العرب اللندنية: التوجس الروسي من الخطر الجهادي تجسد في مساع رسمية ترفع ستوى العيش في المناطق التي تمثل حواضن للتيارات المتطرفة حيث يدكر في هذا السياق موافقة بوتين نهاية العام 2012 على مشروع استثماري ضخم في شمال القوقاز، يتضمن بناء منتجعات تزلج في الجمهوريات الشركسية، وبخاصة على جبل البروز بكلفة 18 بليون دولار، وأيضا تجهيز شاطئين في جمهورية داغستان بكلفة 4.6 بلايين دولار. وترى الحكومة الروسية أن المشروع سيوفر 3000 فرصة عمل في إقليم شمال القوقاز، وبالتالي ترى أن هذا قد يلعب دورا أساسيا في إضعاف المجموعات المسلحة. الحكومة الروسية، راهنت من جانبها على تزايد حجم الطبقة الوسطى في روسيا. وتشير التقديرات إلى أن الطبقة الوسطى صارت تشكل 25 بالمئة من الشعب الروسي بفضل ارتفاع أسعار النفط، وبالتالي فإن مثل هذا المشروع قد يشجع “السياحة الداخلية”، لكن هذا تراجع مع تراجع أسعار النفط عام 2014، وتورط روسيا بالأزمة الأوكرانية.
ومع ذلك، وعلى الرغم من أن المشروع الضخم الذي طرحته الحكومة الروسية في شمال القوقاز، كان يعد تحولا في السياسة الروسية تجاه المنطقة، فإن عدم طرح الإشكاليات البنيوية في المنطقة، من ناحية، وعدم تنفيذ تلك السياسات، خصوصا في ظل تقديم الشيشان كنموذج للتطور العمراني، والأمني، لكن دون مشروع اقتصادي ينمّي المنطقة، من ناحية أخرى، فإن هذه السياسات -على أهميتها- لم تنفذ إلى الآن. في ما يتعلق بالسياسة الروسية في مكافحة ما يعرف بـ"الإرهاب" على المستوى الخارجي، فإن السياسة الروسية تمحورت حول استخدام "مكافحة الإرهاب" كأداة سياسية كما حدث في الشيشان. وعلى سبيل المثال، قوائم المنظمات الإرهابية لدى روسيا وجهاز الأمن لديها الـ"آف أس بي" تنوعت في ضمها لمنظمات إغاثة عربية (وتحديدا سعودية)، ومن ثمة ومع التقارب المصري عام 2014 أدرجت الإخوان المسلمين في تلك اللائحة بنوع من الإرضاء للتحول المصري السياسي. لكن حزب التحرير -مثلا- بقي في تلك القوائم بحكم نشاطه في دول آسيا الوسطى.
ومع بروز تنظيم ما يعرف بـ"الدولة الإسلامية"، باتت روسيا ترى فيه تهديدا متزايدا، وقد أدرج التنظيم على آخر قوائم الإرهاب الروسية، على الرغم من أن بوتين اعتبر التنظيم لا يشكل تهديدا مباشرا لدولته، لكنه حذر من وجود مواطنين من القوقاز وآسيا الوسطى يقاتلون في سوريا. لقد شكلت الأزمة السورية، في عامها الخامس، وفي ظل صراع مسلح، ووجود قويّ للتيارات الجهادية، واحدا من المفاصل الرئيسية للرؤية الروسية لما تصفه بـ”الإرهاب”، وذلك على مستويين: الأول هو تبني مقولات النظام السوري، واتهام الغرب، وحلفائه بدعم المجموعات المسلحة المعارضة على الأرض دون تمييز بينها، فيما عدا الإشارات الأخيرة إلى تنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية، وبالتالي تقديم روسيا باعتبارها نموذجا ناجحا، ومغايرا للنموذج الأميركي في مكافحة "الإرهاب"، حيث أن روسيا هي أكبر داعمي نظام بشار الأسد، وبالتالي فإن منظوري الطرفين لـ"الإرهاب" متشابهان، خاصة في سوريا.
بالنسبة إلى المقاتلين الشيشانيين شكلت سوريا أول جبهة خارج إقليم شمال القوقاز، على الرغم من الكثير من التقارير الإعلامية المغلوطة عن وجودهم في مناطق نزاعات مختلفة. وأيضا عكس التقارير الإعلامية، لم يرتبط كثيرون منهم بتنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية، بل لهم تنظيمهم الخاص الذي يعرف بـ"جيش المهاجرين والأنصار"، ويقدر عددهم ما بين 400 و700 مقاتل، ينقسمون إلى قسمين أساسيين: الأول من الطلبة الشيشانيين الذين كانوا يدرسون العربية والدين الإسلامي في الدول العربية. والثاني، شيشانيون قدموا من وادي بانكيسي، شمال شرقي جورجيا، وقسم قليل جاء من الشيشان التي تحكم بجهاز أمني قوي من قبل قاديروف. وعلى الرغم من أن إمارة القوقاز الإسلامية كانت قد تحفظت على ذهاب المقاتلين إلى سوريا، وحثّتهم على الانضمام لهم في شمال القوقاز، لكنها راجعت موقفها باعتبار افتقاد التنظيم للموارد، عكس المجموعات المسلحة في سوريا. لذا فإن مصدرا في شمال القوقاز، يفسّر ذهاب هؤلاء الشبان إلى سوريا، وليس شمال القوقاز بقوله "تبقى سنة معلّقا حتى يتمّ قبولك، وحين تقبل تبدأ بالتنقل بين الشقق فتستشهد قبل أن تصل الجبال، كما أنه لا توجد معسكرات تدريب كتلك التي في سوريا، ولا يوجد دعم كاف ليستوعب الجميع، لذلك سوريا أصبحت ميدان تدريب وتمّت الاستفادة منها، نشعر بالخجل من وجودنا في سوريا والقوقاز محتلة، ولكن الشبان يعودون بعد أن يتدربوا".
على العموم، اتسمت السياسة الروسية فيما يتعلق بمكافحة ما يوصف بـ"الإرهاب" بعدة خواص، أهمها: النظرة للموضوع من خلال الأزمة الشيشانية، والرؤية الجيوبوليتيكية لشمال القوقاز، وإعلاء البعد الأمني والعسكري في التعامل مع هذا الملف، والأهم أنها تشكل أداة في السياسة الخارجية، خاصة في ظل الاستقطاب الحاد مع الولايات المتحدة، في حقبة ما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001. وعلى الرغم من طرح بعض المحاولات بشأن التعامل الاقتصادي، الذي يشكل، جزءا أساسيا من "المظالم المحلية" في شمال القوقاز التي تفسر تصاعد نشاط المجموعات المسلحة، فإن الطروحات لم تكن واقعية، ولا جادة، والأهم أنه لم تقدم خطة شاملة تجيب عن التساؤلات الأساسية التي ترتبط بالحريات، والحقوق في المنطقة، لكن النموذج الأميركي، ارتبط بتجاوزات كثيرة، دفعت روسيا لأن تقدم نفسها باعتبارها نموذجا بديلا، وخاصة أن محاولات التقارب مع الدول ذات الغالبية المسلمة كانت تقدم روسيا باعتبارها إطارا لنموذجها. فعليا، قامت السياسة الروسية، على إعلاء البعد الأمني- العسكري، الذي وإن حقق نجاحا في فترات مختلفة منذ الحرب الشيشانية الثانية عام 1999، لكن من الواضح أن النشاط المسلح في شمال القوقاز لم ينته على الرغم من السنوات الكثيرة التي مرت على المنطقة. فتلك المجموعات قادرة على إنتاج أجيال جديدة من هؤلاء المقاتلين، مما يطرح تساؤلات عدة عن نجاعة تلك السياسات منذ منتصف التسعينات فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق