الأربعاء، 13 فبراير 2013

#ليبيا #عمرأبو_القاسم_الككلي: الاتحاديون والوحدويون

طوال الفترة الماضية، بعد زوال نظام معمر القذافي، أتجنب الخوض في "السجال" الدائر حول موضوع الفدرالية الذي تكاد المطالبة به تقتصر على المناطق الشرقية من البلاد. لكن المسألة صارت تتخذ بعدا متشابكا ينفتح على مخاطر تهدد الوحدة الوطنية. وأريد أن أبدأ بنقطة مهمة بهذا الشأن، وهي أن من يسمون أنفسهم بالفدراليين ليسوا كتلة واحدة متجانسة. إذ يوجد بينهم تيار انفصالي، أظنه قليل العدد، يتحدث، جهرا وضمنا، عن تحرير برقة من الاستعمار الطرابلسي أو الغرباوي، أي يتحدث عن الانفصال وإنشاء دولة مستقلة على إقليم برقة، قد تكون إمارة سنوسية، ويرى أن الفدرالية خطوة على الطريق. وهناك جناح ثان أقل تعصبا وأكثر عددا، يرى أن لإقليم برقة خصوصية واضحة تميزه عن باقي البلاد وأن هذه الخصوصية ليس من الممكن صيانتها إلا من خلال النظام الفدرالي. أما الجناح الثالث، وهو الأكثرية في اعتقادي، فيرى أن الفدرالية ستسهل حياته اليومية من مختلف النواحي. ولضمان نجاح مطلب الفدرالية تتعالى المطالبة بإجراء استفتاء حول هذا الأمر يتم في برقة وحدها! وهذا مطلب في غاية الغرابة. ذلك أن الاستفتاء حول النظام السياسي لدولة ما يتم على المستوى الوطني وليس على مستوى جهوي أو منطقي. الاستفتاء حول تقرير المصير لمنطقة ما، مثل كوسوفو أو تيمور الشرقية أو جنوب السودان، هو الذي يتم على مستوى تلك المنطقة وحدها. فهل نحن أمام مطالبة بالفدرالية أم بالانفصال؟. ثم لنفترض أن استفتاء من هذا النوع تم في برقة كما يشتهي الفدراليون ونال الأغلبية، لكن رفضته أغلبية بقية سكان البلاد الذين يمثلون أغلبية على المستوى الوطني وتم تبني النظام الفدرالي رغم ذلك، ألا يكون في هذه الحالة قد تم فرض رأي الأقلية على الأغلبية وبالتالي تكون هذه الخطوة غير ديموقراطية وإنما هي عملية قهرية، وتكون هي المركزية بعينيها والتهميش بعينه؟

يسمي المطالبون بالفدرالية أنفسهم "فدراليون" ويطلقون على خصومهم صفة "المركزيون". وهذا "تكتيك" دعائي المقصود منه، طبعا، تعبئة "الشارع البرقاوي" و"الجماهير البرقاوية" لصالح المشروع "الفدرالي". وهو أسلوب مضلل، ووجه التضليل فيه وصف الطرف المقابل الذي لا يؤيد الفدرالية بأنه مركزي. في حين أن الوصف الصحيح له هو أنه "وحدوي". ذلك أن الذي لا يؤيد الفدرالية لا يدعو إلى المركزية، بالمعنى السلبي الذي يسبغه الفدراليون على الكلمة، ولكنه يعارضها لأنه يرى فيها عودة إلى الوراء وأنها حابلة بمخاطر مرجحة لأن تفكك الوحدة الوطنية، وأنه من الممكن جدا، في نظام ديموقراطي وحدوي، وضع هيكلية إدارية مرنة تخدم مصالح المواطن في أية منطقة وتسهل عليه إنجاز متطلبات علاقته بالدولة وهو في مكانه (خاصة مع التطور التقني الحاصل). فليس صحيحا أن النظام الفدرالي يمكن المواطن من استخراج جواز سفره، مثلا، في مدينته وأن النظام الوحدوي يضطره إلى الذهاب إلى طرابلس، كما يجادل دعاة الفدرالية. ففي النظام الوحدوي يمكن للمواطن استخراج جواز سفره من فرعه البلدي وقد يضطر في النظام الفدرالي الذهاب إلى عاصمة الإقليم، أو الولاية. فموضوع مثل هذا متعلق بمرونة النظام الإداري والتطور التكنولوجي، وليس بالنظام السياسي للدولة.

وإذن فالخلاف ليس بين "الفدراليين" و"المركزيين" وإنما هو بين "الفدراليين"(وأفضل تسميتهم هنا: الاتحاديون) و"الوحدويين".

يسوق الاتحاديون حجتين يرون فيهما مصدر قوة يبرر مطالبهم. تتعلق الحجة الأولى بمثالب ما يسمونه "المركزية" وما أدت إليه من "تهميش" إقليم برقة وأهله (شعب برقة، لدى الانفصاليين). والحقيقة أنهم يتعمدون عدم التفريق بين "المركزية" كنظام إداري يمكن أن يأخذ بنية مرنة تمكن الدولة من آداء وظائفها ومسؤولياتها على كامل أرضها ولصالح مواطنيها أينما وجدوا، وبين المركزية، أو "التمركز" كممارسة استبدادية لنظام سياسي. ففي الواقع لم تكن طرابلس مركز النظام السياسي الذي بناه معمر القذافي. على العكس من ذلك تماما. لقد استهدفت ممارساته تخريب طرابلس والتنكيل بأهلها، على غرار ما فعل بالجميع. وأبرز مثال على ذلك هو محاولة جعل سرت عاصمة للدولة بدلا من طرابلس. لم يكن مركز النظام طرابلس، وإنما كان باب العزيزية. ولم تكن هناك مركزية إدارية، وإنما كان ثمة مركزية استبدادية تبدأ مظاهر الاستبداد فيها على مسافة لا تتجاوز المئة متر من باب العزيزية.

ترتبط هذه النقطة بدعوى التهميش الذي كان ضحيته إقليم برقة، والحقيقة أنه لم يكن ثمة تهميش لإقليم لصالح إقليم آخر. لقد كان كل ما هو خارج باب العزيزية مهمشا.

الحجة الثانية التي يسوقها الاتحاديون تتعلق بكفاءة النظام الفدرالي "الاتحادي" في مقابل ما يسمونه "النظام المركزي" وأسميه أنا "النظام الوحدوي". ويتمثلون في هذا الشأن بعدة أمثلة أبرزها مثال الولايات المتحدة الأمريكية والإمارات العربية المتحدة.

لا يجادل أحد في كفاءة النظام الاتحادي في البلدان التي تبنته. ولكن الجدال يتم حول الضرورات التاريخية التي جعلته يبدو، في تجارب معينة وفي ظروف عيانية محددة، النظام الأسلم، ليس للمحافظة على الوحدة الوطنية، وإنما لبلورة وحدة وطنية والدفع بهذا الوطن الناشيء إلى الأمام. فكلنا يعلم أن أمريكا، قبل أن تتوحد، كانت مجموعة من "الدول" المستقلة المنفصلة وأن هذا التوحد فرض على بعض هذه الدول بالقوة(دول الجنوب تحديدا). وأنا أستعمل لفظة "دول" هنا بدل "ولايات" ليس عبثا. فهي كانت دولا بالفعل قبل الاتحاد وصارت ولايات بعده. وليس أدل على ذلك من أن اللفظة الإنجليزية التي تطلق على الدولة، وهي State، هي نفسها التي يطلقها الأمريكان على الولاية. والواقع أن الترجمة العربية لاسم دولة أمريكا، وهو الولايات المتحدة الأمريكية، ليس دقيقا. فترجمته الدقيقة هي: الدول المتحدة الأمريكية، وعذر مترجمينا الأوائل في هذا أنهم تجنبوا الترجمة الحرفية، رغم كونها ترجمة أمينة، لما يبدو فيها من تناقض، ربما، وفضلوا ترجمة قياسية على نمط التقسيمات الإدارية المعروفة في تراثهم. وهنا تمكن الإشارة إلى دقة ترجمة اسم الاتحاد السوفياتي الرسمي، وهو: اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية.

أما بالنسبة إلى الإمارات العربية المتحدة، فهي أيضا كانت إمارات منفصلة تحت الحماية البريطانية واستقلت سنة 1971، ومعلوم أن إمارة رأس الخيمة انضمت إلى هذا الاتحاد بعد ذلك بحوالي سنة. أي ينطبق عليها إلى حد كبير ما ينطبق على الحالة الأمريكية.

وإذن، فالنظام الفدرالي يتم تبنيه في الحالات التي تكون فيها منطقة ما مجزأة إلى كيانات صغيرة وتنشأ حاجة في ظروف تاريخية محددة إلى توحيد هذه الكيانات تحت سلطة عليا واحدة فتتنازل تلك الكيانات عن حقوقها السيادية المتعلقة بالعلاقات الخارجية والحرب، تحديدا، وتحتفظ بما عدا ذلك، في إطار دستور عام للدولة الموحدة.

تنبغي الإشارة، في هذا السياق، إلى أننا نشهد الآن أمام أعيننا عملية ولادة دولة جديدة تتكون من اتحاد دول مستقلة لفترات تاريخية طويلة، ذلك هو الاتحاد الأوربي، الذي لا نستبعد وصوله إلى إعلان الدولة الموحدة مستقبلا.

خلاصة القول، الأمثلة التي يحتج بها الفدراليون على نجاعة النظام الفدرالي لا تنطبق على الحالة الليبية الآن، ولم تنطبق عليها في أية فترة من الفترات الماضية، على الأقل في العصر الحديث. فلم يكن الإقليم الليبي، يوما ما، منقسما إلى دول أو إمارات مستقلة (رغم أنه وجدت به بعض الكيانات المستقلة)، والتباينات بين مناطقه ليست تباينات حادة تعيق وحدته. والنظام الفدرالي الذي تم تبنيه بعد الاستقلال تم تبنيه لفترة قصيرة انتقالية، وكانت الوحدة مطلبا وطنيا عاما، بدليل أن إلغاء نظام الدولة الاتحادية والانتقال إلى نظام الدولة الوحدوية لم يلق أي اعتراض. وعليه فإن الدعوة إلى إقامة النظام الفدرالي الآن هي، بكل المقاييس، دعوة إلى الرجوع بالتاريخ إلى الوراء وتحمل تهديدا للوحدة الوطنية لأنها ترتبط برؤية مصلحية ضيقة.

بقيت نقطة أخيرة أرى ضرورة مناقشتها، وهي ما يعلنه كثير من الفدراليين من أن رفض "الطرابلسيين" للنظام الفدرالي ناتج عن طمعهم في ثروات برقة النفطية. أذكر بحادثة واحدة فقط: حين ارتضى" الطرابلسيون" بأن تكون ليبيا مملكة سنوسية تحت حكم الملك إدريس، نهاية الأربعينيات، لم يكن ثمة نفط ولم يكن إقليم برقة أغنى من إقليم طرابلس.
قناة ليبيا الفضائية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق