لا تزال بعض المناطق في العالم تواجه إشكالية تحديث مجتمعاتها بإدماجها في إطار منظم وهو الدولة، وهي الظاهرة التي تحدث في المنطقة الممتدة من صحراء ليبيا إلى تخوم نيجيريا ومن حولها، مرورا بمالي. فعجز الدولة عن إدماج القبائل والطوائف والعشائر التي تعيش في تلك المنطقة مكن الجماعات الجهادية من النمو والتطور في محيط خال من علامات المدنية، فانتشر وباء تفريخ الجهاديين إلى تنظيمات مختلفة، كل منها يجد حاضنة ما في إحدى القبائل، إن كانت عربية أو أفريقية أو من قومية الطوارق.
العرب اللندنية: عقدت القبائل العربية في شمال مالي مؤتمرا قبل أيام جمع قياداتها بقيادات تنظيم القاعدة في الصحراء الأفريقية أو ما يسمى بـ"إمارة الصحراء" جنوب دول المغرب العربي. وقد نشرت مواقع قريبة من هذا التنظيم عددا من الأشرطة المصورة حول مجريات اللقاء والرسالة التي ألقيت على مسامع الحاضرين والتي تمجد العمليات الجهادية للقاعدة في المنطقة وتدعو حلفاء التنظيم إلى "مزيد رص الصفوف لمحاربة الكفار" حسب قول أحد العناصر الملثمة الذي ألقى الكلمة معبرا عن امتنانه لمساعدة القبائل العربية للتنظيم في تلك المناطق. هذا الحدث رفع الغطاء عن تحركات خفية تحدث بين القبائل في منطقة الصحراء الجنوبية وبين الجهاديين بمختلف تصنيفاتهم التنظيمية والذين يشتركون جميعا في المنهج السلفي الجهادي.
والمشترك بين كل الدول التي انتعشت فيها هذه التنظيمات هو ضعف سلطتها وسيطرتها المركزية الطبيعية على مجالها الجغرافي لمنع تطور هذه الحركات الإسلامية المسلحة وبناء الدولة الوطنية السليمة. فبعد أن عجزت المؤسسات الليبية عن استرجاع سيادتها على التراب الليبي، وإزاء عودة المجتمع الليبي إلى الشكل القبلي في التنظم، أصبحت الجماعات الإسلامية المسلحة هي العنوان الرئيسي للسلطة في المناطق الليبية، بل وتطور الأمر إلى حدود استيراد الخلافات بين التنظيمات التي تحدث في الشرق الأوسط (سوريا والعراق) بين القاعدة وداعش، في ظل غياب مطلق للدولة وجيشها وأمنها وأجهزتها. وقد أصبحت ليبيا بذلك مسرحا للدعوة العلنية لبيعة الدولة الإسلامية ومناصرتها، ممهدة بذلك لإعلان وصول هذه الموجة إلى تونس وباقي دول المنطقة، حيث ظهرت هذه المبايعات بداية في المناطق الشرقية مثل قبائل درنة وأم الرزم وعبيدة والكفرة جنوبا، والتي عرفت خلال سنوات حكم القذافي بأنها معقل للتيار الجهادي، وكذلك منطقة طرابلس في الغرب بما فيها قبائل بني وليد ومصراطة ووروفلة والزنتان.
وقد أصبح تنظيم الدولة الإسلامية قوة فاعلة بعد إعلان تنظيم "الجيش الإسلامي" في درنة بيعته للبغدادي، وقد اضطر أنصار تنظيم القاعدة ممثلين في مجلس الشورى في درنة وبنغازي وجماعة أنصار الشريعة، للتصدي لتوغل الدولة الإسلامية بالقوة للحفاظ على مكاسبهم، وهذا يحدث في ظل غياب شبه تام للقوة العامة التي تمثل الدولة الليبية. الظاهرة ذاتها تحدث في شمال مالي، فبعد أن تحالفت القبائل العربية مؤخرا مع تنظيم القاعدة في المنطقة الممثل بـ"إمارة الصحراء" وبعد عجز الدولة المالية عن تحالفها مع القوات الفرنسية من ضبط المناطق الشمالية أمنيا وعسكريا، زاد إقبال التنظيمات الجهادية الإرهابية على القبائل نظرا لتكون جزء واسع من تلك التنظيمات من القبائل، مثل قبائل الإيفوغاس من الطوارق التي تتحالف مع جماعة أنصار الدين التي يقودها إياد آغ غالي، وقبائل البرابيش العربية التي تتحالف مع القاعدة، وجبهة تحرير ماسينا المتكونة من قبائل الفلان الأفريقية ويقودها المتشدد محمد الكوفي.
ويعود هذا التمترس وراء القبيلة للقيام بنشاطات مسلحة باسم الشريعة الإسلامية، إلى ضعف الدولة المركزية في مالي ونتيجة سيطرة الميليشيات المسيحية التي تنتمي إلى قبائل البمبارا جنوب مالي وهي القبائل التي تسيطر على مركز الحكم في العاصمة باماكو. ويقول مراقبون إن التدخل الفرنسي المتزايد في مالي وكامل المنطقة المحيطة بها لم ينتج نظاما حكوميا قويا وقادرا على بسط نفوذ الدولة وتقسيم السلطة بمنطق مواطني ومدني، بل إن اقتصار الفرنسيين على القيام بعمليات عسكرية فقط أدى إلى تأجيج النقمة على السلطة واعتبارها متخاذلة ومتحالفة مع "الكفار" ولذلك وجدت القبائل تبريرات لدعم الجماعات الجهادية.
أما عن نيجيريا، فالمنطق ذاته أيضا في تكون الجماعات الجهادية وإيجاد مساحات قبلية استراتيجية للتحرك براحة والتمكن من السلاح والعتاد والتمويل عبر المسالك التي تربط نيجيريا بالنيجر ومالي. فقبائل الهوسا المتمركزة شمالا على الحدود مع النيجر تعد المعقل الرئيسي لجماعة بوكو حرام التي أعلنت مؤخرا مبايعتها لتنظيم ما يسمى الدولة الإسلامية، وتعتبر بوكو حرام من بين أكثر التنظيمات تشددا وعنادا وقدرة على المناورة في تلك المناطق بدعم من القبائل، حتى أن مراقبين أطلقوا عليها اسم "طالبان أفريقيا".
وقد أكد الباحث المصري في الجماعات الإسلامية والإسرائيليات عمرو زكريا خليل أن "دول مناطق أفريقيا الشمالية وخاصة الجزائر والأخرى في جنوب الصحراء قد عانت من رسم غير سليم للحدود منذ البداية وهي مناطق لا تزال تخضع للنفوذ الاستعماري الكلاسيكي وأهمه فرنسا" ويفسر خليل ظاهرة نمو وتطور الجماعات الإرهابية في تلك المناطق بـ"غفلة الدولة وضعفها" عن التحركات القبلية الاحتجاجية نظرا لتهميشها وقد عوضت تلك القبائل انتماءها للدولة بتشديد انكماشها على نفسها وصنع أذرع عسكرية لها، هي الجماعات الإسلامية. ومن ناحية أخرى، تفتقر تلك القبائل إلى "نخبة" تمكنها من صياغة نظام قانوني بينها فلم تجد سوى العودة إلى الشريعة الإسلامية كمنظومة متاحة وعقدية لتكوين مجتمعات موازية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق