بي بي سي عربية: هيمنت قضية المرأة على حفل افتتاح الدورة 59 لمهرجان لندن السينمائي الدولي، الذي كان حفلا نسويا بامتياز في موضوعه ونجومه، إذ تناول فيلم الافتتاح "سفرجيت"، كفاح الحركة النسوية المطالبة بمنح المرأة في بريطانيا حق التصويت مطلع القرن العشرين.
وقد تعاون لإنجازه عدد من النساء، بدءً من المخرجة سارة غافرون وكاتبة السيناريو أبي مورغان وممثلاته اللواتي وقفن على السجادة الحمراء وفي مقدمتهن ميريل ستريب وكاري موليغان وهيلينا بونام كارتر، بل وحتى المحتجات اللواتي استثمرن هذه المناسبة وتمددن على السجادة الحمراء مطالبات بدعم أكبر لضحايا العنف الأسري ومحتجات على التخفيضات في ميزانية الخدمات المقدمة للنساء في هذا المجال.
لقد أطلقت مديرة المهرجان كلير ستيوارت على دورة هذا العام وصف "سنة المرأة القوية"، وبدا ذلك واضحا في حفل الافتتاح أو في مساهمة 46 مخرجة في الأفلام المشاركة في المهرجان.
على أن ستيورات ترى أنه على الرغم من هذا الحضور غير المسبوق للمرأة المخرجة تظل نسبة مشاركتها في المهرجان 20 في المئة فقط من مجمل منهاج المهرجان، الذي ضم 240 فيلما من 72 بلدا ستعرض على مدى 12 يوما (من 7 إلى 18 من الشهر الجاري). كما وصفت ستيوارت فيلم الافتتاح بأنه "فيلم أخرجته امرأة بريطانية عن امرأة بريطانية غيرت مجرى التاريخ".
وفي غمرة هذه الفورة النسوية هاجمت الممثلة الشهيرة ميريل ستريب (التي مثلت في الفيلم دور إملين بانكرست التي قادت حركة حق الاقتراع للمرأة في بريطانيا "سفرج" أو ما سمي برابطة النساء الاجتماعية والسياسية) هيمنة الرجال على الصناعة السينمائية ومجال العروض النقدية السينمائية، وقد كانت بلا منازع مثار اهتمام الجمهور في حفل الافتتاح عند مرورها على السجادة الحمراء مع كاري موليغان وهيلينا بونام كارتر.
لكن ستريب نفسها ردت على سؤال في المؤتمر الصحفي عن الفيلم بشأن لماذا رفضت في إحدى مقابلاتها الأخيرة أن توصف بأنها "فيمنست" (ناشطة نسوية) مستخدمة عبارة من الفيلم مشيرة إلى أن الموقف الذي تنطلق منه هو" الأفعال لا الكلمات".
الواقعي والخيالي
لقد قدم فيلم "سفرجيت" انطلاقة قوية في افتتاح دورة هذا العام لمهرجان لندن، إذ نجح القائمون عليه في استثمار دفق وحيوية قضية اجتماعية وحقوقية مؤثرة، على العكس من معظم مهرجانات هذا العام التي اختارت أفلام مغامرات وسط مصاعب الطبيعة (الثلجية في الغالب) في أفلام افتتاحها، كما هي الحال مع فيلم :ايفرست: في افتتاح مهرجان فينيسيا و" لا أحد يريد الليل" في مهرجان برلين.
ولعل أبرز عوامل نجاح سيناريو الفيلم الذي كتبته أبي مورغان، صاحبة سيناريوهات : السيدة الحديدية(عن تاتشر)، الساعة(عن غرفة الاخبار في بي بي سي ابان حرب السويس)، بريك لين، والحاصلة على جائزة ايمي)، اختيارها لمدخل ذكي لتقديم الدراما الوثائقية (ديكودراما) بخلق شخصية خيالية وجعل محور السرد إلى جانب الشخصيات الحقيقية التي يظهرها الفيلم.
فشخصية مود (أدت دورها بنجاح كبير الممثلة كاري موليغان)، تمثل نموذجا مجسما لواقع التهميش والقهر الذي كانت تعيشه المرأة البريطانية العاملة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وتجسيدا واضحا لما تناضل من أجله الشخصيات التاريخية الأخرى التي أظهرها الفيلم وينتمى بعضها الى طبقات مختلفة.
فمود تعمل في محل لغسيل وكي الملابس، يفيض المكان ببؤس النساء العاملات التي يتعرضن للتمييز في الأجور عن الرجال، فضلا عن التحرش الجنسي لرب العمل ببعضهن.
وتتعرف على حركة "سفرج" أو حق الاقتراع (المطالبة بحقوق المرأة ومنحها حق التصويت في الانتخابات)عبر فيوليت (الممثلة آن – ماري دوف) زميلتها في العمل التي تنتمي الى هذه الحركة، ويدفعها تعاطفها مع هذه الزميلة التي تتعرض للاضطهاد بسبب مواقفها إلى الإعلان عن أنها سترافقها إلى مبنى البرلمان حيث من المقرر أن تدلي الأخيرة بشهادتها أمام وزير الخزانة حينذاك، ديفيد لويد جورج، ولجنة برلمانية عن واقع عملها كامرأة.
وتتعرف على حركة "سفرج" أو حق الاقتراع (المطالبة بحقوق المرأة ومنحها حق التصويت في الانتخابات)عبر فيوليت (الممثلة آن – ماري دوف) زميلتها في العمل التي تنتمي الى هذه الحركة، ويدفعها تعاطفها مع هذه الزميلة التي تتعرض للاضطهاد بسبب مواقفها إلى الإعلان عن أنها سترافقها إلى مبنى البرلمان حيث من المقرر أن تدلي الأخيرة بشهادتها أمام وزير الخزانة حينذاك، ديفيد لويد جورج، ولجنة برلمانية عن واقع عملها كامرأة.
هذه الرحلة تقود مود إلى قلب الكفاح النسوي وهذه الرابطة النسوية عندما تتعرض زميلتها إلى الضرب من أجل منعها من تقديم هذه الشهادة، فتضطر مود الى أن تمثل هي بدلا عنها أمام اللجنة لتدلي بشهادتها.
ونتابع عبر دخول مود في هذا الوسط تطور نضال هذه الحركة النسوية بل وتحولها إلى العنف للفت الانتباه لحقوق المرأة بعد يخذلهن رئيس الوزراء الذي وعد بالنظر في منحهن حقوقهن والبرلمان الذي رفض إعطائهن حق التصويت.
وفي لحظة الاحتجاج على كلمة رئيس الوزراء يتعرضن لعنف الشرطة التي تضرب المحتجات وتعتقل عددا منهن ومن بينهن مود، حيث يكون هذا الاعتقال فاتحة لتدمير حياتها العائلية مع زوجها الذي تحبه ويعمل معها في محل الغسيل نفسه وابنهما الصغير.
وتصبح مود ورفيقاتها تحت أنظار الشرطة السرية التي تتابع عن كثب نشاطاتهن، وفي تجمع لسماع كلمة قائدة الحركة النسوية "سفرج" أميلين بانكرست (أدت دورها ميريل ستريب) وتتدخل الشرطة لاعتقال بانكرست التي كانت تبحث عنها كما تعتقل عددا من النسوة المتجمعات ومن بينهن مود.
وتضرب المعتقلات عن الطعام من أجل إطلاق سراحهن، بيد أن تجربة الاعتقال تلك تدمر ما تبقى من حياة عائلية لمود التي يطلقها زوجها ويحرمها من ابنها الذي يعطيه القانون حق رعايته في ذلك الوقت، ويضطر لاحقا إلى إعطائه إلى عائلة أخرى تتبناه.
وتضطر مود إلى هجر عملها بعد أن تحرق يد رب العمل بمكواة عند محاولته التحرش بها، وتعتقل مرة أخرى بسبب ذلك، ويحاول المفتش في الشرطة السرية (الممثل ادريان شيلر) استغلال ذلك وعرض الافراج عنها مقابل تعاونها معهم.
وتضطر مود إلى هجر عملها بعد أن تحرق يد رب العمل بمكواة عند محاولته التحرش بها، وتعتقل مرة أخرى بسبب ذلك، ويحاول المفتش في الشرطة السرية (الممثل ادريان شيلر) استغلال ذلك وعرض الافراج عنها مقابل تعاونها معهم.
وتنخرط مود كليا في الفعل السياسي مع الرابطة النسوية ، بعد أن ترفض عرض الشرطة السرية لتصبح عنصرا أساسيا مع مجموعة من النساء تتبنى نهج القيام بعمليات عنيفة للفت الانتباه الى قضيتهن تقودها صيدلانية في منطقتها(الممثلة هيلينا بونام كارتر).
ويقمن بتفجير خطوط اتصالات أو منزل فارغ لأحد الوزراء، ويصل عملهن إلى ذروته في محاولة مود وزميلتها إيميلي ديفيسون (شخصية حقيقية أدت دورها في الفيلم الممثلة ناتالي برس) استثمار فرصة حضور الملك جورج الخامس لسباق للخيول "دربي إبسون" في 4 تموز- يوليو 1913 ، للفت انتباهه إلى قضيتهن واستثمار الحضور الإعلامي الكبير.
وبعد منعهن من الوصول، تقوم ديفيسون بالدخول إلى ميدان السباق لرفع لافتة عن قضيتهن فتموت تحت حوافر حصان سباق الملك، لينتقل الفيلم إلى مشهد وثائقي لتشييع جنازتها التي شارك فيها الآلاف.
وينتهي الفيلم بقائمة تواريخ منح حق التصويت للنساء في مختلف دول العالم، بدءا من نيوزيلندا التي منحت المرأة حق التصويت عام 1893 ومرورا ببريطانيا التي منحت النساء حقا مشروطا للتصويت بعمر 30 سنة عام 1918 ثم تحول إلى سن 21 عاما في عام 1928 وانتهاء ببعض الدول العربية التي منحت حق التصويت للمرأة في السنوات الأخيرة أو وعدت بمنحه.
ثنائي نسوي
ثنائي نسوي
في هذا الفيلم تعيد المخرجة سارة غافرون وكاتبة السيناريو أبي مورغان تجربة تعاونهما الناجحة، إذ سبق أن قدما تجربة تعاون ناجحة في فيلم "بريك لين" عام 2006 المأخوذ عن رواية الكاتبة البنغالية الأصل مونيكا علي، وكان الفيلم الذي لفت الانتباه إلى موهبة غافرون الإخراجية وقدرتها على تقديم معالجات ممتلئة بحس ونزعة إنسانية مميزة.
سبق لغافرون التي درست اللغة الإنجليزية في البكالوريوس والإخراج السينمائي في الماجستير أن عملت في بي بي سي لمدة ثلاث سنوات قبل أن تتفرغ للإخراج السينمائي، وأخرجت نحو ستة أفلام بعضها للتلفزيون أبرزها "بريك لين" و"سفرجيت".
ونجح هذا الثنائي في تقديم معالجة درامية مميزة لوقائع تاريخية ما زالت حاضرة في الذاكرة، فمورغان بخروجها من هيمنة الشخصيات التاريخية وإبداعها لشخصية خيالية من الطبقة العاملة جسدت كل واقع القهر واللا مساواة الذي تتحدث عنه رائدات هذه الحركة النسوية ومعظمهن من الطبقة الوسطى أو أعلى، والمخرجة غافرون في زرع هذه الشخصية بإقناع وسط هذه الشخصيات والأجواء التاريخية وتجسيدها بأمانة وجمال وإدارتها المميزة لممثليها وممثلاتها على وجه الخصوص.
لقد نجحت غافرون في استثمار حضور وحيوية الممثلة كاري موليغان في تجسيد شخصية مود الرئيسية في الفيلم، كما استخلصت من مسار حياة الشخصية التراجيدية كثافة عاطفية (كانت تقف على تخوم الميلودراما أحيانا) ومسارا دراميا تشويقيا انقذ الفيلم من أن يتحول إلى مقال في الدفاع عن حقوق المرأة واستعراض سيرة شخصيات تاريخية رائدة في هذا المجال. فهذه الشخصيات التاريخية كانت تظهر كنقاط ارتكاز واقعية وتوثيقية يدور حولها سرد خيالي مشوق ومؤثر.
وقد خدم مثل هذا الاستخدام الفيلم كثيرا، في عدم التعلق بتجسيد الشخصيات التاريخية والاكتفاء بحصور خاطف لها وفي لحظة مؤثرة تبرز أهم ما قدمته، كما هي الحال مع شخصية أميلي ديفيسون التي ضحت بنفسها في حلبة السباق أو شخصية زعيمة الحركة إميلين بانكرست والاقتصار على خطبتها واعتقالها، وحضور ميريل ستريب المؤثر والخاطف في تجسيدها.
وقد خدم مثل هذا الاستخدام الفيلم كثيرا، في عدم التعلق بتجسيد الشخصيات التاريخية والاكتفاء بحصور خاطف لها وفي لحظة مؤثرة تبرز أهم ما قدمته، كما هي الحال مع شخصية أميلي ديفيسون التي ضحت بنفسها في حلبة السباق أو شخصية زعيمة الحركة إميلين بانكرست والاقتصار على خطبتها واعتقالها، وحضور ميريل ستريب المؤثر والخاطف في تجسيدها.
وحاول مدير التصوير الإسباني إدوارد غراو (نتذكر عمله المميز في فيلم مدفون للمخرج رودريغو كورتيس والذي تدور أحداثه كلها في تابوت، خلال الحرب على العراق ) تجسيد أجواء مطلع القرن في إنجلترا، وسط تلك الأجواء الضبابية وألوان الشتاء الكابية، التي هيمنت على مشاهده سواء في محل الغسيل وسط أبخرة أحواض الماء الحار واستثمار حبال الغسيل الطويلة وأكوام الملابس المعلقة عليها كخلفية لبعض مشاهده، أو أسلوبه في تصوير مشاهد المظاهرات ومدى العنف الذي سادها بالتركيز على اللقطات القريبة والقطع السريع بما يخلق ايقاعا سريعا متوترا يزاوجه مع لقطات طويلة يستثمر فيها عمق المجال في الكادر بجمالية واضحة.
ختاما، كنا أمام حفل افتتاح يفيض حيوية، وقد نجح في أن يمد الصلة بين الشاشة والواقع، إذ تواصل تأثيرها في حركة الاحتجاج النسوية التي ترافقت مع عرض الافتتاح، ولبست المحتجات فيها قمصانا (تي شيرت) كتبت عليها عبارة بانكرست "أفضل أن أكون متمردة على ان أكون عبدا".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق