به، طبعا اغتيال عبد الفتاح يونس، ومقتل السفير الأمريكي، ومحاولة اغتيال السفير البريطاني والإيطالي، وحادثة الاعتداء على الأسرة الباكستانية المتوجـهـة إلى غـزة. هـنا يلام الثوار أنهم لم يجروا تحــقـيقا مقنعا في هـذه الحوادث المأساوية والتي هـزت عواطف الناس. وهناك أخيرا سـلسـلة الصدامات والتفجيرات والاغتيالات.. التي كان خصوم الثورة يتـهـمـون بـهـا الثوار. هذه الأحداث في مجموعها خلقت جـوا من الحـيــرة والخـوف. ولم يــدافـع الثــوار عن أنـفـســهـم ؟
أعـتـقـد أيضـا أن بعض الثـوار وباسـم الثـوار، تورطـوا في إصرارهـم على قانون العـزل، واقتحـام وإرغــام المؤتمر الوطني السلطة الوحيدة المنتخبة. اقتحـامات أزعجت المواطنين، وأظهرتنا في صورة غير لائقة أمام العالم. و لا أعـتـقد أن هذا القانون يضيف جـديدا نافـعـا. فأعـوان القذافي الحقـيـقـيـين عـزلوا أصلا بالموت، والسجن والهروب إلى الخـارج. ولجنة النزاهة قادرة على إبعاد من تبقى منهم.
خـطـر المجـهـول
لـقـد عانى الليبيون لأربعة عـقـود من بطش القذافي الذي أرعـبـهم بالاعـتـقــالات والمشـانـق وسـلبهم حرية الرأي والكلمة، وحرية التجارة، وحرية امتلاك عـقـار. على الصعيد النفسي كانت مشكلة الليبيين مع نظام القذافي هي جـهـلـهـم بما سـيأتي به الغـد؟ مستقبل كل شخص مجهول.. مستقبل الوطـن مجهول ومهـدد بالفوضى. ولم تكن مجـرد لعبة جنونية.. بل كانت وسيلته في التحكم حتى في أعوانه اللصيقين به.. وفي البلاد كلها. كان فردا متحكما في رقاب العـبــاد ومـقـدرات البــلاد، ولا شئ يحدث إلا بأمره، وأوامره مزيج من العشوائية والنزق.
نحن الآن، ونتيجة وجـود مراكز قـوى متـعـددة.. للأسـف نعيش حالة من الفوضى السياسية والإدارية .. كل يقـرر وكل ينطـق على هــواه.. بل أحيانا يفعل البعض ما يحلو لهم، ولتكن مظاهرة أو اقتحـام، فـتـنـشأ مضاعفات نـُهـدِر الوقت في كبحـهـا من أجل إعادة الأمور إلى طبيعتها..
نحن بحـاجـة للعــالـم الخـارجي
ولهذا أمست البلاد تقفـز من أزمة إلى أخرى وبشكل عشـوائي.. مما قــاد إلى حـالة من الشلل.. في الاقتصاد، و إعمار البلاد وإعادة بناء القوات المسلحة والشرطة.. وهـذه كلـهـا تحـتـاج إلى عـون الدول الأخـرى التي للأسـف فـقـدت ثـقـتهـا في النظـام الليبي بينما نحن في أمس الحـاجـة للعالم الخـارجي.
نحن أسـاسـا دولة فـقـيرة، ورغم النفط الذي رزقنا الله به، مواردنا قليلة: نسـتورد غـذاءنا، والمياه شـحيحة ومكلفـة. مواردنا البشرية أيضا محـدودة. نحن إذن بحـاجـة إلى إدارة عالية القـدرات، وأيضــا بحـاجـة لمـعـونـة العالم الخـارجي. علينا أيضا أن ننظر إلى ثـروة النفط في ســياق موضوعي. تقنية النفط يملكها الغرب.. الاسـتكشاف، الحفـر، الاسـتخراج، مـد الأنابيب، مواني التصـدير، مصافي التكرير.. وهم الذين يشـترونه، وهم الذين يحـددون قيمة النقـد عالميا وأســعار السـلع التي نـشـتريها بما يأتي به النفط.. من سيارات، وطائرات، وسلاح، ومعدات مستشـفيات، ومحطات كهرباء.. إلى الملبس والـغــذاء.. وحتى مضخات المجاري وأجـهـزة إطـفـاء الحريق.
هذه الاعتبارات جميعها تلزمنا بحسن التعامل مع العالم الخارجي.. والالتزام بقـواعـد اللـعـبـة الدوليـة.... ولنسميهم بعد ذلك ما شــئنا.. لكن علينا ألا نخـدع أنفســنا، على الأقـل. والعالم الخارجي بحاجـة إلى أن يطمئن بأن الدولة الليبية ستحرص على حماية مصالحه (النفط والحد من الهجرة ). وحين تتـهـدد مصالحـه، لن تأخـذه بنـا شــفـقة، ويسـتطيع أن يجـند أو يتحالف مع القوى المجاورة لجرنا إلى صراعات مدمرة.
مــأزق الســلاح اللـعـين
تحليلات كثيرة لوضعنا الراهن تنتهي إلى مجــرد تمنيات فضفاضة دون حلول: ليبيا بخير، الليبيين طيبــين، مرحلة وتـزول..الخ أو بديهيات مثل أي تصعيد ثمنه دماء، أو نصائح وعظية عامة مثل لا لتبادل الاتهامات، ويجب نبذ السلاح، أو لا الفتنة. لكن الأماني والمواعـظ وحدها لن تغير الواقـع. والليبيون بشر ويصدق عـليهم ما يصدق على بقية البشرية. ومجتمعنا ليس استـثناء. ومثل هـذه الظروف التي نعيشها اليوم، قادت مجتمعات أخرى إلى الانقسـام والحرب الأهلية والدمار. فعلينا أن نبحث عن حلول فعالة.
لن أرهـقكم بقائمة طويلة من المشاريع المطلوبة... لأن كل المشاريع والأحـلام محكوم عليها بالفـشل ما لم تتناول المعضلة الأسـاسية والتي علينا مواجـهـتها بصدق وصراحة. مشكلتنا تكمن في وجود هذا السلاح اللعين. والذي بسببه ظهرت مراكز قـوى وكيانات.. كل يحتفظ ببندقيته ومدفعه، ويرفض تسليمها. هكذا هـم البشر، تحركهم غرائز الخـوف والطمـع مهما كانت تـبـريـراتـهـم وشـعاراتـهـم. ولن يمكننا تجـاوز هذه العـقــبة خلال شـهور أو بضع سـنين.
علينا إذن أن نعترف بما وصلت إليه الأمور، وبالكيانات التي اسـتقـرت مهما بدت غير مقبولة.. لنمسي شـركاء كل بقدر ما يمتلك من سـطوة ومن نفـوذ. أليس هـذا ما هـو واقـع بالفـعـل؟ على أمل أن يعيد المجتمع تشكيل نفسـه خلال العـقـود القادمة. وما لم نصل إلى توافـق صــادق فسـتبقى البوابة مـشـرعـة لصدامات وانقـســامات أبشـع مما مـرّ بنـا حتى الآن. والتوافـق الصادق لا يعني تصريحات وأماني، وإنما إئـتـلاف سـياسي يشـرك كل الأطراف.
لماذا لا نـؤسـس مجلس دولــة ؟
ومن هذا المنطلق، ولمواجـهـة هذه الفترة الانتقالية، أعتقد أن تأسيس مجلس دولة مؤقت قد يمثل الحل الأمثل للخـروج من هذه الدوامـة. الوضـع الحــالي خـطـير لأن البلاد ما تـزال بدون سلطة سيادية عـليا. فالمـؤتمر ســلطة تشريعية محددة المهــام والاختصاصات للإعـداد للدسـتور وصياغته، وربما إصدار تشريعات ملحـة. والحكومة سلطة تنـفـيـذية لتســيـير الأمـور.
وإنني على قناعـة بأننا سـنقطع نصف المسافة نحو تطبـيع الأمـور، لو أنشــأنا مجلس دولــة مـؤقـت، ربما من عشـرة أعضـاء، مثـلا من رئيس مســتـقـل، وممثلين عن الكيانات السياسية (الثوار، التحالف، حزب العدالة، التيار الفيدرالي، رئيس الأركان).
ويقوم مجلس الدولة بتعيين ولاة للمناطق التي ربما تصل 15 إقـليم أو ولاية أو محافظـة، ويكون للوالي المحلي صلاحيات المحافظ والحاكم العسكري. ويشكل الولاة معـا، بالإضافة لعملهم المحلي، هيئة اسـتشارية لمجلس الدولة. قد يعترض البعض.
لكن البلاد في ظرف استثنائي، والأمـر شــبيه بتـعـيين حكامٌ عسكريـون، وهـو ما يتـم عــادة دون ضجـيــج قـانـــوني؟؟
من أجـل الأجـيــال القادمـة
عليـنا نحـن كل الليبيين.. عليـنـا أن نـدرك أننـا لن نجني من كل هذه الصراعـات إلا الخراب، ونحـن أشـد ما نكـون في حــاجـة للتســامح وتحكيم العـقـل. على الأقل لكي نبقي للأجـيــال القادمـة شـيئا يفخـرون بـه، ويدعـون لنـا بالمـغـفــرة والرحـمـة.
دون مبادرة فـعـالـة، يبقى الأمل الوحيد في أن الناس يريدون الاستقرار.. والمجتمع ينشـد الاستقرار فلا استمرار للحياة بدونه.. يومـًـا ما سينبذ الفوضى ويستعيد تماسكه تدريجيا أو هكذا نأمل.. لكن متى ؟ وهل سيتحـقـق في حياتنا ؟ لم يبق سـوى بصيص من الأمل..في أن يخرس السلاح ويعـود العـقـل.
ما يـهـدد ليبــيا حـقـا الآن، هـو انهيار الأمن الشخصي للمواطن.. نتيجة اسـتشــراء الاغتيالات الغامضـة.. ربما لثــأر شخصي أو خـلاف على أرض أو صـفـقـة تـهـريب. ويبـدو أن هـذا الأمر قـد بلغ درجـة خـطـرة للأســف في تونس ومصر، كما حـدثني صـديقي الأسـتـاذ أحمـد الفيتــوري رئيس تحرير صحيفة ميادين: ".. ففي تونس، قـرب وقـت المغـرب.. يختفي الناس من المقاهي والشوارع، فجأة كما لو كانوا على اتفاق.. وفي القاهرة يحذرك أصدقاؤك ألا تخرج ما معك من دولارات في مكان عـام.. مقهى مثلا.. لأن أحدهم ربما من الجالسين، يراك ويتبعك عند خروجك ليوقـفـك بنصل سكينه.. ويحذرونك بضرورة اختيار التاكسي...". لم نصل بـعـد إلى هـذا المستوى لكنـنــا لســنا بعيدين !
غياب الأمن الشخصي يعني شـلل الإدارة، وتعطل مختلف جوانب الحياة، فالحكومة تشيح بصرها عن شتى الاعتداءات والتجاوزات، ولا تفصح حتى عن نيتها في التحقيق فيها، والوزير يخشى نقل أو فصل موظف. والمؤتمر، قياسا على تمرير قانون العزل قادر على اتخاذ قرار حاسم لصالح الوطن.. ولا القاضي آمن، ولا هناك ضبط قضائي لتنفيذ أحكام المحاكم، ولا الضابط بل ولا شرطي المرور قادر على التوقيف وتحرير المخالفات، بل المصارف تخشى بيع الدولار أو اليورو لمحتاجـيه، فـمبعوثي تجار العملة بأسلحتهم يرغمون موظف على بيعـهـا له.. والمواطن مهدد حين يسحب مبلغا كبيرا لدفع أجـور عمال لديه.. وصاحب الأرض التي منحت لغيره بقوانين القذافي، لا يسـتطيع اســترداد عـقــاره. وطالب الثانوية يطرد من الامتحان ليـعـيده المدرس بعد ربع سـاعة !! وأسـئلة امتحـان مادة كذا، تسـرب، وينشـرها أحدهم الطلبة على الإنترنت.. إلخ.
وقبل أكثر من عام، في أبريل 2012، نشـرت مقالا بعنوان كوابيس الدولة الفاشلة، جاء فيه: " فـشـل الدولة، مصطلح حديث.. يعني فقدان مؤسـسـات الدولة لفعاليتها، والتعبير قريب الدلالة من الفشل العضوي في الجسم.. الفشل الكلوي، هبوط القلب.. فشل الكبد.. وهكذا. ولعل أبرز حالات فشل الدولة هو ما نراه في الصومال وبعض دول غرب أفريقيا.. وقـد اختصر الخبراء أهم أعراض فشل الدولة في ثلاثة مظاهر أسـاسية وهي:
• فقدانها السيطرة على الأمن والسلاح،
• وعجزها عن السيطرة على حدودها وحركة الناس عبرها.
• وثالثا فقدان الثقة في ما تصدره من عملة وحركة العملة عبر الحدود بالتهريب وغيره.
بغض النظر عمن يتـبــوأ مراكـز السلطة، علينا جميعا نـدرك هـذه المخــاطر التي نـنـزلــق كل يــوم نحــوها، وعلينـا أن نبحث عـن حـلول لـهـا، لأن اســتشــراءها سـوف يعـدد حـيـاتـنـا جمـيـعـا، بغض النظـر عن خـلافاتنـا الفكرية أو السياسية.
عليـنــا أن نـعـترف
"الواقــع السياسي متـقـاصي.. تعازي المسئولين لأهـل بنـغـازي خـافـتـة.. ولا حـلول فـوريــة.. بل أكابر المسئولين يخاطبون الناس عبر تسجيلات فيديو ربما في مربوعـة، أثــناء زيارة لم يعلن عنـها. شــنو صـاير بالله؟" هكذا عـلـق المناضل المهجـري والكاتب الساخر، فتح الله بـزيــــو، الذي كتب في الـعـقـد الماضي، سـلسـلة طويلــة من المـقـالات تحـت عـنـوان "عـبث الكـوازي في بنـغــازي" يفضـح فيــها نظــام القـذافي.
علينا أن نعترف أن الحكومة تستجيب بردود أفـعـال ولا تبادر، وحين تتحدث تـعـد ولا تـقـدم حـلولا، وبتصـريحات أقـرب إلى المسكنات الدوائية دون علاج. فلا المؤسسات نقلت، ولا النازحين غـادروا مخيماتهم البائسة، ولا الجنـوب في مأمن.
وعلينا أن نعترف بأن المـؤتــمر الوطني خـائر القوى وربما انتهى كمؤسـســة سـياسيـة منذ اقتحــام الكريمية، وموافـقـتـه على قــانون الـعـزل في وجـود 120 نعش فاضي، خـارجـه. وعليـنــا أن نـعـترف أن ليبــيا مقسـمة بالفـعـل الآن. فحين صرح مسئول قبل أيام ردا على المحكمة الدولية، بأن الحكومة سـوف تنقـل سـيف القـذافي إلى طرابلس، قال صديقي الدبلوماسي المخضرم: ".. هـذه فضـيحـة في حـد ذاتـها.. اللي في عـقـلك تـخـرّب جـوابك!". كيف تقول الحكومة "سـوف ؟ إنـها تـفـصـح دون أن تـدري عن ضـعـفـها".
إذا ما الحل؟ لابـد من الاعـتـراف بـواقــع الأمـور، فتلك هي أول خـطـوة نحـو حل المشــكلات وتجـــاوز السلبيات. لدينا كتائب مسلحة، ولدينا دويلات داخل الدولة، فـلتكن نقطـة البـداية من هـذه الحـقــائق.
صـورة الثــوار
السؤال الذي اخـترعـه البعض ليواجـهـونك بـه كلما نطقت بكلمة ثـوار، هـو " بس قول لي من هـم الثــوار؟". صحيح تضخم عدد المسلحين والكتائب، لكننا لا نتحدث عن كل حامل سـلاح، بل نقـصـد القيادات، ومن لديهـم القـدرة على الـعـمل السياسي، وهـؤلاء معروفين وســيرهم النضالية لا غـبـار عليهـا مهما كانت الاختـلافات.
السؤال عن من هم الثوار لا يخلو من خبث، لكنه لا يخلو من حـقـيقـة، فالآن وبعد عامين من التخـبـط، لا أحد يمكنـه أن يتجاهـل أن صورة الثـائر كبطل وطني.. وهذه صـورته الحـقـيـقـية، قـد تحولت في أعين المواطن البسيط إلى صورة المسلح المتعجـرف المعرقل لمسيرة البلاد نحو الاسـتـقـرار والازدهــار. نعم هـنـاك تـشـويه متـعـمـد مـِن قبل مَـن شـعـروا أن الثـورة قضت على امتيازاتهم أو هـددت مصالحـهـم. كما أن فقدان الثقة في الثــوار مرجعه إحساس الناس بخيبة الأمل. لقد توقع المواطن أن تحـقق لـه الصورة ما كانوا يفتقـدونه.. الحرية، الأمن، الاسـتقرار، تأمين مصادر رزق.. تحسن في خدمات الصحة والتعليم.. وهـكـذا.
لكن السبب الرئيسي هـو غـياب برنــامج سيـاسي للثـورة، وارتباك في تحـديد الأولويات. فبعض فصائل الثوار وضعت مسائل أخرى في مصاف الأولوية بـدءا من هـدم أضرحـة إلى حصار الـوزارات في طرابلس واقتـحـام المؤتمر الوطني في الكريمية ناهيك عن التجاوزات كاختطاف الأفـراد، وهي تصرفات تتعـدى القضاء وسـيادة القانون، وتخترق حـقـوق الإنسان وتثير الرأي العام. لهذا كله شــوهـت صـورة الثـــوار. ولابد أن نســأل أنفـسـنا بصـدق.. هل هـذه أولويات سـياســية ؟؟
أيضـا... ضمن قائمة ما نسـب للثـوار أو اتهـمـوا به، طبعا اغتيال عبد الفتاح يونس، ومقتل السفير الأمريكي، ومحاولة اغتيال السفير البريطاني والإيطالي، وحادثة الاعتداء على الأسرة الباكستانية المتوجـهـة إلى غـزة. هـنا يلام الثوار أنهم لم يجروا تحــقـيقا مقنعا في هـذه الحوادث المأساوية والتي هـزت عواطف الناس. وهناك أخيرا سـلسـلة الصدامات والتفجيرات والاغتيالات.. التي كان خصوم الثورة يتـهـمـون بـهـا الثوار. هذه الأحداث في مجموعها خلقت جـوا من الحـيــرة والخـوف. ولم يــدافـع الثــوار عن أنـفـســهـم ؟
أعـتـقـد أيضـا أن بعض الثـوار وباسـم الثـوار، تورطـوا في إصرارهـم على قانون العـزل، واقتحـام وإرغــام المؤتمر الوطني السلطة الوحيدة المنتخبة. اقتحـامات أزعجت المواطنين، وأظهرتنا في صورة غير لائقة أمام العالم. و لا أعـتـقد أن هذا القانون يضيف جـديدا نافـعـا. فأعـوان القذافي الحقـيـقـيـين عـزلوا أصلا بالموت، والسجن والهروب إلى الخـارج. ولجنة النزاهة قادرة على إبعاد من تبقى منهم.
خـطـر المجـهـول
لـقـد عانى الليبيون لأربعة عـقـود من بطش القذافي الذي أرعـبـهم بالاعـتـقــالات والمشـانـق وسـلبهم حرية الرأي والكلمة، وحرية التجارة، وحرية امتلاك عـقـار. على الصعيد النفسي كانت مشكلة الليبيين مع نظام القذافي هي جـهـلـهـم بما سـيأتي به الغـد؟ مستقبل كل شخص مجهول.. مستقبل الوطـن مجهول ومهـدد بالفوضى. ولم تكن مجـرد لعبة جنونية.. بل كانت وسيلته في التحكم حتى في أعوانه اللصيقين به.. وفي البلاد كلها. كان فردا متحكما في رقاب العـبــاد ومـقـدرات البــلاد، ولا شئ يحدث إلا بأمره، وأوامره مزيج من العشوائية والنزق.
نحن الآن، ونتيجة وجـود مراكز قـوى متـعـددة.. للأسـف نعيش حالة من الفوضى السياسية والإدارية .. كل يقـرر وكل ينطـق على هــواه.. بل أحيانا يفعل البعض ما يحلو لهم، ولتكن مظاهرة أو اقتحـام، فـتـنـشأ مضاعفات نـُهـدِر الوقت في كبحـهـا من أجل إعادة الأمور إلى طبيعتها..
نحن بحـاجـة للعــالـم الخـارجي
ولهذا أمست البلاد تقفـز من أزمة إلى أخرى وبشكل عشـوائي.. مما قــاد إلى حـالة من الشلل.. في الاقتصاد، و إعمار البلاد وإعادة بناء القوات المسلحة والشرطة.. وهـذه كلـهـا تحـتـاج إلى عـون الدول الأخـرى التي للأسـف فـقـدت ثـقـتهـا في النظـام الليبي بينما نحن في أمس الحـاجـة للعالم الخـارجي.
نحن أسـاسـا دولة فـقـيرة، ورغم النفط الذي رزقنا الله به، مواردنا قليلة: نسـتورد غـذاءنا، والمياه شـحيحة ومكلفـة. مواردنا البشرية أيضا محـدودة. نحن إذن بحـاجـة إلى إدارة عالية القـدرات، وأيضــا بحـاجـة لمـعـونـة العالم الخـارجي. علينا أيضا أن ننظر إلى ثـروة النفط في ســياق موضوعي. تقنية النفط يملكها الغرب.. الاسـتكشاف، الحفـر، الاسـتخراج، مـد الأنابيب، مواني التصـدير، مصافي التكرير.. وهم الذين يشـترونه، وهم الذين يحـددون قيمة النقـد عالميا وأســعار السـلع التي نـشـتريها بما يأتي به النفط.. من سيارات، وطائرات، وسلاح، ومعدات مستشـفيات، ومحطات كهرباء.. إلى الملبس والـغــذاء.. وحتى مضخات المجاري وأجـهـزة إطـفـاء الحريق.
هذه الاعتبارات جميعها تلزمنا بحسن التعامل مع العالم الخارجي.. والالتزام بقـواعـد اللـعـبـة الدوليـة.... ولنسميهم بعد ذلك ما شــئنا.. لكن علينا ألا نخـدع أنفســنا، على الأقـل. والعالم الخارجي بحاجـة إلى أن يطمئن بأن الدولة الليبية ستحرص على حماية مصالحه (النفط والحد من الهجرة ). وحين تتـهـدد مصالحـه، لن تأخـذه بنـا شــفـقة، ويسـتطيع أن يجـند أو يتحالف مع القوى المجاورة لجرنا إلى صراعات مدمرة.
مــأزق الســلاح اللـعـين
تحليلات كثيرة لوضعنا الراهن تنتهي إلى مجــرد تمنيات فضفاضة دون حلول: ليبيا بخير، الليبيين طيبــين، مرحلة وتـزول..الخ أو بديهيات مثل أي تصعيد ثمنه دماء، أو نصائح وعظية عامة مثل لا لتبادل الاتهامات، ويجب نبذ السلاح، أو لا الفتنة. لكن الأماني والمواعـظ وحدها لن تغير الواقـع. والليبيون بشر ويصدق عـليهم ما يصدق على بقية البشرية. ومجتمعنا ليس استـثناء. ومثل هـذه الظروف التي نعيشها اليوم، قادت مجتمعات أخرى إلى الانقسـام والحرب الأهلية والدمار. فعلينا أن نبحث عن حلول فعالة.
لن أرهـقكم بقائمة طويلة من المشاريع المطلوبة... لأن كل المشاريع والأحـلام محكوم عليها بالفـشل ما لم تتناول المعضلة الأسـاسية والتي علينا مواجـهـتها بصدق وصراحة. مشكلتنا تكمن في وجود هذا السلاح اللعين. والذي بسببه ظهرت مراكز قـوى وكيانات.. كل يحتفظ ببندقيته ومدفعه، ويرفض تسليمها. هكذا هـم البشر، تحركهم غرائز الخـوف والطمـع مهما كانت تـبـريـراتـهـم وشـعاراتـهـم. ولن يمكننا تجـاوز هذه العـقــبة خلال شـهور أو بضع سـنين.
علينا إذن أن نعترف بما وصلت إليه الأمور، وبالكيانات التي اسـتقـرت مهما بدت غير مقبولة.. لنمسي شـركاء كل بقدر ما يمتلك من سـطوة ومن نفـوذ. أليس هـذا ما هـو واقـع بالفـعـل؟ على أمل أن يعيد المجتمع تشكيل نفسـه خلال العـقـود القادمة. وما لم نصل إلى توافـق صــادق فسـتبقى البوابة مـشـرعـة لصدامات وانقـســامات أبشـع مما مـرّ بنـا حتى الآن. والتوافـق الصادق لا يعني تصريحات وأماني، وإنما إئـتـلاف سـياسي يشـرك كل الأطراف.
لماذا لا نـؤسـس مجلس دولــة ؟
ومن هذا المنطلق، ولمواجـهـة هذه الفترة الانتقالية، أعتقد أن تأسيس مجلس دولة مؤقت قد يمثل الحل الأمثل للخـروج من هذه الدوامـة. الوضـع الحــالي خـطـير لأن البلاد ما تـزال بدون سلطة سيادية عـليا. فالمـؤتمر ســلطة تشريعية محددة المهــام والاختصاصات للإعـداد للدسـتور وصياغته، وربما إصدار تشريعات ملحـة. والحكومة سلطة تنـفـيـذية لتســيـير الأمـور.
وإنني على قناعـة بأننا سـنقطع نصف المسافة نحو تطبـيع الأمـور، لو أنشــأنا مجلس دولــة مـؤقـت، ربما من عشـرة أعضـاء، مثـلا من رئيس مســتـقـل، وممثلين عن الكيانات السياسية (الثوار، التحالف، حزب العدالة، التيار الفيدرالي، رئيس الأركان).
ويقوم مجلس الدولة بتعيين ولاة للمناطق التي ربما تصل 15 إقـليم أو ولاية أو محافظـة، ويكون للوالي المحلي صلاحيات المحافظ والحاكم العسكري. ويشكل الولاة معـا، بالإضافة لعملهم المحلي، هيئة اسـتشارية لمجلس الدولة. قد يعترض البعض.
لكن البلاد في ظرف استثنائي، والأمـر شــبيه بتـعـيين حكامٌ عسكريـون، وهـو ما يتـم عــادة دون ضجـيــج قـانـــوني؟؟
من أجـل الأجـيــال القادمـة
عليـنا نحـن كل الليبيين.. عليـنـا أن نـدرك أننـا لن نجني من كل هذه الصراعـات إلا الخراب، ونحـن أشـد ما نكـون في حــاجـة للتســامح وتحكيم العـقـل. على الأقل لكي نبقي للأجـيــال القادمـة شـيئا يفخـرون بـه، ويدعـون لنـا بالمـغـفــرة والرحـمـة.
دون مبادرة فـعـالـة، يبقى الأمل الوحيد في أن الناس يريدون الاستقرار.. والمجتمع ينشـد الاستقرار فلا استمرار للحياة بدونه.. يومـًـا ما سينبذ الفوضى ويستعيد تماسكه تدريجيا أو هكذا نأمل.. لكن متى ؟ وهل سيتحـقـق في حياتنا ؟ لم يبق سـوى بصيص من الأمل..في أن يخرس السلاح ويعـود العـقـل.
قناة ليبيا الفضائية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق