بات معهودا بيننا الحديث عن ضرورة تصحيح مسار ثورة فبراير، والنقاش يصل
أحيانا إلى مستوى اللاعبين السياسيين من أحزاب وشخصيات ومؤسسات مجتمع مدني.
لكن بتمحيص ما يقال في تلك النقاشات وبعض الفعاليات التي تنبثق عن
النقاشات نرى بعض من يرفع شعار تصحيح المسار يحصره في إقصاء المنافس
السياسي، بعد محاولات لم تنقطع من التخوين وإلقاء الاتهامات جزافا بلا
تدليل بل يعمد الكثيرون إلى خلط المفاهيم والأفعال ويصرون على عدم التفصيل
عند نسبة الأفعال لمن ارتكبها فيتم التعميم حتى يعتقد الناس العاديون بأن
الفاعل واحد.
الكثير من محاولات الاغتيال والتفجير لم يتم حتى الآن الوصول إلى
مرتكبيها بشكل قاطع فلا تحقيقات أعلن عنها لا محاكمات طبيعية عقدت ورغم ذلك
نجد كتابا وشخصيات ووسائل إعلام تفتح المساحات بلا ضوابط للطعن في الخصم
السياسي وإلباسه تهما فقط لزيادة التشويش على المجتمع وإمعانا في التحريض.
إن هذه المحاولات التحريضية التي لا تفتأ تستعدي البسطاء من الناس على
أبناء وطنهم أصبحت بديلا عن الحوار الوطني الذي كنا نتوقع أن يؤسس حتى قبل
اكتمال صفوف الثورة. ليكون هو الوسيلة المدنية لمناقشة الاختلافات والوصول
إلى التوافقات حولها مما يتطلب استمرار الحوار والوصول إلى تنازلات جماعية
تمنع ظهور الاختناقات التي تعرقل عمليات التأسيس والبناء.
لا أستغرب كثيرا هذا السلوك فالتنشئة الاجتماعية في ليبيا كانت دائما
خالية من قبول الاختلاف وبات التنازع هو الحالة الأظهر بيننا حتى مباريات
كرة القدم تحولت إلى فرصة للتصارع والتنازع بدلا من البهجة والمتعة ورأينا
اختناقات اجتماعية بين بعض المدن بسبب نتائج مباريات كرة القدم.
ونحن ننتظر هذه الأيام حلول الذكرى الثانية لثورة فبراير فإن دعوات
عديدة رفعت لجعلها فرصة لاندلاع ثورة جديدة مع أني لا أدري ضد من هذه
الثورة ولكن هناك من يصرح بأنها ثورة ضد خصومه السياسيين أي بعبارة أفصح ضد
شركائه في الوطن وليس ضد مستبد أو طاغية استفرد بالأمر عقودا عديدة.
هناك من يتكئ على سلوك السلطة الذي لم يرتق إلى مستوى طموح المجتمع وهذا
أمر يصعب الاختلاف فيه ولكن عند التفصيل نجد أن المقصود من أداء السلطة أو
سلوكها تم تلخيصه في الاستجابة لبعض المطالب التي تنادي بها جهات أو مدن
أو أحيانا تيارات بعينها.
في وجهة نظري إن تصحيح المسار ينبغي أن ينصب على عدة أولويات تشكل
مجتمعة الأسس البنيوية لتأسيس ليبيا الجديدة التي تمهد بدورها لكل عمليات
النباء في المستقبل القريب.
ومن أولويات تصحيح المسار تحديد مسار واضح لمحاربة الفساد بلا هوادة في
كل المستويات الرسمية والمجتمعية فنحن نواجه فسادا مركبا يمارس في مستويات
من هيكلة الدولة ويمارس من النادس العاديين بعد أن تحول الفساد المالي
والإداري أسلوبا للعيش إبان العقدين الأخيرين في عمر النظام السابق
الرشوة لم تعد مقصورة على عقود الدولة الكبيرة بل هي تدفع لاستخلاصات
جمركية وتراخيص السيارات والمعاملات الإدارية المختلفة بل وفي استجلاب
العمالة من الخارج بلا مبرر فقط للكسب من العمال أنفسهم الذين يدفعون آلاف
الدنانير ليتم استجلابهم ومن ثم رميهم إلى المجهول في سوق العمل في ليبيا.
المحسوبيات ليست منتهية عند الإدارة العليا في مؤسسات الدولة وهي موجودة
فيها بل حتى في المدارس ورياض الأطفال ومراكز الأمن يمكن أن تعالج الكثير
من احتياجاتك التي قد تسبب في أخذ حقوق الآخرين من خلال المحسوبيات سواء
كان دافعها القرابة أو المصالح المتبادلة بين الأطراف
يجب أن نصحح مسار الثورة من خلال الدعوة لتفعيل دور كل الأجهزة الرقابية
في الدولة من ديوان المحاسبة ومؤسسات محاربة الفساد وتفعيل القضاء العادي
بطبيعة استعجالية في قضايا الفساد الإداري والمالي التي تنتهي دوما إلى
الفساد السياسي.
من المهم لمحاربة الفساد من إقرار تشريعيات تسمح للمواطن والمؤسسات
الإعلامية بالحصول على كل المعلومات من الحكومة والمؤتمر وكافة مؤسسات
الدولة بل وتفرض على القطاع الخاص الكشف عن دورته المالية والإدارية.
والمجتمع المدني مسؤول على مراقبة أداء الدولة والمواطن وأن يتحول هو
كذلك إلى خندق الفساد عبر التمويل العابر للقارات كما يحصل في كثير من
الدول وهذا يتطلب مراقبة دقيقة على العاملين في هذا المجال بقصد استخدام
التبرعات والهبات في مشاريع تتفق مع أهداف ومقاصد جمعياتهم ومؤسساتهم.
يلحق محاربة الفساد في الأولوية ترسيخ قيم المجتمعات المدنية التي تؤمن
بالتداول مهما عظم الاختلاف الفكري والسياسي فيها فليس مبررا أن نختلف
سياسيا فأقصيك وأحرض المجتمع ضدك وأرميك بسيل من التهم تربطك بالخارج وتصفك
بالخيانة من يتابع تعليقات الفيس بوك وما يكتب فيه لن يعاني كثيرا ليلحظ
وبوضوح حجم الإسفاف في نقد المختلف والدعوة لإقصائه بكل الطرق ولو بالقتل
والسحل ولكل طرف منطلقاته فهناك من يخون وآخر يكفر.
المجتمعات المدنية لا مكان فيها لفرض الآراء بالقوة أو التحريض. ومن أهم
صفات التيارات السياسية في تلك المجتمعات أن لا يوجد أجنحة عسكرية للأحزاب
السياسية وأما ما نراه في ليبيا فهو استعانة حتى بعض العاملين في المشهد
الإعلامي بقوات لحمايته أو حماية مؤسسته فضلا عن أحزاب ترتبط بما لا يدع
مجالا للشك بكتائب وألوية مسلحة.
إن المؤتمر الوطني والحكومة وكل هيئاتها مطالبان بالاستماع لنبض الشارع
ليس لمجاملته كما كانت سنة كل من سبق من إدارات الدولة في عهد الثورة بل
للنقاش ومحاولة الوصول إلى حلول مشتركة.
ويبقى للدولة التزام أن تؤسس بالتعاون الفاعل مع الجامعات والمؤسسات
المختصة مفردات وتطبيقات للتنشئة الاجتماعية تخدم أولويات تصحيح المسار في
ليبيا التي كما أراها تنحصر في محاربة الفساد المالي والإداري المانع لنشوء
الفساد السياسي، وترسيخ قيم المجتمعات المدنية بيننا.
كالعادة لا أمل من الإصرار على أن إعلامنا لا يزال يقف أغلبه في خندق
التحريض بعيدا عن الموضوعية وتأسيس أنساق تنشئة اجتماعية صحيحة تؤسس لكل ما
تحدثنا عنه. بل يمارس بعضها التحريض ليس بشكل غير مباشر بل أكثر من مباشر.
أي بطريقة فجة أحيانا
المنارة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق